هجومٌ منسّق على “جديّة” مصرف لبنان

هجومٌ منسّق على “جديّة” مصرف لبنان

الكاتب: غسان العياش | المصدر: اساس ميديا
20 تشرين الثاني 2025

الإجراءات التي يفرضها مصرف لبنان للتضييق على التداول بالنقد الأجنبيّ لا تنطلق من اعتبارات سياسيّة، ولا هي خدمة لأطراف خارجيّة. إنّها تدابير يتّخذها المصرف انطلاقاً من مسؤوليّاته القانونيّة كضامن لسلامة النظام النقديّ وسلامة الاقتصاد اللبنانيّ ككلّ.

 

أفضل ما يفعله حاكم مصرف لبنان هو أن يغمض عينيه ويصمّ أذنيه حتّى لا يرى ولا يسمع ما تكتبه أو تقوله جهات سياسيّة عن سياسة المصرف المركزيّ، أو إجراءاته أو قراراته.

تُجمع أدبيّات المصارف المركزيّة في الدول المتقدّمة على أنّ السياسة النقديّة يجب أن يديرها “أطبّاء نقديّون” ينعزلون عن كلّ ما هو خارج غرفة العمليّات، ويركّزون فقط على الحالة الجراحيّة الموضوعة أمامهم. والمقصود بذلك هو الحؤول دون خضوع، أو تأثّر، قادة المصرف المركزيّ بمصالح السياسيّين ورغباتهم.

اختلاف معهود؟

تتضارب المصالح السياسيّة في السياسات الماليّة والنقديّة مع مصالح المجتمع، وخصوصاً مصلحة النقد الوطنيّ ومقتضيات الحفاظ على متانته وسلامته. قبل الانتخابات البرلمانيّة، على سبيل المثال لا الحصر، يميل الحزب الحاكم، أو الائتلاف الحاكم، إلى زيادة أرقام الموازنة وخفض معدّل الفائدة لزيادة النموّ وخلق الوظائف، ضارباً عرض الحائط باحتمال الزيادة العشوائيّة للإنفاق العامّ وانفلات التضخّم وتراجع قيمة العملة الوطنيّة.

في غالب الأحيان، تؤدّي هذه الحالة في الدول الديمقراطيّة إلى صراع بين الحزب الحاكم، الطامح إلى تحقيق مكاسب سياسيّة على حساب النقد، وبين المصرف المركزيّ الذي استقرّت التشريعات على جعله “حارس المجتمع ضدّ التضخّم”. هذا اختلاف تقليديّ ومعهود بين الدولة والمصرف المركزيّ ضمن بلد واحد وكثيراً ما قاد إلى أزمات تبدأ نقديّة أو اجتماعيّة وتنتهي سياسيّة.

لكنّ من غرائب الأمور أن يقع الصدام بين المصرف المركزيّ الوطنيّ والمصالح السياسيّة الخارجيّة، كما ظهر من خلال الحملة التي تعرّض لها مصرف لبنان في الأسابيع الأخيرة عندما أضرّت سياساته وقراراته بالمصالح الإيرانيّة. والأغرب أن تلتزم الدولة الوطنيّة الصمت حيال هذا الخلاف وكأنّ الأمر لا يعنيها.

عندما شدّ مصرف لبنان طوق الرقابة على التداول بالنقد لدى الصرّافين، في إطار مكافحة الاقتصاد النقديّ، طار صواب الأوساط القريبة من إيران، فشنّت صحيفة “طهران تايمز” هجوماً عنيفاً وغير مألوف على مصرف لبنان المركزيّ واعتبرت إجراءاته الأخيرة محاولة لقطع التمويل عن “الحزب”. اعتبرت الصحيفة أيضاً أنّ مصرف لبنان تخلّى فعليّاً عن سلطته، وسلّم واشنطن المفتاح الرئيس و”تطوّع لمراقبة مواطنيه نيابة عن مبعوثي وزارة الخزانة الأميركيّة”.

بموازاة حملات مشابهة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، التقى الشيخ نعيم قاسم مع هجوم الصحيفة الإيرانيّة فاعتمد أسلوب التهديد المبطّن عندما نصح الحكومة وحاكم مصرف لبنان وكلّ المعنيّين بوقف “الإجراءات التي لا تضيّق على “الحزب” فقط، ولا على جمهوره، بل تضيّق على كلّ اللبنانيّين”.

أولويّة سلامة النّقد

هذا الهجوم المركّز على مصرف لبنان لا معنى له ولن يعطي أيّ نتيجة لأنّ المصرف لا يبني سياسته على قاعدة التحليل السياسيّ بل على تطبيق قانون النقد والتسليف. إنّ إحدى أهمّ القواعد التي يرتكز عليها عمل المصارف المركزيّة، في لبنان والدول المتقدّمة، هي تحديد وظيفة المصرف في قانون إنشائه وتركه يمارس وظائفه بحرّية استناداً إلى ذلك. هذه ليست قاعدة لعمل المصرف بشكل عامّ فحسب، بل هي أساس استقلاليّة المصرف تجاه الحكومة الوطنيّة وتجاه أيّ كان، إذ لا يحقّ لأحد أن يملي على المصرف المركزيّ طريقة قيامه بمهامّه.

بالرجوع إلى المادّة 70 من قانون النقد والتسليف اللبنانيّ، يتبيّن أنّ مهمّة مصرف لبنان هي “المحافظة على سلامة النقد الوطنيّ والاستقرار الاقتصاديّ واستقرار النظام المصرفيّ”، وهو ملزم بالسعي إلى تحقيق هذه الأهداف المنصوص عليها في القانون دون أن يتأثّر بتعليمات الحكومة، أو بشعارات الشيخ نعيم قاسم.

في المرحلة الدقيقة الراهنة، يجد مصرف لبنان أنّ سلامة النقد اللبنانيّ ومقتضيات الاستقرار الاقتصاديّ واستقرار النظام المصرفيّ تقتضي تجنيب لبنان العقوبات الدوليّة وتلافي نقله إلى اللائحة السوداء لمجموعة العمل الماليّ، التي يمكن أن تفرض نوعاً من العزلة الكاملة على النظام الماليّ اللبنانيّ ما لم يكافح توسّع اقتصاد الكاش.

هذه هي دوافع مصرف لبنان وخلفيّة تدابيره المتشدّدة في مجال مكافحة الاقتصاد النقديّ، ولا يتوخّى من تدابيره تحقيق أيّة أهداف سياسيّة أو خدمة معسكر “الأميركان”.