
خاص- اثنان وثمانون عامًا على “عيد الاستقلال”… وما زال لبنان يبحث عمّن يحرّره
نحتفل هذا العام بذكرى الاستقلال الـ٨٢، لكن الحقيقة أنّه لا أحد في هذا البلد قادر فعلًا على القول إنّه عاش يومًا واحدًا في دولة مستقلة كاملة السيادة. منذ ١٩٤٣، كل خطوة نحو الأمام أُتبعت بخطوتين إلى الخلف. كل محاولة لبناء دولة حقيقية، قُطعت بسلاحٍ غير شرعي، أو بمنظومة فاسدة، أو باحتلال مباشر، أو باحتلال “من الدّاخل” يتلطّى خلف شعارات كاذبة.
لبنان، منذ تأسيسه، لم ينعم بسقف واحد يحميه. الوصاية السورية حكمته بالحديد والنار لعقود، قبلها الاجتياح الإسرائيلي دمّر الجنوب وبيروت، وبعدهما سقط البلد في فخّ محورٍ مسلّح يحتكر قرار الحرب والسلم، يقرّر عنه، ويملي عليه خياراته، ويورّطه في صراعات لا تعنيه. هذا ليس استقلالًا، وهذا ليس نظامًا ديمقراطيًا، وهذا بالتأكيد ليس وطنًا حرًّا سيّدًا كما نحبّ أن نتغنى.
٨٢ سنة ونحن نسمع الخطاب نفسه: “لبنان سيّد حر مستقل”. لكنّ الواقع اليوم أوضح من أن يُخفى بعبارات مقدّسة:
هناك سلاح أقوى من الدولة. هناك حزب أقوى من الجيش والحكومة والقضاء. وهناك نفوذ خارجي يجعل من البلد ساحة، ومن الشعب دروعًا، ومن الأرض ورقة تفاوض.
كيف يكون لبنان مستقلًا وفيه فريق يجرّ البلاد إلى حرب كل عشر سنوات؟ كيف نكون مستقلّين ودولة بكاملها لا تستطيع تنفيذ قرارات دولية صدرت لحمايتها؟ كيف نكون مستقلّين حين يكون لكل فئة “سفراؤها” وولاءاتها الخارجية، ولكل محور خطته، ولكل زعيم أجندته؟
هذه ليست دولة. هذه فسيفساء مصالح، تركيبة هشّة معلّقة فوق برميل بارود.
ولبنان، من ١٩٤٣ حتى اليوم، دفع ثمن هذه الهشاشة:
حرب ١٩٥٨، حرب ١٩٧٥، الاجتياح ١٩٧٨ ثم ١٩٨٢، حرب المخيمات، انتفاضة ١٩٨٧، حرب الإلغاء، حرب التحرير، حرب تموز ٢٠٠٦، جولات متفرّقة من طرابلس إلى عرسال، اغتيالات بالجملة، وصولًا إلى حرب ٢٠٢٤ التي كشفت حجم الخراب وفضحت هشاشة “الدولة” أمام نفوذ السلاح والحسابات الإقليمية.
٨٢ سنة ونحن لا نعرف الاستقرار.
٨٢ سنة ونحن نعيش على خطّ النار.
٨٢ سنة والدولة تُدار بمنطق “التسويات”، لا بمنطق السيادة.
٨٢ سنة والشعب ضحية، والسلطة شريك في الصمت، والمواطن يغرق بين انهيار اقتصادي، وفساد مستفحل، ومؤسسات تُفرغ من مضمونها.
لكنّ المشكلة أعمق، فلبنان لم يخسر استقلاله فقط… لبنان تخلّى عنه.
تخلّى عنه عندما قبل أن يكون القرار الوطني ممزقًا بين الداخل والخارج.
تخلّى عنه عندما قبل أن يكون السلاح خارج الدولة “مقدّسًا” أكثر من الدولة نفسها.
تخلّى عنه عندما صار المواطن هو من يحارب ليبقى، بينما من يحكمه يحارب ليبقى في منصبه.
ومع ذلك، وبرغم العتمة، هناك حقيقة واحدة لا مفرّ منها:
اللبنانيون ما زالوا يريدون الاستقلال. يريدونه بالمعنى الحقيقي، لا التزييني. يريدون دولة… دولة حقيقية، جيش واحد لا جيوش، قرار واحد لا قرارات مزدوجة، حدود تُحترم، سيادة لا تُباع ولا تُقايض، دولة لا تخاف من شعبها… بل يحتمي بها شعبها.
الاستقلال ليس مناسبة. الاستقلال ليس عرضًا عسكريًا. الاستقلال ليس منشورًا على وسائل التواصل.
الاستقلال فعل، معركة، قرار.
وثورة دائمة على كل ما يمنع قيام الدولة: من سلاح خارج سلطة الدولة، إلى فساد ينخرها، إلى سلطة تتاجر بدم الناس ومصيرهم.
في عيد الاستقلال الـ٨٢، يمكن أن نكذب على أنفسنا كما نفعل كل عام… أو يمكن ببساطة أن نقول الحقيقة:
لبنان ليس مستقلاً بعد. لكنه يستحق أن يكون. ولن يكون ذلك إلا عندما يرفض اللبنانيون أن يبقى وطنهم مسرحًا لحروب الآخرين، وأن يبقى قرارهم مرهونًا لغير دولتهم.
يوم نعلن هذا القرار بوضوح، ونقف خلفه بجرأة… يومها فقط يمكن أن نحتفل بعيد الاستقلال، ليس ذكرى… بل واقعًا حيًّا نعيشه للمرّة الأولى منذ ٨٢ عامًا.
