تفجير خلية الأزمة في دمشق: امرأة تخترق رجال الدولة

تفجير خلية الأزمة في دمشق: امرأة تخترق رجال الدولة

المصدر: المدن
17 تشرين الثاني 2025

في تموز/ يوليو 2012، كانت دمشق تحاول إقناع نفسها بأن الحرب ما زالت “هناك”، على الأطراف، في المدن الملتهبة التي تتلقى الضربات الأولى وتصدّر ارتجاجاتها البعيدة. لكن العاصمة في ذلك الصيف، لم تكن بعدُ المكان الهادئ الذي يحلم بالنجاة؛ فقد كانت مكتظة بالخوف، مثقلة بالجنود والحواجز، والضجيج الذي لم يعد يشبه مدينة اعتادت على الفجر الدمشقي المعتّق بالياسمين. ومع ذلك، ظلّ هناك إحساس غامض بأن المركز ما يزال صلباً، وأن “القلب الأمني” للنظام لا يُمسّ، مهما ارتفعت نيران الأطراف.

الانفجار

وفي ظهر يوم 18 تموز/ يوليو، انهار ذلك الوهم مع القنبلة التي دوّت داخل مبنى الأمن القومي في حي الروضة، في اللحظة التي اجتمع فيها كبار ضباط الدولة داخل واحدة من أكثر الغرف سرية وتأثيراً في دمشق.

لم يكن التفجير استهدافاً لحاجز أو ثكنة؛ بل أصاب الاجتماع الذي صيغت فيه، على مدى عام ونصف، لغات القمع وخرائط العمليات.

دخل الانفجار إلى النقطة التي نظّمت الحرب، وقلب الطاولة فوق رؤوس لاعبين كانوا يعتقدون أنهم فوق مستوى الاستهداف. منذ ذلك اليوم، لم تعد دمشق كما كانت، ولم يعد النظام هو نفسه، مهما بدا من الخارج أكثر شراسة أو أكثر تماسكاً.

خلية الأزمة 

منذ بدايات آذار/ مارس 2011، ومع اتساع رقعة الاحتجاجات، أنشأ النظام ما عُرف بـِ “خلية إدارة الأزمة”. الاسم يوحي بالبيروقراطية، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً: لم تكن خلية تفاوض أو إدارة سياسية؛ بل غرفة عمليات أمنية صرفة، تُرفع إليها تقارير الأجهزة كافة، وتُناقش فيها خيارات الرد، ويُقرَّر من “يُعاقَب” ومن “يُزال”، ومن يُرسل إلى مدن الاحتقان.

كان أعضاء الخلية يمثّلون العصب الأمني للنظام: وزير الدفاع داوود راجحة، نائبه وصهر الرئيس آصف شوكت، المعاون العسكري للرئيس حسن تركماني، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام اختيار، إلى جانب آخرين من الأجهزة يشاركون عند الحاجة.

هذا لم يكن اجتماعاً عادياً؛ بل مكاناً تُنسَّق فيه عمليات المدن، ويُصاغ فيه خطاب الدولة الأمني، وتُدار منه الحرب المبكرة التي لم يكن النظام يتخيّل أن تتوسع بهذا الشكل.

وجود هذه الأسماء الأربعة في غرفة واحدة كان كافياً ليؤكد أن ما جرى يومها لم يكن تفجيراً فقط؛ بل اختراقاً في أكثر الأماكن تحصيناً.

الانفجار

ما إن دوّى الانفجار حتى انعقدت دمشق على صمت ثقيل. لم يُفتح باب، ولم تُعلن السلطة حقيقة واضحة. البيان الرسمي الأول تحدّث عن “انتحاري”، ثم أتت رواية ثانية عن “حقيبة مفخخة”، وبعدها رواية ثالثة عن “اختراق أمني”. وبين هذه وتلك، ظلّ المشهد مموّهاً، أقرب إلى محاولة لشراء الوقت أكثر من كونه كشفاً للحقيقة.

لم يكن النظام متأكداً مما حدث، أو لعلّه عرف ما لا يريد قوله. في كل الأحوال، غابت الرواية الحاسمة، وبقيت دمشق تُعيد تشكيل القصة وفق الحاجة، كما لو أنها تخيط قماشة مهترئة على عجالة.

في المقابل، تسابقت تشكيلات في المعارضة المسلحة إلى تبنّي العملية؛ بعضها قال إن اختراقاً داخلياً قد وقع، وأن عناصر من الحرس المسؤول عن حماية المبنى سهّلوا دخول العبوة، في حين تحدّث آخرون عن زرع متفجرات داخل السقف المستعار للقاعة.

وبعد سنوات، ظهرت روايات أخرى تقول إن المنفذين جُنّدوا من داخل المؤسسة الأمنية نفسها. هذه التفاصيل لا يمكن التحقق منها بسهولة، لكنها تعكس شيئاً مهماً: أن الجميع رأى في التفجير فرصة ليقول إنه اخترق قلب النظام.

أما دمشق، فكانت تدرك أن الرواية الرسمية، كيفما صيغت، لن تكون مقنعة بالكامل. اللوحة كانت أعقد من ذلك.

ووفقاً لمصادر الـ “المدن”، فقد توصلت التحقيقات إلى معلومات تتحدث عن لقاء سري كان يقوده آصف شوكت ويخطط لانقلاب أبيض على بشار الأسد، لكن تسريب هذه المعلومات دفع الأخير إلى التخلص من خصومه، وعلى وجه التحديد صهره.

ووفق المصدر، فإن امرأة مقربة من هشام اختيار طلبت منه توظيف ابنها في المبنى، وهو ما حدث بالفعل، ليقوم تدريجياً بزرع المتفجرات في سقف قاعات الاجتماعات وتحت الطاولة. ويوم التفجير، غادر المكان قبل أن يدوي صوت الانفجار، في حين كانت هي تراقب من بعيد، كما لو أنها تتابع رجل النظام الأول.

سقوط الأسماء الثقيلة

خلال ساعات، أعلنت وسائل الإعلام الحكومية مقتل داوود راجحة وآصف شوكت وحسن تركماني، وإصابة هشام اختيار الذي توفي لاحقاً. كانت الأسماء وحدها كافية لفهم حجم الضربة؛ ليس لأن الضباط الأربعة أقوياء فحسب؛ بل لأنهم مثّلوا شخصيات مفصلية داخل البنية التي تعتمد عليها السلطة في إدارة الحرب.

فقدان هؤلاء في لحظة واحدة بدا أشبه بحذف طبقة كاملة من الشبكة الأمنية. لكن الأعمق من ذلك كان ما لم يُعلن: كيف تلقّى باقي الضباط الرسالة؟ وكيف بدأ الشك يتسرّب داخل الحلقة؟ من شارك؟ من عرف؟ من سهّل؟

أسئلة جعلت الأجهزة تنظر إلى نفسها، لا إلى العدو الخارجي. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد النظام يرى الخطر في الخارج فقط؛ بل صار الخطر “محتمَلاً” من الداخل أيضاً.

تصفية داخلية

بين عامي 2012 و2025، ظلّت هذه الفرضية تتأرجح: هل كان التفجير عملية نفّذتها المعارضة؟ أم نتيجة صراع داخل الأجنحة؟ أم خليطاً من الاثنين؟

الذين يعرفون طبيعة الأنظمة الأمنية يدركون أن هذا السؤال مشروع؛ فأصحاب القرار لا يعترفون بانقساماتهم علناً، لكن الحرب السورية أفرزت تضارباً هائلاً في المصالح بين الأجهزة، وبين الضباط، وبين التحالفات العائلية، وحتى بين المحاور الإقليمية المتداخلة في دمشق.

هناك من يعتقد أن آصف شوكت كان عبئاً على أطراف في السلطة، وأن التخلص منه كان خياراً “مفيداً”. وهناك من يرى أن النظام كله كان في تلك المرحلة على حافة التآكل. لا أدلة على ذلك ولا وثائق، لكن وجود هذه الفرضية يعكس هشاشة تلك اللحظة.

المؤكد أن التفجير لم يكن “عملية نظيفة” حتى لمن نفّذه؛ فقد كان حدثاً مفتوحاً، قرأه كل طرف بما يناسبه، في حين قرأه النظام باعتباره خرقاً يجب تغطيته سريعاً.

كان واضحاً أن السلطة تريد أن تخرج بصورتها قوية؛ فجرى تعيين وزير دفاع جديد خلال أقل من يوم، وظهر الأسد في مشاهد شديدة الرسمية ليؤكد أن الدولة لم تهتز، في حين استخدم الإعلام الرسمي لغة عالية النبرة أقرب إلى إعلان التحدي.

لكن تحت هذا السطح، تغيّر النظام: توسّعت رقابة الأجهزة على بعضها بعضاً، لا على المجتمع فقط. أُعيد توزيع الملفات الأمنية، وظهر اعتماد أكبر على الدوائر الضيقة و”الثقة العائلية”. كما انفتحت أبواب دمشق أمام الحليفين الإيراني والروسي على نحو أوسع، بعد أن أدرك النظام أنه فقد جزءاً من صلابته الداخلية.

التفجير لم يُسقط النظام، لكنه دفعه إلى التحوّل من “إدارة الدولة” إلى “إدارة البقاء”.

دمشق بعد التفجير

بعد 18 تموز/ يوليو، تغيّرت العاصمة. ازدادت الحواجز، وتضاعفت نقاط التفتيش داخل أحياء لم تكن تعرف الأمن بهذا الشكل. المعارك التي كانت تشتعل على الأطراف امتدت إلى أحياء قريبة من المركز، وإلى الريف الذي يشبه شوكة في عنق العاصمة.

الأهم أن شعوراً جديداً، مكتوماً لكنه حاضر، بدأ يتسرّب: “النظام نفسه صار خائفاً”. والخوف يغيّر المدن، يحوّلها من مساحات إلى متاريس. حين ننظر إلى ذلك اليوم بعد أكثر من عقد، نرى أن التفجير تحوّل من حادثة أمنية إلى علامة سياسية، خبرة إضافية لفهم النظام: إنها اللحظة التي اكتشف فيها أنه ليس محصناً، وأن الاشتباه يجب أن يشمل الجميع.

إنها اللحظة التي بدأ فيها يتحوّل إلى بنية تعتمد على التدخل الخارجي أكثر من اعتمادها على نفسها. إنها اللحظة التي صار فيها القصر نفسه ساحة صراع محتمل، لا مجرد مركز توازن.

يمكن القول إن النظام لم يسقط، لكن جزءاً من صورته سقط؛ الصورة التي تقول: “نحن نعرف كل شيء، ونحن نسيطر على كل شيء”.

تلك الصورة لم تعد قابلة للتصديق. لم يُفتح تحقيق حقيقي، ولم تُنشر رواية كاملة. لم يعرف السوريون ماذا حدث في تلك الغرفة التي هزّتها قنبلة لم يتوقعها أحد. كل ما عرفوه أنّ البلاد دخلت بعدها مساراً أكثر قسوة، وأن النظام أصبح أكثر انغلاقاً، وأكثر استعانة بالحلفاء، وأكثر حساسية تجاه أي اهتزاز داخلي.

في الواقع، يمكن القول إن تفجير “خلية الأزمة” لا يزال مستمراً بأثر رجعي؛ فقد زعزع النظام من الداخل، وغيّر شكل علاقاته، وفتح باباً على شكٍّ لم يُغلق أبداً. ربما لم يسقط النظام في ذلك اليوم، لكنه فقد شيئاً أهم: فقد ثقته الكاملة بنفسه.