اصحاب المصارف المأزومة: أرباح تكبر ورساميل تتضخّم

اصحاب المصارف المأزومة: أرباح تكبر ورساميل تتضخّم

الكاتب: علي نور الدين | المصدر: المدن
19 تشرين الثاني 2025

من البديهيّات، في آليّات عمل اقتصاد السوق والمؤسّسات الرأسماليّة، أن تنطبق خلال الأزمات تراتبيّة معيّنة للحقوق والمطالب، بما يفرض تحمّل أصحاب الشركات أولى شرائح الخسائر، قبل أن تُحمَّل إلى أيّ فئة أخرى من الدائنين. بهذا المعنى، إذا كان هناك من فجوات أو عجوزات في ميزانيّة أي مؤسّسة، من المتوقّع أن تُمتَص عبر تخفيضها من “الأموال الخاصّة”؛ أي حقوق المالكين في المؤسّسة. 

في حالة المصارف والمؤسّسات الماليّة، لا يُنتظر أن يبدأ المودع مثلاً بتحمّل خسائر معيّنة، قبل استنفاد قدرة المساهمين على تحمّل الخسائر، عبر شطب حصصهم في المصرف، ثم ضخ سيولة جديدة عبر استقدام مساهمين جُدد أو إعادة تكوين حصص المساهمين الحاليين.

الاستثناء اللبناني

ثمّة استثناء فاقع وغريب في حالة الأزمة الماليّة اللبنانيّة القائمة اليوم. فالمصارف اللبنانيّة ما زالت تُسجّل أرباحاً في ميزانيّاتها، لا بل بدأت تشهد هذه الميزانيّات تزايداً غريباً في الأرباح. والأرباح، كما هو معلوم، تصب في نهاية كل فترة في خانة “حقوق” المساهمين في المصارف؛ أي أصحاب المصارف، وهذا ما يجعل الرساميل تتضخّم بدلاً من أن تنكمش. يجري كل هذا بعدما بدأ المودعون بتحمّل نصيبهم من خسائر الأزمة منذ ستّ سنوات، في الوقت الذي ينكر فيه أصحاب المصارف وجود هذه الخسائر، في حين تفاوض جمعيّة المصارف حالياً على احتفاظ المصرفيين بملكيّة وأسهم مصارفهم.

بخلاف ما تسوّقه جمعيّة المصارف، الخسائر موجودة، ويمكن -بالأرقام- قياس ما تحمّله المودعون طوال السنوات الماضية من هذه الخسائر. وعند صدور قانون الفجوة الماليّة، سيكون بالإمكان أيضاً احتساب ما ستتحمّله كل شريحة من شرائح المودعين. نكران الخسائر، لا يخدم سوى من يرفض توزيعها بعدل: عبر التدقيق في الميزانيّات، وتوزيع المسؤوليّات، وتحميل المساهمين نصبهم من أعباء الأزمة. هذا ما ترفضه جمعيّة المصارف الآن، وهذا ما تفاوض في مواجهته.

الأرباح تكبر والرساميل تتضخّم

نشر بنك عودة مؤخراً أرقامه لهذه السنة، لغاية أواخر الربع الثالث من العام؛ أي حتّى نهاية شهر أيلول. في هذه الأرقام، ما يستحق التوقّف عنده؛ إذ ارتفع حجم الأرباح التشغيليّة للمصرف إلى قرابة 105.68 مليون دولار أميركي، مقارنة بمبلغ لم يتجاوز الـ 3.2 مليون دولار أميركي خلال الفترة المماثلة من العام الماضي. 

العوائد الكبرى التي حقّقها التي حققها البنك هذه السنة، توزّعت بين صافي الدخل من العمولات، الذي بلغ 86.53 مليون دولار أميركي، والفارق بين الفوائد المدفوعة والمقبوضة، الذي بلغ 155.96 مليون دولار أميركي. وبذلك، تمكن المصرف من تسجيل هذه الزيادة في الأرباح التشغيليّة، بعد احتساب الأعباء الأخرى. 

بعد تحقيق المصرف هذه الأرباح، جرت إضافتها إلى خانة “مجموع حقوق المساهمين في الميزانيّة”، التي تخضّمت قيمتها إلى أكثر من 1.07 مليار دولار أميركي في أواخر شهر أيلول، مقارنة بنحو 954.74 مليون دولار أميركي في الفترة المماثلة من العام السابق. على هذا النحو، حقّق أصحاب المصرف زيادة في حصصهم بنسبة 12%، خلال فترة لم تتجاوز السنة الواحدة. ونحن نتحدّث هنا عن مصرف مأزوم، ممتنع عن تسديد الودائع، تماماً كحال سائر المصارف اللبنانيّة.

ما يجري في بنك عودة، أكبر المصارف اللبنانيّة من حيث الموجودات، يجري كذلك في سائر أنحاء القطاع. وفقاً لميزانيّات المصارف المجمّعة، ارتفع حجم “حقوق المساهمين” في القطاع ككل إلى قرابة 4.91 مليارات دولار أميركي، ما شكّل زيادة بنسبة 7.38%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، مع العلم أنّ حجم ودائع المقيمين انخفض خلال الفترة نفسها من 66.1 مليار دولار أميركي إلى 65.24 مليار دولار أميركي، مع استمرار اقتطاع العمولات والسحوبات المتدرّجة من هذه السحوبات.

كيف تتزايد رساميل المصرفيين؟

ثمّة عدّة عوامل تفسّر ارتفاع رساميل المصرفيين، في ميزانيّات مؤسساتهم. أوّل هذه العوامل، هو ارتفاع حجم العمولات التي تستوفيها المصارف من زبائنها، في حسابات “اللولار”، التي يعجز أصحابها عن سحب الودائع منها، أو حتّى تحويلها إلى مصارف أخرى. “حبس” هذه الودائع على هذا النحو، بات يسمح للمصارف -منذ بداية الأزمة- بفرض عمولات خياليّة على تلك الحسابات، من دون أن يمتلك المودع القدرة على سحب لوديعته لمنع إذابتها. 

ثاني هذه العوامل، يكمن في الفارق الكبير ما بين الفوائد التي تدفعها المصارف للمودعين حالياً، وتلك التي تتقاضاها مقابل توظيف هذه الأموال في شهادات إيداع مصرف لبنان أو في الخارج. فعلى سبيل المثال، وبالاستناد إلى ميزانيّة بنك عودة أيضاً، بلغ حجم الفوائد المدفوعة للمودعين هذه السنة أقل من 9%، مقارنة بحجم الإيرادات التي حققتها المصارف من الفوائد المقبوضة. 

أخيراً من المهم الإشارة إلى أنّ المصارف بدأت بتسجيل إيرادات جديدة من استقبال الودائع بالدولارات “الفريش”، مقابل استعمال هذه السيولة لتقديم قروض جديدة بالدولارات “الفريش” أيضاً. وهنا أيضاً، تُظهر ميزانيّة بنك عودة ارتفاع حجم الودائع في المصرف بنحو 268.41 مليون دولار أميركي، بين أواخر العام الماضي ونهاية شهر أيلول. كما ارتفع حجم القروض الممنوحة خلال الفترة نفسها، من 962.66 مليون دولار أميركي إلى أكثر من مليار دولار أميركي. على هذا النحو، عاد المصرف ليوسّع نطاق أعماله التشغيليّة، والأرباح الناتجة عن هذه الأعمال، قبل معالجة الأزمة المرتبطة بالتزاماته القائمة أصلاً.

في النتيجة، مرّت سنوات الأزمة الستّ، من دون أن يتحمّل المصرفيون ما يقتضي تحمّله من أعباء. وفي حين يُعمَل على قانون الفجوة الماليّة حالياً، تقاتل جمعيّة المصارف على الجبهات كافة لضمان تحقيق غايتين: تحييد رساميل أصحاب المصارف عن الشطب، والابتعاد عن مبدأ التدقيق لفهم أسباب الأزمة القائمة. والمبدأ المشترك بين الهدفين، هو “عفا الله عن ما مضى”.