«الحزب» يتصدّى: «ترسانة» المال أيضاً مقدّسة

«الحزب» يتصدّى: «ترسانة» المال أيضاً مقدّسة

الكاتب: طوني عيسى | المصدر: الجمهورية
18 تشرين الثاني 2025

خلال عام مضى، نام الأميركيون على حرير. ظنوا أنّهم حاصروا «حزب الله» بمقدار كافٍ لدفعه إلى الاستسلام. ظنوا أنّ الإسرائيليين يتكفلون بسلاحه والمقاتلين والكوادر، والدولة اللبنانية تتكفل بتجفيف مصادر تمويله. ولكن، جاءت الأرقام لتشكّل لهم صدمة مدوية. فـ«الحزب» حصّل مليار دولار خلال بضعة أشهر، متحدّياً إجراءات الحصار المالي والعقوبات. واليوم، بعدما بادر الأميركيون إلى التصعيد، بات «الحزب» أمام المواجهة الأعنف: «ترسانة المال» التي هي «أعزّ علينا من ترسانة السلاح، فلا تجربونا»!

تماماً، كما أنّه مدرَّب على التسلّل عسكرياً خلال المعارك، تسلّل «الحزب» ببراعة في قلب «اقتصاد الكاش» السائد في لبنان منذ انهيار النظام المصرفي في العام 2019. واستخدم لهذه الغاية مجموعة من الشبكات المعقّدة، مستغلاً ضعف الرقابة أو ربما تعاون بعض الدول.

وهذا الاختراق الكبير للشبكة المالية، هو ما يدفع واشنطن حالياً إلى تصعيد الضغط على السلطات اللبنانية. فبناءً على طلبها، بات مصرف لبنان يطالب الصرافين بتعبئة استمارات لتبادل مبلغ صغير (1000 دولار). وكذلك، قامت واشنطن ​بتجنيد الدولة اللبنانية في حرب مكافحة التمويل، تحت طائلة إدراجها في اللائحة الرمادية. وهذا الأمر قابله «الحزب» بتصعيد نوعي، فأبلغ إلى الجميع أنّ كل محاولة للمسّ بـ«القرض الحسن» أو عرقلة شبكاته المالية الأخرى سيدافع عنها حتى الرمق الأخير، تماماً كما يدافع عن السلاح.

بهذا التحول انتقل «الحزب» بالتهديد من السلطة السياسية والجيش (في شأن نزع السلاح) إلى مصرف لبنان والسلطة المالية والاقتصادية (في شأن قطع الإمدادات المالية)، وانضمت طهران نفسها إلى المعركة عبر إعلامها، مطلقة موقفاً حاداً ضدّ حاكم مصرف لبنان، متّهمة إياه بتنفيذ أوامر الأميركيين وتحويل كل صرّاف إلى عميل استخبارات.

وبذلك، ​تحولت المواجهة من معركة سياسية وأمنية إلى حرب اقتصادية مفتوحة تدور رحاها في كواليس أسواق الصرافة، ومكاتب «القرض الحسن» وأروقة مصرف لبنان ووزارة المال، علماً أنّ حركة «أمل» تتولاها. وربما يهدف التصعيد الأميركي ضدّ رئيسها نبيه بري إلى تأمين مواكبة الوزارة لقرارات المصرف المركزي.

في هذه الأجواء، سيخوض «حزب الله» معركته «انتحارياً»، بالمال كما بالسلاح، لأنّها فعلاً معركة مصير. وسيجهد للحفاظ على خرائط الطرق السرّية. وبصفته كياناً غير رسمي يمتلك بنية تحتية مالية وعسكرية معقّدة، وقدرة فائقة على التكيّف مع الضغوط، فإنّه قادر على اعتماد استراتيجية مزدوجة للحفاظ على تدفقات المال والسلاح:

ـ ​أولاً، في جبهة المال، سيعمل على استمرار التكيّف مع «اقتصاد الكاش» والاعتماد على السيولة النقدية في شكل أساسي، إذ يتمّ تقسيم المبالغ الكبيرة ونقلها عبر شبكات فردية عبر الحدود البرية والجوية مع دول متعاونة أو ذات رقابة ضعيفة، لتفادي كشف التحويلات بمبالغ ضخمة. وكذلك، سيتمّ التركيز على ​الذهب كبديل من العملة، إذ يمكن شحنه وتذويبه وإعادة صياغته بسهولة أكبر من تحويل العملات عبر النظام المصرفي. وهو يوفر غطاءً فعّالاً ضدّ التضخم وتقلبات أسعار العملات. وكذلك، ​سيستخدم «الحزب» شبكة الصرافين المرتبطة به، والتي تعمل خارج الإطار الرقابي لمصرف لبنان، لتنفيذ عمليات «الحوالة» وتحويل الأموال من لبنان وإليه.

وأما العملات الرقمية والأصول المشفرة، مثل البيتكوين، فسيتمّ الحفاظ عليها للتسييل بسرعة وبأكلاف منخفضة نسبياً، مع صعوبة تتبع مصدر الأموال. وانطلاقاً منها، يسهل اعتماد ​التمويل الجماعي المشفّر لجمع التبرعات من المتعاطفين عالمياً، ما يجعل تحديد هوية المتبرعين صعباً. ولكن، في الخضم، يبقى «القرض الحسن» هو البنك المركزي الموازي. ​وسيتمّ تشديد الدفاع عنه وحمايته من أي محاولة إغلاق أو تجميد للأصول، لكي يستمر كنظام مالي داخلي يخدم بيئته المباشرة، ويتقبل التبرعات ويوزع القروض بعيداً من أعين الرقابة. ومن أقنية التمويل أيضاً، ​ضخ الأموال في الأصول غير السائلة التي يصعب تجميدها بسرعة، مثل العقارات والأعمال التجارية الصغيرة والمتوسطة التي يتمّ تداولها نقداً، كالمطاعم وتجارة السلع وسوى ذلك.

ـ ​ثانياً، في جبهة السلاح والإمدادات: يتوخّى «الحزب» هنا استمرار ​الترانزيت عبر سوريا على رغم من الصعوبات المتزايدة. وكذلك، ​استخدام الشحن البحري «المقنّع» عبر شركات واجهة أو سفن تجارية صغيرة غير مشبوهة، تنقل قطعاً مفككة أو مواد أولية يمكن تجميعها وتصنيعها محلياً، أي التركيز على نقل التكنولوجيا والمكونات الأساسية بدلاً من الأسلحة الجاهزة. وهذا يتيح لـ»الحزب» تجميع بعض الذخائر والصواريخ قصيرة المدى محلياً (مثل الطائرات المسيّرة أو أجزاء الصواريخ) أو تصنيعها، ما يقلّل الاعتماد على الإمدادات المستمرة من الخارج ويصعّب عملية الكشف والتدمير. وكذلك، المضي في تخزين الأسلحة والمعدات في منشآت تحت الأرض أو فوقها، لتجنّب أي ضربات محتملة وضمان توافر مخزون استراتيجي طويل الأمد، حتى لو تمّ تجفيف الإمدادات موقتاً.

فوق ذلك، ​سيمضي «الحزب» في استثمار نفوذه داخل الأجهزة الأمنية والإدارية اللبنانية، لضمان عدم تسرّب المعلومات عن شحنات السلاح أو مسارات الأموال إلى الأطراف المعادية. وهو لن يتوانى عن التهديد المباشر لكل من يحاول قطع إمداداته، أي المؤسسات المالية والعسكرية والأمنية والإدارية.

ويعتقد خبراء أنّ «الحزب»، بدلاً من اعتماده على قناة تمويل أو إمداد واحدة يمكن قطعها، سينشئ شبكة متوازية من الطرق المالية واللوجستية، يدمج فيها الكاش والذهب والعملات المشفرة، ويستخدم الكيانات الموازية كـ»القرض الحسن»، ويدعم ذلك بمسارات لوجستية عبر المنافذ البحرية والبرية والجوية، التي ما زال قادراً على توفيرها. فهذا الدمج بين الإمداد الإقليمي والتصنيع المحلي والتمويل غير المصرفي، هو ما يجعل «الحزب» قادراً على الصمود أمام «جدار الحصار» المالي والأمني.

وفي تقدير الخبراء، ستتيح هذه الاستراتيجية لـ»الحزب» أن يحافظ على قدراته لفترات طويلة مقبلة. لكنها ستتعرّض لضربة قاسية إذا وقع الانفجار الكبير، بمعانيه العسكرية والأمنية والسياسية والمالية. ففي هذه الحال، سيكون صعباً تقدير العواقب لا على «الحزب» وحده، بل على الدولة كلها وتركيبة البلد السياسية والطائفية والمذهبية.