
معارك المتن الانتخابية 2026
تتجه الأنظار نحو دائرة المتن الشمالي التي يُتوقع أن تكون إحدى أكثر الدوائر سخونة في الانتخابات النيابية المقبلة عام 2026، إذ تشير المعطيات إلى أن المعركة هناك ستشهد تنافسًا حادًا بين أكثر من ثلاث لوائح على ثمانية مقاعد، ما يجعل المتن أشبه ببركان سياسي يقترب من الانفجار الانتخابي. فالمعركة لا تقتصر على الحسابات المذهبية أو الطائفية، بل تتجاوزها إلى صراعات نفوذ داخل البيت السياسي الواحد، وتصفية حسابات متراكمة بين القوى المسيحية الكبرى التي تعتبر المتن رئتها الحيوية ومختبر قوّتها على الساحة الوطنية.
في طليعة المشهد، يظهر حزب “الكتائب اللبنانية” الذي يستعدّ للمعركة بلائحة يقودها رئيس الحزب سامي الجميّل والنائب إلياس حنكش، في وقت تجري مفاوضات مكثفة مع حزب “الطاشناق” وسركيس سركيس لتوسيع القاعدة الانتخابية. “الكتائب” يسعى إلى تعزيز موقعه كقوة معارضة صلبة داخل البيئة المسيحية، ويعمل على استقطاب الأصوات الشبابية والسيادية التي تبحث عن بديل حزبي مختلف، خصوصًا في ظلّ التراجع الشعبي الذي أصاب القوى التقليدية بعد أزمة الدولة المستمرّة منذ سنوات. ومن الواضح أن الحزب يراهن على حالة السخط الشعبي تجاه الطبقة السياسية، ليقدّم نفسه كقوة تغييريّة من داخل النظام، لا من خارجه.
أما حزب “القوات اللبنانية”، فما زال يبلور لائحته النهائية، مع ثبات اسم سمير صليبا عن المقعد الأرثوذكسي، بينما لا يزال مصير ترشيح كلّ من ملحم رياشي ورازي الحاج غير محسوم بشكل نهائيّ. إلّا أن المؤشرات السياسية تُظهر أن حزب “القوات” يتحضر لمعركة قوية في المتن، ويضع المقعد الكاثوليكي في قلب استراتيجيته، في مواجهة مباشرة مع “التيار الوطني الحرّ”. المواجهة بين رياشي والعوني إدي معلوف يُتوقع أن تكون “ثأرية” بكل معنى الكلمة، إذ يسعى “التيار” إلى استعادة موقعه الذي تراجع في انتخابات 2022، فيما يسعى حزب “القوات” إلى تكريس تفوّقه المسيحي بعد تقدّمه الأخير في معظم الدوائر. هذه المعركة، بحسب المراقبين، ستكون مقياسًا حقيقيًا لشعبية الفريقين داخل الشارع المسيحي المتني، الذي لم يعد يصوّت وفق الولاء الحزبي الصرف بل وفق قناعات متبدّلة تُعبّر عن مزاج عام متململ.
“التيار الوطني الحرّ” من جهته، يدخل السباق بلائحة يقودها إدي معلوف عن المقعد الكاثوليكي، مع إمكانية التحالف مع آل المر عن المقعد الأرثوذكسي، إضافة إلى استمرار التنسيق مع حزب “الطاشناق” الذي يُعتبر شريكًا أساسيًا في معارك المتن منذ سنوات. “التيار”، بقيادة جبران باسيل، يخوض هذه الانتخابات في محاولة لإعادة ترميم نفوذه المتصدّع داخل المتن، بعد سلسلة انقسامات داخلية وتراجع في القاعدة الشعبية، ويبدو أن المعركة بالنسبة إليه تتجاوز البعد النيابيّ لتتحوّل إلى معركة بقاء سياسي وشخصيّ على الساحة المسيحية. فـ “التيار” يعتبر أن خسارة المتن مجددًا ستعني خسارة موقعه المركزي في الخريطة المسيحية، ولذلك يسعى إلى حشد كلّ طاقاته التنظيمية والإعلامية لاستعادة المبادرة الانتخابية في واحدة من أصعب معاركه المقبلة.
في المقابل، يبرز الثنائي إبراهيم كنعان والياس بو صعب كلائحة مستقلة نسبيًا، يحاول من خلالها الرجلان رسم مسافة جديدة عن قيادة “التيار الوطني الحر”، مع الحفاظ في الوقت نفسه على قاعدة عونية تقليدية. لكن العلاقة بين باسيل وكنعان وصلت إلى مستوى من التوتر العلني بعد تغريدة للعماد ميشال عون على منصة “إكس”، حيث نفى ما يروّج له البعض بأنهم على علاقة ودّية معه وليس مع “التيار” لكسب أصوات العونيين، مؤكّدًا أنه لا يمكن أن يمدّ الجسور لمن خان “التيار” ومبادئه. هذه الرسالة فُسّرت على أنها موجّهة مباشرة إلى كنعان وبو صعب، ما انعكس بوضوح على الشارع العوني الذي بدأ ينقسم بين الولاء للقيادة الرسمية وبين التعاطف مع الرموز التي خرجت من تحت عباءة باسيل. وبهذا المعنى، تتحوّل هذه اللائحة إلى عامل إرباك إضافي داخل الصف العوني، وإلى اختبار دقيق لمدى قدرة “التيار” على ضبط قواعده قبل الاستحقاق الانتخابي.
وفي زاوية أخرى من المشهد، تستعدّ لائحة خامسة تضمّ فؤاد أبو ناضر والزميل سيمون أبو فاضل لخوض المعركة بخطاب سياسي مختلف، يحاول أن يتجاوز الاصطفافات الحزبية التقليدية. هذه اللائحة تطرح نفسها كخيار ثالث أمام الناخب المتني الذي سئم الصراعات المتكرّرة بين “التيار” و “القوات”، وتسعى إلى استقطاب الفئات المستقلة والنخب الفكرية والمجتمع المدني. ورغم أن حظوظها في الفوز بمقاعد نيابية محدودة في ظلّ احتدام المنافسة بين القوى الكبرى، إلّا أن وجودها بحدّ ذاته سيؤثر في توزيع الأصوات وقد يفرض موازين جديدة في المعركة، خصوصًا إذا نجحت في اختراق المزاج الشعبي المتقلّب.
المعركة في المتن تتخذ بالتالي بُعدين متوازيين: الأول، مواجهة كاثوليكية رمزية بين إدي معلوف المدعوم من ميشال عون وجبران باسيل، وملحم رياشي ممثل “القوات اللبنانية”، وهي مواجهة بين خطّين سياسيين متناقضين داخل الساحة المسيحية، أحدهما يسعى إلى إعادة تثبيت الهيمنة العونية والآخر إلى تكريس الصدارة القواتية ومفاهيم السيادة الوطنية؛ أما البعد الثاني، فهو الصراع الداخلي داخل “التيار” نفسه بين باسيل من جهة وكنعان وبو صعب من جهة أخرى، وهو صراع يتجاوز البعد الانتخابي إلى معركة زعامة داخلية تتعلّق بمستقبل “التيار الوطني الحر” في مرحلة ما بعد ميشال عون، حيث تتقاطع الطموحات الشخصية مع التحدّيات التنظيمية في معركة كسر عظم مفتوحة.
المتن الشمالي اليوم ليس مجرّد دائرة انتخابية، بل مساحة اختبار لموازين القوى داخل البيت المسيحي بأسره. التحالفات لم تُحسم بعد، والمشهد السياسي لا يزال ضبابيًا، بينما تتحرك الأحزاب الكبرى بحذر شديد بحثًا عن تركيبات تضمن الحدّ الأدنى من التوازنات. فالمزاج الشعبي في المتن متقلّب، لا يعترف بولاءات مطلقة، ويتأرجح بين الحنين إلى الرموز التقليدية والرغبة في التغيير. وإذا كانت حرارة المعركة قد بدأت ترتفع باكرًا، فإن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في رسم اللوائح النهائية، وتحديد اتجاه الرياح السياسية.
المتابعون يجمعون على أن نتائج المتن لن تبقى محلية، بل ستنعكس على المشهد الوطني العام، خصوصًا على مستوى التوازنات المسيحية داخل البرلمان المقبل، وعلى طبيعة التحالفات التي ستنشأ بعد الانتخابات. ففوز “التيار الوطني الحر” سيُعيد له بعض التوازن بعد سلسلة خسارات متتالية، فيما سيُكرّس فوز “القوات اللبنانية”، خصوصًا في المقعد الكاثوليكي، تفوّقها سياسيًا كقوّة مسيحية أولى. أما في حال بروز اللوائح المستقلة كلاعب مؤثر، فسيكون ذلك مؤشرًا على بداية مرحلة سياسية جديدة في لبنان، عنوانها الأساسي انكفاء الأحزاب التقليدية وصعود المزاج التغييري.
المتن إذًا يغلي على نار الانتخابات المقبلة. التحالفات تتبدّل، الحسابات تُعاد صياغتها، والكلّ يدرك أن هذه الدائرة الصغيرة ستكون بارومترًا سياسيًا يختبر توازن القوى في لبنان 2026، وربما يحدّد معالم السلطة في السنوات التالية. فالانتخابات في المتن لم تعد مجرّد سباق إلى البرلمان، بل معركة وجود بين الماضي الذي يحاول البقاء والمستقبل الذي يحاول أن يُولد من رماد الانقسامات.
