
الشيخ عباس يزبك…. هذه حكايتي من “الولاية” إلى الوطن
في 26 أيلول 2025، وبينما كان الشيخ عباس يزبك مغادرًا الأراضي اللبنانية متوجهًا إلى فرنسا برفقة زوجته في رحلة عائلية، تم منعه من السفر من قبل الأمن العام وصودرت أوراقه الثبوتية وهاتفه، ليُطلب منه بطريقة غير لائقة مراجعة الدائرة الأمنية. ورغم تسلمه أغراضه بعد أربعة أيام وإقفال الملف، إلا أن ما حصل أظهر أن سياسة الضغط والترهيب والتخوين ما زالت تمارس على المعارضين اللبنانيين الشيعة المناهضين لمشروع تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية من قبل أجهزة ما زالت تتأثر بهيمنة وتدخلات جماعة الولاية في لبنان المتمثلة بـ “حزب الله”، رغم كل الآمال على عهد العماد جوزاف عون وحكومة الرئيس نواف سلام، باحترام الحريات وحماية المواطنين، فمن هو الشيخ عباس يزبك، وما هي سيرته ومواقفه؟
الطفولة القاسية
من بلدة نحلة في قضاء بعلبك، حيث التاريخ العابق والمتجسد بالآثار الفنيقية والرومانية والمسيحية والإسلامية، ولد الشيخ عباس يزبك عام 1967 من عائلة معروفة على صعيد المنطقة بالعمل السياسي والاجتماعي، فوالده من فاعليات المنطقة ومن المهتمين بواقعها السياسي. توفي الوالد ولعباس من العمر سنتان وعانى ما عاناه من عذابات اليتم وصعابه، فكبر في كنف والدة زرعت فيه روح الخير والحق ومواجهة الصعاب والظلم بصبر وبصيرة. رغم مشاكل الحياة وظروفها الحياتية أكمل تعليمه، وفي عام 1982 انخرط شأنه شأن الكثير من أبناء المنطقة في التيار الذي كان يصعد هناك آنذاك لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي وغطرسة الغرب والاتحاد السوفياتي ونصرة المستضعفين، وآمن بالشعارات التي رفعت آنذاك لإحقاق الحق والعدل ومواجهة طواغيت العالم، والتي امتلكت قلوب وعقول الشباب، فكان مع انطلاقة ما عرف آنذاك بأمّة “حزب الله” (الثورة الإسلامية في لبنان) ومقاومتها الإسلامية. في تلك المرحلة كان العمل تطوعيًا، ورغم انخراطه في العمل الحزبي والمقاوم ومختلف النشاطات الثقافية والاجتماعية والدينية والميدانية، استمر في دراسته.
الانخراط في نهج الولاية
كان من عداد النواة الأولى التي أسست تلفزيون “حزب الله” الأول في البقاع، تلفزيون “الفجر”، كما انخرط في الحوزة الدينية في بعلبك عام 1987، وخرج منها شيخًا معممًا. بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990 تابع تحصيله الجامعي وحصل على دبلوم في الفلسفة من الجامعة اللبنانية عام 1998، ولاحقًا ماجستر في العلوم الإسلامية من كلية الدراسات الإسلامية في جامعة المقاصد. تولى في التسعينات إدارة الأخبار والبرامج السياسية في تلفزيون “الفجر” حتى عام 1996 تاريخ إقفاله وبقاء قناة “المنار” التلفزيون الرسمي لـ “حزب الله”.
شهدت هذه المرحلة تحولات كبيرة في “حزب الله”، بحسب الشيخ يزبك، فقد تم وضع قانون خلال الثمانينات للأمانة العامة يقوم على انتخاب الأمين العام من قبل هيئة ناخبة وتسمح للأمين العام بدورتين كحد أقصى ومدة الدورة سنتان، ولكن عقب اغتيال السيد عباس الموسوي عام 1992 بغارة إسرائيلية، تسلم السيد حسن نصرالله منصب الأمانة بقرار إيراني ومباركة المرشد الأعلى الولي الفقيه السيد علي خامنئي. أمضى نصرالله دورتيه ثم ألغى القانون وألغى معه مظاهر الانتخاب في “حزب الله”، بغطاء من الولي الفقيه وأضحى أمين عام “حزب الله” الوكيل الشرعي للولي الفقيه الذي هو نائب المهدي بما هو ثابت في عقيدة ولاية الفقيه.
هذه التحولات داخل “الحزب”، بالإضافة إلى إرساء ثقافة التبعية العمياء تحت غطاء فقهي عنوانه التكليف الشرعي، غيّب كامل الحياة السياسية داخل جماعة “حزب الله”، ومن اعترض على ذلك تعرّض لكل أنواع الإقصاء والقمع والقهر والحرمان، فتحول من كان “مقاومة” إلى حالة طائفية ظلامية تقتات من الفساد والإفساد، ولكن بغطاء وشعارات دينية تغذيها الحالة المذهبية والطائفية، فتحوّلت قضايا، كـ “المهدوية”، و”اغتصاب الخلافة”، و”كسر ضلع السيدة الزهراء” ومثيلاتها أساس الثقافة الداخلية لـ “حزب الله”، وتحول المشروع إلى أداة طائفية.
يعتبر الشيخ يزبك أن هذه الأمور وترافقها مع سياسة الزبائنية، وتقريب وترفيع من يبدي الطاعة العمياء وإبعاد من ينصح، ساهمت في إطلاق “ثورة الجياع” عام 1997 التي أدت إلى خروج جزء كبير من الرعيل المؤسس لـ “الحزب” خاصة في منطقة البقاع.
المواجهة مع “حزب الله”
رفض الشيح يزبك التبعية العمياء للنظام الإيراني وسياسة الفساد والإفساد، والسياسة التي كانت معتمدة على صعيد “الحزب” وقيادته ومسؤوليه من شراء الذمم والمساهمة المقصودة في حرمان واستغلال حاجة أبناء منطقة بعلبك وظروفهم، فتعرض مع غيره من المنتفضين لأشرس حملات القمع والتنكيل والتجويع من قبل “حزب الله” والنظام الأسدي اللذين كانا يستخدمان أجهزة الدولة اللبنانية في تلك الممارسات الإخضاعية على حساب المواطن والوطن وكرامة أهله.
ورغم الأوضاع التي يغلب عليها القمع والترهيب والتخوين، خاض الشيخ عباس يزبك انتخابات عام 2000 مترئسًا لائحة “قرار البقاع” بدعم من الشيخ صبحي الطفيلي، بمواجة لائحة “حزب الله” وحركة “أمل”. ورغم القمع والتزوير والترهيب جاءت النتائج متقاربة.
قادت هذه التجارب الشيخ عباس يزبك إلى مراجعة تلك المفاهيم الدينية والفكرية والسياسية التي تأثر بها، وتعمّق في فهمها وصولًا إلى تظهير مراميها وآثارها الخطيرة على الإنسان والأوطان وبطلانها ومخاطرها وتعارضها مع المنابع الإسلامية والإنسانية الفطرية السليمة.
رغم الواقع السلطوي المهيمن في المنطقة في ظل الاحتلال الأسدي وهيمنة مشروع تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية المتمثل بجماعة “حزب الله”، التزم الشيخ عباس يزبك إمام مسجد بلدته نحلة خطابًا تنويريًا معتدلًا مستقلًا، ملتزمًا القضايا العادلة وحقوق الناس والمجتمع ورفع الظلم، ورفض ممارسات “حزب الله” باستخدام الدين أداة للتفرقة والجهل وتغطية الفساد، كما حاول من خلال ممارسته مهنة تعليم مادة الفلسفة تجسيد المفاهيم الوطنية والإنسانية في عقول ونفوس تلامذته.
الخيار الوطني اللبناني
مع خروج القوات الأسدية من لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وانبلاج ثورة 14 آذار، التزم الشيخ يزبك الخيار الوطني اللبناني وحق الشعب اللبناني في الحرية وبسط الدولة سيطرتها وسيادتها على كامل أراضيها حيث يعيش ابناؤها سواسية تحت سقف القانون والعدالة. فكان صوتًا صارخًا وحرًا بوجه مشروع تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية وولاية الفقيه وأبواقه، وكان دائم التأكيد في لقاءاته الإعلامية على تحرير لبنان والطائفة الشيعية من سطوة وسلطة الولي الفقيه ونهج الولاية.
رفض الشيخ يزبك تدخل “حزب الله” في سوريا دعمًا للنظام الأسدي، وأبدى كل تعاطف وتأييد لمطالب الشعب السوري بالحرية والعدالة، وشجب إرسال الألوف من شباب لبنان الشيعة لتقديمهم قرابين للنظام الأسدي في المذبح السوري، ما زاد من وتيرة المضايقات والتهديدات له وللمحيطين به.
أيّد الشيخ عباس يزبك ثورة 17 تشرين 2019، وشارك فيها ونادى بمطالب الإصلاح والشفافية والسيادة، ورفض كل أشكال القمع والترهيب والتخوين التي مارستها قوى السلطة ولا سيما جماعة مشروع ولاية الفقيه لإنهاء هذه الثورة.
يزبك: الأصوات الشيعية المعارضة تمثل مصلحة الأغلبية الشيعية الصامتة
يعتبر الشيخ عباس يزبك أن الالتزام بالكيان اللبناني وبالدستور والدولة اللبنانية، هو واجب على كل لبناني شيعي من باب مصلحة الوطن والمجموعة اللبنانية الشيعية، وهو ما نادت به كل القيادات والفقهاء الشيعة من السيد موسى الصدر إلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى السيد محمد حسين فضل الله والسيد محمد حسن الأمين والسيد هاني فحص والمفتي السيد علي الأمين الذين أكدوا أولوية الانتماء الوطني اللبناني وتماهيه مع محيطه العربي وانفتاحه على العالم، بما يمتلك لبنان من رسالة للتعايش والتعددية الدينية والثقافية والاجتماعية بين مكوناته في ظل الحريات التي يكفلها الدستور والقانون.
يؤكد الشيخ يزبك “أن قيامة لبنان اليوم مرهونة بإرادة أبنائه ومصلحة الشيعة أن يكونوا في قلب لبنان إلى جانب إخوتهم من كل الطوائف والتسليم بمبدأ الدولة وسيادتها على أراضيها ومقدراتها”. ويضيف: “إن إصرار البعض لمصالح شخصية وفئوية على ربط الشيعة بمشروع ولاية الفقيه الذي بات مشروعًا متقهقرًا، لن يؤدي إلا إلى إضاعة الفرص على الشيعة واللبنانيين عمومًا. والحجج المساقة في هذا الخيار، ليست سوى أوهام تبددها عودة الجميع إلى الوطن للعيش بعزة وكرامة”. ويشدد على أن “المواقف والأصوات الشيعية المعارضة اليوم وعلى قلة حيلتها، تمثل مصلحة الأغلبية الشيعية الصامتة نتيجة سياسات الترهيب والقهر والحرمان والتيئيس التي مورست على الطائفة الشيعية منذ خمسة عقود، على يد النظام الأسدي البائد ولاحقًا نظام الملالي وجماعتهم في لبنان الذين سيطروا على السلطة وتحكموا برقاب العباد والبلاد، وتم ربط قسم من الشيعة اللبنانيين عضويًا بولاية الفقيه، إلى جانب التحكم والسيطرة على كثير من مؤسسات الدولة السياسية والأمنية والقضائية حتى الأمس القريب” ويردف: “إن صدقية وإيمان الاعتراض الشيعي اللبناني هو المدخل لإعادة الشيعة إلى موقعهم الوطني. ولكن إذا لم يترافق ذلك مع إرادة وطنية قوية لملاقاة هذا الجهد سيجعل من أصحاب تلك المواقف وهذا الجهد، عرضة للاضطهاد والتنكيل والتهميش كما كان يحصل على مدى العقود الماضية”، وقال يزبك: “إن خلاص لبنان اليوم مرهون بقوة الوطنيين اللبنانيين وقدرتهم على تخليص لبنان من شرور بعض أبنائه لأجل كل أبنائه والاستفادة من شرعية الدولة ومؤسساتها والحاضنة العربية والشرعية الدولية”.
الشيخ عباس يزبك الحائز على غار لقمان سليم في الذكرى الثانية لاغتياله في 3 شباط 2023، لا يعتبر أن ما حصل معه في مطار بيروت من مصادرة جواز سفره واستدعائه للتحقيق أمر مفاجئ، فالمعارضون المناوئون لـ “الثنائي” عرضة لكل أشكال الترهيب والتخويف والقمع والاضطهاد وصولًا إلى الاغتيال الجسدي. ودعا العهد الجديد بما يمثله من رئاسة جمهورية وحكومة مواجهة مشروع تصدير الثورة الإسلامية ووقف تلزيم الدولة المناطق الشيعية لـ “الثنائي”، مؤكدًا أنه مهما بلغت الضغوط والترهيب وسياسات التخوين، فإن صوت الحق لن يصمت وشعلة الحرية والأمل لن تنطفئ، وأن باب الخلاص للبنان يبدأ بوقف هيمنة وتدخلات دولة الولاية في أجهزة ومؤسسات الدولة، وهو مطلوب من الدولة اليوم وليس غدًا.
