
كيف قلبت التكنولوجيا قواعد الاشتباك؟
عندما تغيّرت أدوات الحرب، تغيّر معها مفهوم القوة. لم يعد المقياس محصورًا بعدد الصواريخ أو كثافة الرشاشات، بل بات مرتبطًا بمدى قدرة الخصم على رؤية «ما لا نراه» أي التقاط إشارات، تتبّع مواقع، تحليل صوت، واستثمار بيانات صغيرة لصنع قرارٍ كبير.
من تجسّس التطبيقات عبر ميكروفونات الهواتف إلى أسراب الدرونز المجهّزة بالاستشعار، وصلنا إلى زمن تذوب فيه أساليب الردع التقليدي أمام خرق البيانات ودقة المعلومات.
من هدف اقتصادي إلى عسكري
ما بدأت به شركات التكنولوجيا كوسيلة لاستهداف العملاء أو كوسيلة إعلانات، من رصد الكلمات المفتاحية للسماح بتحديد اهتمامات المستخدمين وأنماط حياتهم، ثم تحويل ما يهمّهم إلى محتوى موجّه يصلهم مباشرة عبر هواتفهم، تطوّر ليشمل أدوات تُوظف لأغراض استخباراتية وعسكرية. لم تعد التقنيات هذه حكرًا على المعلنين؛ بل باتت جزءًا من أدوات جمع المعلومات التي يمكن أن تكشف مواعيد، مواقع، أو عادات تنقل.
بهذا المعنى، أصبح كل شخص عرضة للانكشاف الرقمي ولأنماط رصد تقنية قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تُحدث أثرًا في الميدان.
نماذج دولية
تسير الصين في اتجاه تسخير الذكاء الاصطناعي لتطوير قدراتها العسكرية، لاسيما نظام DeepSeek عبر تطوير مسيّرات وأنظمة قتالية. وبهذه التقنيات تسعى بكين إلى تعزيز قوتها ومجاراة الولايات المتحدة في سباق التسلّح.
فيما أشرف الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، على اختبار طائرات مسيرة، وأمر بتعزيز قدراتها من خلال الذكاء الاصطناعي.
وتستخدم إسرائيل نظام الذكاء الاصطناعي «لافندر» لتحديد أهداف مرتبطة بحركة «حماس»، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعطيل الاتصالات والأنظمة الرقمية.
ولعلّ روسيا تُعدّ من أبرز الدول التي تعتمد بشكل واسع على الذكاء الاصطناعي في تطوير منظوماتها العسكرية، ما يجعل دعوة زيلينسكي إلى وضع قواعد دولية للحد من استخدام الذكاء الاصطناعي في الأسلحة، إشارة واضحة إلى المخاطر المحتملة من الاستخدام المتسارع لهذه التقنيات.
رغم تفوق بعض الدول في صناعات دقيقة تبقى الولايات المتحدّة الرائدة في هذا المجال.
فهل يتحوّل تطوير الذكاء الاصطناعي إلى سباق تسلّح جديد يشبه في أهميته وحساسيته سباق السلاح النووي؟
يُعدّ الذكاء الاصطناعي اليوم، بحسب الباحث في شؤون مكافحة الإرهاب بيار جبّور، «محرّك القرار العسكري: فبعدما كانت عملية جمع البيانات وتحليلها تستغرق أسابيع، باتت تُحسم في دقائق، ما يمنح القادة قدرة على اتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة. وتطوّرت معه أنظمة قيادة آلية للمركبات والدرونز، إضافة إلى مركبات برّية من دون سائق للاستطلاع، وروبوتات لنزع الألغام. ويصف «الذكاء الاصطناعي بأنه أهم ثورة عسكرية في القرن الحادي والعشرين، إذ غيّر أسلوب إدارة الحرب، وجعل قوّة القرار مرهونة بسرعة التحليل ودقة المعطيات».
الاشتباكات غبر المرئية
ليست السماء اللبنانية فقط التي تُخترق بشكل متكرّر من قِبل الطائرات الحربية والتجسّسية والدرونز، بل الفضاء الإلكتروني أيضًا يتعرّض لهجمات متزايدة تستهدف بياناته وحساباته، ما يُظهِر هشاشة أمنية خطيرة لا تقلّ خطورة عن الاختراقات الجوية، إذ يبدو «حزب الله» مكشوفًا في واحدة من أخطر ساحات الاشتباك غير المرئي: الفضاء السيبراني.
في ما يتعلّق بالفضاء الإلكتروني، يشير جبور إلى أن «لبنان يفتقر إلى منظومات حماية جدّية، ما جعل اختراق بيانات المطار و»القرض الحسن» ممكنًا عبر تقنيات تجسّس متقدّمة، كـ «بيغاسوس»، القادرة على الولوج إلى الداتا وكشف تفاصيلها. ويعتبر أن هذا الضعف يجعل الساحة اللبنانية سهلة الاختراق، في مقابل غياب قدرة مماثلة لدى إيران و»حزب الله» لاختراق الأنظمة الإسرائيلية أو الأميركية المتطوّرة.
ويشرح أن للأمن السيبراني وظيفتين أساسيتين: حماية الأنظمة العسكرية من الهجمات الإلكترونية، وشن هجمات مضادّة لتعطيل بنى الخصم.
ولعلّ أبرز هذه الاختراقات:
عمليّة البيجرز الشهيرة، ففي حين لجأ «الحزب» الى استخدام أكثر وسائل التواصل أمنًا على حدّ ظنه، كانت إسرائيل قد سبقته بأشواط، فلم يأتِ الخرق مما تخوّف منه إنما اخترق النطاق الترددي، الذي يستخدمه عناصر «الحزب» بتقنيّة أدّت لرفع درجات البيجرز وتفجيرها ما أدّى الى «تعوير أكثر من 3 آلاف مقاتل ومقتل حوالى الـ 40 بعمليّة لم تكلّف إسرائيل من الوقت والمجهود والخسائر سوى كبسة زر»، 3 آلاف و40 مقاتلًا خُصموا من المئة ألف، ليتبين أن الحرب ليست بالأعداد ولا العتاد.
وقع الأمين العام السابق لـ «حزب الله» حسن نصرالله نفسه ضحيّة هذا التطوّر، وهذا ليس مجالًا للتعاطف، بل دليل إضافي على حجم الانكشاف، بحيث كان قد قال: «عدوّكم الأول هو هاتفكم»، لكنه لم يعِ أنه فضلًا عن الهواتف الذكيّة، هناك أجهزة اتصال لاسلكي (بيجرز) وأجهزة الاتصال اللاسلكي (الووكي توكي)، يمكنها أن تخرق وتستبيح وسائل تواصلهم بين بعضهم البعض.
ويوضح جبور، في وقت تتجه فيه الجيوش الحديثة إلى أنظمة اتصال عسكرية متطوّرة تحلّ مكان الـ Walkie-Talkie والـ Pagers وتوفر حماية عالية ضد الاختراق، عاد «حزب الله» عمليًا إلى وسائل تواصل بدائية. فـ «الحزب» يعتمد اليوم على ما يشبه «téléphone de compagnie» الموصول بسنترالات ثابتة، وهي بدورها قابلة للاختراق عبر تقنيات تجسّس من مستوى Pegasus.
وتابع: «رغم إنشاء «الحزب» شبكة سلكية من الـ Fiber Optic بعد أحداث 7 أيار 2008، وتمديد سنترالات في المراكز الخلفية والجبهات والأنفاق وغرف العمليات لضمان اتصال غير قابل للاختراق، تبيّن لاحقًا أن هذه الشبكات خُرقت أيضًا»، مشددًا على أنه خلال التنقل الميداني، لا يمكن للمقاتلين حمل مثل هذه الهواتف «الأرضية».
ولفت إلى أنه «لذلك يعتمد الحزب اليوم على الرسائل والمرسلين كوسيلة تواصل أساسية لتقليل فرص الاختراق، ما يعكس فجوة كبيرة بينه وبين التكنولوجيا المعتمدة في الجيوش الحديثة».
فلم يُخرق «الحزب» من التواصل وحسب بل وصل إلى المواصلات، فقد أحدث اختراق شاشات الوصول والمغادرة في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت بعد تعرضه لقرصنة برسالة إلكترونية، إرباكًا واسعًا على المستويين الأمني والسياسي، وسط تساؤلات شعبية عن واقع المطار الأمني – السيبراني والتهديدات التي تحيطه، وكان فحوى الرسالة اتهام «حزب الله» وإيران بجر لبنان إلى الحرب مع إسرائيل، وخُتِمَت بعبارة «فليتحرر المطار من قبضة الدويلة». وأدى الخرق، إلى تعطيل نظام تفتيش الحقائب، واستمر الإرباك في المطار لساعات.
ويرجح كثيرون وقوف إسرائيل خلف العملية، نظرًا لتاريخها الحافل بالهجوم السيبراني المضاد، وتأتي على وقع تفلت قواعد الاشتباك بين «حزب الله» وقوات إسرائيل.
فلنضف خرق «القرض الحسن»، حيث فاجأت المؤسسة بيئة المقاومة بقرارها تأجيل صرف كمبيالات التعويضات للمتضررين، معلّلة ذلك بـ «مشاكل تقنية وإجرائية داخلية». وأعلنت أن أعمالها الأخرى «ستبقى قائمة ومنها صرف القروض والسحب والإيداع في الحسابات… وغيرها من الأعمال المالية»، مثيرة التساؤلات حول ما إذا كان السبب ماليًا أم تقنيًا وتكون بذلك لملمت أطرافها، لعدم إبداء عريانها التقني والسيبراني.
تقاطع الهجمات السيبرانية – الجوية
وفي حين اشتدّت الحرب ضراوة على «الحزب» بالاختراقات الأمنية – السيبرانية، فقد اجتمع الهجوم بين الفضاءين الجوي والسيبراني ليتمثل بالدرونز التي لم تطلق للتهويل النفسي أو للتصوير فقط، إنما تطوّرت لتصبح أداة مزوّدة بذكاء اصطناعي تحدد هويّة المستهدف من خلال بصمات وجهه وعينيه.
أوضح جبور أن «امتلاك «حزب الله» للدرونز يبقى محدودًا أيضًا، رغم تمكن بعض المسيّرات من خرق الأجواء الإسرائيلية، وهو اختراق يُعدّ صعبًا رصدُه». ولفت إلى أن «التجارب العالمية تُظهر أهمية هذا السلاح، مستشهدًا بالحرب بين أذربيجان وأرمينيا حيث لعبت المسيّرات دورًا حاسمًا في ترجيح كفة أذربيجان بفضل قدرات هذه المسيّرات على التجسّس والتصوير والتعرّف إلى البصمات الصوتية عبر الذكاء الاصطناعي، ما جعل الاغتيالات تُنفذ اليوم عبر الدرونز بدل الطائرات الحربية التقليدية والكبيرة كـ F-16 وF-15 وF-35».
وأضاف أنّ «الدرونز تعتمد على الـ GPS ولا تُحدث تشويشًا عليه بنفسها، لكن يمكن تزويدها بأنظمة تشويش محدودة، فيما يبقى التشويش الفعلي الواسع النطاق من اختصاص الأقمار الصناعية».
لم تكن فقط دفاعًا أو هجومًا بل وبالعودة إلى اغتيال هاشم صفي الدين رئيس المجلس التنفيذي لـ «حزب الله»، والخليفة المحتمل لنصرالله في قيادة «الحزب»، حامت الطائرات المسيّرة بعد مقتله طويلًا فوق مكان الاستهداف بحيث منعت من الاقتراب إلى الهدف تلقائيًا.
وأشار جبور إلى أنّ «التكنولوجيا اليوم عنصر حاسم في الجيوش الحديثة، من الأسلحة الذكية والموجّهة بدقة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، إلى الصواريخ الدقيقة التي يمتلكها «حزب الله» ولكن بكميات ضئيلة»، موضحًا أن «الصراع تركّز على استهداف الخبراء المعنيين بهذه التقنيات الآتية من إيران»، لافتًا إلى أن «الحزب لم يظهر امتلاكًا فعليًا لصواريخ دقيقة أصابت أهدافًا محددة خلال المواجهات الأخيرة».
من هنا يُطرح السؤال، «هل يمكن لـ «حزب الله» بعد كل الخروقات الأمنية التي تعرّض لها أن يبدأ تطوير أساليب قتاله سيبرانيًا فيما نحن نلهو بالمطالبة بتسليم السلاح المعدني؟».
ختامًا، السلاح المعدني لم يعد كافيًا وحده. في زمن يتحوّل فيه ميكروفون الهاتف إلى أداة استخباراتية بقدر ما هو وسيلة اتصال، وفي مرحلة تمتلك فيها الدول قدرات تجسّس، وأنظمة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، يصبح بقاء أي قوة عسكرية مرتبطًا بتكامل السلاح مع الحماية التقنية والاستخباراتية المحكمة.
أمّا التمسّك بسلاح تقليدي مكشوف، فقد يكون خطّة لتحويله من «أداة ردع» إلى عنصر توتر داخلي.
فشعب يرزح تحت مخاطر حرب طويلة، وانهيار اقتصادي، وضغط اجتماعي، يدرك أن التوازن الحقيقي لا تصنعه الشعارات بل إمكانات الدولة ومؤسّساتها الشرعية.
وبالتالي لا شرعية للردع سوى الجيش اللبناني. هذه قاعدة لا تتبدّل مهما تغيّرت الظروف. فـ «الحزب»، بترسانته يصنع نفوذًا داخليًا، ويشكّل واقعًا يفقد منطقه حين يخرج أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم ليعترف بأن السلاح «لا يهدّد المستوطنات الشمالية»، يصبح السؤال بديهيًا:
إذا كان السلاح لا يردع إسرائيل… فعلى من يُستخدم؟ ولأي وظيفة بقي؟ الجواب قد يكون:
للضغط على المؤسسات. لترهيب اللبنانيين. للتأثير على الانتخابات المقبلة. لا شيء من ذلك يمت إلى «المقاومة» بصلة. وعليه، ما علّة استمرار السلاح خارج الدولة سوى الاستقواء على الداخل؟
