“الطائف” والسلاح ومصير النظام: أية صفقة سترضي المسيحيين؟

“الطائف” والسلاح ومصير النظام: أية صفقة سترضي المسيحيين؟

الكاتب: منير الربيع | المصدر: المدن
17 تشرين الثاني 2025

لا يمكن الحديث عن اتفاق الطائف وتطبيقه، من دون الوقوف عند موقف القوى المسيحية على تنوعها واختلافاتها. ففي ظل التأكيدات المتوالية التي يعلنها المسؤولون، ولا سيما رئيس الحكومة نواف سلام، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وأمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، حول الالتزام بالطائف وتطبيقه. يجدر النظر إلى مواقف القوى المسيحية التي يعلن بعضها تأييد الطائف والالتزام به، في حين أنَّ البعض الآخر يعتبر أنه بحاجة إلى بعض التعديلات، في حين هناك اتجاهات أخرى ترفض هذا الاتفاق وتعتبره مجحفاً بحق المسيحيين، وهم يطالبون بتوسيع هامش اللامركزية إلى حدّ أبعد مما هو وارد بالطائف، وتضمينها مبدأ “اللامركزية المالية الموسعة”، إلى جانب دعوات موجودة تنشد اعتماد الفيدرالية. 

تم الوصول إلى الطائف بفعل موازين قوى داخلية وإقليمية، انخرطت فيه قوىً مسيحية أساسية، وكان على رأسها البطريرك الماروني نصرالله صفير، وكذلك القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع. لكن ميشال عون (وفيما بعد، التيار الوطني الحرّ) عارض الاتفاق وبقي معارضاً له. في السنوات الماضية، تنوعت مواقف الحزبين المسيحيين بين مناشدة تطبيق الطائف كاملاً، أو المطالبة بإدخال بعض التعديلات عليه لتحسينه، وبين موجات تعبير عن رفضه في ظل سلاح حزب الله، وصولاً إلى استخدام تعابير لا تظهر الانسجام مع القوى الأخرى في لبنان، من قبيل “ما بيشبهونا” و”لا يمكن أن تستمر الأمور هكذا”. 

جاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان لتعيد فرض وقائع عسكرية وسياسية جديدة، في حين تستمر الضغوط الخارجية من أجل إنهاء ملف سلاح حزب الله وسحبه، في مقابل تثبيت موازين القوى المتغيرة والجديدة وتطبيق الطائف. وهذا يعني الحصول على التزام من الحزب بتطبيق الاتفاق، وهو ما أعلنه قاسم أكثر من مرة، ويعمل على تحقيقه رئيس مجلس النواب نبيه بري، مع الإشارة إلى أن المطروح ليس تطبيق الطائف بصيغته التي طبقت أيام الوصاية السورية؛ بل تطبيقه كاملاً بحذافيره. 

يبقى ملف السلاح هو العنوان الأكبر للخلاف، والذي يظهر أيضاً على الساحة المسيحية، في ظل مقاربة واقعية لرئيس الجمهورية، تقوم على التفاهم والحوار وعدم الصدام، وترتكز على مبدأ احتواء السلاح. في مقابل موقف القوات اللبنانية الذي يبدو أكثر تشدداً وجذرية في الإشارة إلى ضرورة التحرك بقوة لسحب السلاح، وعدم الخوف من تداعيات أي خطوة سيقوم بها الجيش، وعلى قاعدة أن حزب الله ضعيف ويجب عدم الخوف من وقوع حرب أهلية. ولا يمرّ يوم لا يوجه فيه مسؤولو القوات انتقادات إلى الدولة اللبنانية والحكومة بتهمة التباطؤ في سحب السلاح. أما التيار الوطني الحرّ فموقفه يتماهى مع مسألة سحب السلاح، ولكن على قاعدة استفادة الدولة اللبنانية منه، لتحقيق مكتسبات على مستويات عديدة. 

يكاد الخلاف في وجهات النظر بين القوات اللبنانية ورئيس الجمهورية يظهر إلى العلن وينفجر، خصوصاً بعد الموقف الذي أطلقه رئيس الجمهورية متهماً فيه لبنانيين بـِ “بخ السم” في الولايات المتحدة الأميركية، والتحريض على الدولة اللبنانية من بوابة “السلاح”. ووفق المعطيات، فإن عون قصد “القوات” كما غيرها. 

في خطاب القسم التزم عون بحصرية السلاح بيد الدولة، وتطبيق الطائف كاملاً. فالسياق الدولي والإقليمي الذي دفع إلى انتخابه بني على هذين العنوانين ولتحقيقهما. وجاء ذلك بعد تنامي الدعوات إلى التقسيم أو الفدرلة، في ظل الانسداد السياسي الذي استمر لأشهر طويلة، بفعل التباعد بين القوات وقوىً مسيحية أخرى مع حزب الله، وبفعل قدرة حزب الله على تعطيل أي استحقاق لم ينسجم مع تطلعاته. 

يأتي كل هذا السجال على أبواب الانتخابات النيابية، وفي ظل تصعيد وتكثيف الضغوط على حزب الله لسحب سلاحه. وفي حين يعتبر البعض أنه لا بد من استخدام القوة لسحب السلاح، هناك أطراف أخرى تعتبر أن الحل هو بالتزام الجميع باتفاق الطائف. ذلك لا ينفصل عن كل التحولات التي تشهدها المنطقة، خصوصاً التغيير الاستراتيجي في سوريا، والذي يحظى برعاية دولية وإقليمية. وفي ظل هذه التحولات كلها، تأتي زيارة البابا لاوون إلى لبنان، في ظل التركيز الأميركي على مواصلة الضغوط لفرض “السلام” ولو بالقوة. 

البابا الحالي، هو البابا الرابع الذي يزور لبنان، فالزيارة الأولى كانت للبابا بولس السادس في العام 1964، والتي جاءت في إطار التشديد على حماية المسيحيين وتمسكهم في أراضيهم. كان ذلك بعد سنوات على “ثورة العام 1958” وما بعد حلف بغداد والانقسام اللبناني بشأنه. أما الزيارة الثانية فكانت لبابا يوحنا بولس الثاني، والتي أطلق فيها توصيفه للبنان بـِ “الرسالة” في ظل مسار “الأرض مقابل السلام” وفي سنوات الاستقرار اللبناني ما بعد الحرب، والذي نتج عن توازنات وتفاهمات إقليمية ودولية. أما الزيارة الثالثة لبابا بنيديكتوس الثالث عشر، فقد جاءت مع هبوب رياح الربيع العربي، وسلّم خلالها الإرشاد الرسولي، مشدداً على أهمية تمسك المسيحيين بأرضهم، وأن خياراتهم المثلى هي في الاندماج ضمن دولهم، وذلك لطمأنتهم من أي مشاريع تهجير، ولنصحهم بعدم الانخراط في أي مسار “انفصالي أو تقسيمي”. 

اليوم تأتي زيارة البابا لاوون في ظل تحولات كبرى تعيد رسم خرائط المنطقة ودولها وأدوارها، وعلى وقع انقسام عمودي حاد يعيشه لبنان بشأن “السلاح” وشكل الدولة ووجهتها. ولطالما كانت مواقف الفاتيكان ثابتة في دفع المسيحيين إلى الانخراط ضمن دولهم وعدم الخروج منها، وحالياً فإن الموقف سيتكرر، وهو ما تسعى قوى داخلية وجهات خارجية إلى تثميره بدفع اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم إلى الالتزام بالطائف، الذي يضمن حقوق الجميع وأدوارهم، ويحفظ مواقعهم انطلاقاً من قاعدة الحفاظ على المناصفة. 

في حال استمر الانقسام اللبناني، ولم يتمكن اللبنانيون من انتاج صيغة اتفاق شاملة، فإن جهات عديدة ستضاعف من دعواتها إلى وضع حد للصيغة اللبنانية القائمة، والمطالبة بتغيير جوهري في بنية النظام، وصولاً إلى الدعوات للتقسيم أو الفيدرالية. وهؤلاء سيستندون إلى متغيرات وتحولات على مستوى المنطقة وموازين القوى فيها. البعض منهم سيعتبر أن البابا، وهو أميركي في الأساس، وبالتزامن مع إدارة دونالد ترامب التي يتمتع المسيحيون بنفوذ وتأثير فيها يكاد يفوق “تأثير الجانب المسيحي على الرئيس جو بايدن، علماً أنه كاثوليكي”. وبعض هؤلاء سيستندون إلى موقف ترامب في “حماية المسيحيين في مالي”، وإلى تغريدة مساعد الرئيس الأميركي لشؤون مكافحة الإرهاب سيباستيان غوركا خلال وجوده في لبنان عندما قال: “الرئيس جوزاف عون هو الزعيم المسيحي للدولة اللبنانية متعددة الطوائف، وأنه يشغل موقعاً يمكنه من المساهمة لتحقيق رؤية ترامب للسلام في الشرق الأوسط في إطار اتفاقات أبراهام”. 

توصيف رئيس الجمهورية بالزعيم المسيحي للدولة اللبنانية، يفسّره البعض بأنه يحمل ضمنياً دعماً للرئيس وعبره للمسيحيين، وذلك في مواجهة أي ضغط سياسي أو تطويق قد يتعرضون له، لا سيما أن مواقف غوركا واضحة الخصومة مع “الإسلام”. فهؤلاء سيعتبرون أن مواقف إدارة ترامب وسياساته يجب أن تصب في خانة المسيحيين، وتعيد لهم صلاحياتهم التي خسروها بالطائف. ولكن في المقابل هناك آخرون من المسيحيين يشددون على أن الطائف يشكل ضمانة لهم، وأن الخيار الوحيد المتاح للحفاظ على توازن الدولة اللبنانية. هذا النوع من السجال أو الاختلاف في المقاربات، ستكون آثاره مرتبطة بأي تطورات تشهدها المنطقة ومن ضمنها الملف اللبناني المرتبط بإيجاد حلّ لمشكلة السلاح. خصوصاً أن انعدام الحلّ واستمرار الانقسام ستدفع الكثيرين إلى دعوات الانفصال أو التقسيم، على قاعدة أنه لا يمكن إقامة دولة مع حزب الله، في حين في المقابل سيندفع آخرون إلى التمسك بالطائف وإقناع الحزب بتبنيه في إطار السعي للحفاظ على الكيانية اللبنانية.