
القوى المسيحية والطائف: ثلاثية التطبيق- التصحيح- التطوير
عشية عيد الاستقلال، تطرح القوى السياسية المسيحية علامات استفهام عديدة حول تطبيق اتفاق الطائف. وكل هذه القوى، على رغم خلافاتها واختلافاتها، تلتقي على نقطة أساسية: “الطائف” لم يُطبَّق حتى اليوم. وعندما تُطرح التفاصيل، تبرز لدى كل حزب أو تيار مقاربة خاصة للموانع التي حالت دون تطبيق الاتفاق الذي أجمع عليه اللبنانيون في العام 1989.
بالنسبة إلى “التيار الوطني الحر”، يحتاج اتفاق الطائف إلى تطوير. ويؤكّد عضو تكتل “لبنان القوي” النائب أسعد درغام أن الاتفاق أثبت من خلال الممارسة أنه يتضمّن الكثير من الشوائب على صعيد ممارسة السلطة وتوزيع الصلاحيات. وأهم هذه الشوائب أنه لا يلحظ آلية محددة للتعامل بين السلطات: رئاسة الجمهورية والسلطتين التنفيذية والتشريعية. ولفت إلى أنّه عند وقوع أي خلاف، تأخذ كل سلطة الأمور كما تريد، ولا شك في أن الدولة تُدار بثلاثة رؤوس، وكل رأس قادر على تعطيل سير الأمور، في ظل غياب آلية لفضّ الخلافات.
لكن درغام يرى أن البحث في تغيير اتفاق الطائف قد يثير مشاكل كبيرة في البلد. لذا يجب الاكتفاء بتطويره لمعرفة ما نُفّذ منه وما لم يُنفّذ، حتى تصبح الأمور واضحة في ممارسة السلطة. إلا أنّ التعديل أو التطوير يخضع لتوازنات داخلية طائفية وحزبية، وهذا ما يحتاج إلى توافق عام. وذكر درغام أموراً عديدة لم تُنفّذ مثل اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، وإنشاء مجلس الشيوخ وغيرها.
وتطرّق درغام إلى مشكلات التأليف والتكليف في ظل غياب المهل، وهذا ما يحصل في الحياة السياسية اللبنانية، إذ يستطيع رئيس الجمهورية تعطيل عملية التكليف عبر عدم الدعوة إلى الاستشارات النيابية، أو قد يستغرق رئيس الحكومة أشهراً طويلة في تأليف الحكومة.
ويشير درغام إلى أنه “مطلوب تسيير أمور الدولة بطريقة شفافة وعبر آلية واضحة في الدستور لفضّ تنازع السلطات في ما بينها. وما يجري اليوم أن الدولة تُدار من خلال ثلاثة رؤوس. ويعتبر أن نزع صلاحيات رئيس الجمهورية ووضعها في مجلس الوزراء مجتمعاً كان خطأ كبيراً، كما أن هناك ثغرات كبيرة في ممارسة العمل النيابي، مثل وضع اقتراحات القوانين في الأدراج، بحيث مرّ عليها الزمن وأصبحت في حاجة إلى تعديل. كل هذه الأمور تحتاج إلى إعادة نظر وتعديل البنود لتصبح قابلة للتطبيق“.
القوات: تمّ الانقلاب على الطائف
لا تتطابق أولويات “القوات اللبنانية” مع أولويات “التيار الوطني الحر” بالنسبة إلى اتفاق الطائف، بل تذهب القوات بعيداً في سرديتها، إذ تعتبر مصادرها “أن الطائف تمّ الانقلاب عليه منذ لحظة إقراره مع اغتيال الرئيس رينيه معوض، لذلك لم تُمنح له فرصة التطبيق. فقد وضع النظام السوري البعثي يده على البلد وخضع لبنان للاحتلال، ولا نزال حتى اليوم نعيش فصولاً متعددة من عملية الاغتيال المتمادية ضمن إطار محور الممانعة“.
وترى مصادر “القوات” أن العوائق التي تمنع تطبيق اتفاق الطائف ترتبط بالمشروع الممانع بشقّه الأسدي سابقاً وشقّه الإيراني حالياً. فهذان الطرفان الحليفان لم يعترفا بلبنان كدولة وكيان، بل يريدان لبنان ملحقاً بنظاميهما. أمّا “الطائف”، إذا نُفّذ كما يجب، فسيكون المدخل لتمكين الدولة من ممارسة سلطتها ودورها. وطالما أن “حزب الله” يصادر دور الدولة، تصبح التفاصيل المتعلقة باتفاق الطائف مسائل ثانوية وغير أساسية. فاليوم نحن أمام دولة شكلية قرارها مُصادَر من قبل الميليشيا.
ولا تجد مصادر “القوات” صعوبة في تحديد الصيغة الأفضل لإعادة وضع اتفاق الطائف على السكة الصحيحة، وتؤكد أن “الصيغة الأفضل ستبصر النور مع انتهاء المشروع المسلّح وتفكيك البنية العسكرية لـ”الحزب” بشكل نهائي. فنحن اليوم دخلنا الفصل الأخير من كتاب “الممانعة”، وخصوصاً بعد قرارات 5 و7 آب القاضية بنزع السلاح. وهذه مرحلة جديدة بدأت تتبلور مع انتخاب الرئيس جوزاف عون وتكليف الرئيس نواف سلام وتشكيل حكومة لا يملك فيها “الحزب” الثلث المعطّل، ويتم نزع سلاحه في جنوب الليطاني، وهو مبرر وجود مقاومته المسلحة التي فقدت الآن. وبالتالي انتهى مشروعه، وستُستكمل ورشة نزع سلاحه شمال الليطاني أيضاً“.
ولا تحبّذ مصادر “القوات” التفكير في أي اتفاق بديل عن “الطائف” أو أي تعديل قبل الانتهاء نهائياً من موضوع السلاح. فالسلاح يمنع تطبيق اتفاق الطائف والفيدرالية والتقسيم وكل الصيغ الأخرى. وتشير إلى أنه بعد اكتمال نزع السلاح، إذا وجد اللبنانيون ضرورة لإعادة النظر في الاتفاق، لا مانع من ذلك، فـ”الطائف” ليس إنجيلاً أو قرآناً، بل علينا إعادة النظر به بما يتلاءم مع طبيعة المجتمع وحاجاته.
الكتائب: الطائف ليس منزَلاً
أما “الكتائب اللبنانية”، فليست بعيدة كثيراً عن مقاربة “القوات”، إذ لا تعتبر اتفاق الطائف منزلاً، بل هو وُجد لإدارة البلد وخدمته. لذلك ترى مصادرها أنه لا مفر من تصحيح بعض الشوائب فيه التي تعرقل عمل مجلسي الوزراء والنواب. لكن ذلك يتطلب شروطاً يجب أن تسبق أي بحث في التعديلات البنيوية لهذا الدستور.
وتعترف مصادر “الكتائب” بأن أبرز المعوقات التي منعت تطبيق الطائف هي الوصاية السورية في المرحلة السابقة، ووجود سلاح خارج إطار المؤسسات الدستورية، وخصوصاً “حزب الله” حالياً، الذي يتذرّع بأن مسألة المقاومة ينص عليها الطائف. وتشير المصادر: “قد يكون ذلك صحيحاً، إلا أن هذه المقاومة انتهت بالتحرير في العام 2000. فأصبح وجود سلاح الحزب بعد التحرير غير دستوري. وقد اعتمد بعد العام 2000 على مسوّغ غير قانوني، وهو ذريعة مزارع شبعا التي لم تكن يوماً لبنانية، وبالتالي لا يمكن البحث في تعديل اتفاق الطائف إلا بعد الانتهاء من هذه المعوقات“.
وقد عملت “الكتائب” مراراً لإعادة وضع الطائف على السكة الصحيحة. وتشير مصادرها إلى أنها في العام 2009 خاضت الانتخابات النيابية على أساس تطوير النظام والتوصل إلى عقد اجتماعي جديد في لبنان، والبدء بموضوع حصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية. واستكملت هذا الأمر بعد الحرب الأخيرة على لسان رئيسها سامي الجميل في مجلس النواب، عندما دعا إلى عقد مؤتمر مصارحة ومصالحة يتبعه نقاش في جوهر النظام. واشترط للبدء بذلك حصر السلاح، وهو أمر ضروري قبل أي نقاش في مسألة اتفاق الطائف.
لكن “الكتائب” لا ترى ما يمنع البدء بتطبيق اتفاق الطائف بكامل بنوده، وأبرزها إعادة النظر في التقسيم الإداري واعتماد اللامركزية الإدارية، التي قدّم “الكتائب” اقتراح قانون بشأنها لمجلس النواب في العام 2013 بهدف تطبيقها، لكن القانون لا يزال في أدراج المجلس.
من الواضح أن هناك أولويات مختلفة وتباينات بين القوى السياسية المسيحية، إلا أنها تُجمع على ضرورة تطوير الطائف في المستقبل، ربما بعد الانتهاء من المسألة الخلافية الجوهرية وهي سلاح “الحزب“.
