«نزعُ السلاح» عنوان إسرائيل للاستثمار !

«نزعُ السلاح» عنوان إسرائيل للاستثمار !

الكاتب: طوني عيسى | المصدر: الجمهورية
22 تشرين الثاني 2025

هناك خديعة إسرائيلية سيكون اللبنانيون ضحيتها، عنوانها «نزع السلاح». في الظاهر، يتعمّد بنيامين نتنياهو وفريقه إلهاء الرأي العام بمسرحيات تتعلق بما بقي من سلاح لـ»حزب الله» في جنوب الليطاني وشماله، لكنهم في العمق يخططون لما هو أبعد بكثير.

على وقع الضربات الإسرائيلية المتصاعدة في الجنوب، تتكشف مفارقة سياسية وعسكرية عميقة ومثيرة للقلق. فالمطالب الإسرائيلية العاجلة والملحّة بنزع سلاح «حزب الله» بكامله، سواء في جنوب الليطاني أو في شماله، تبدو في عمقها مصطنعة. تمارس إسرائيل «لعبة الممنوع والمباح» بكثير من الدهاء. وهدفها الحقيقي ليس الإزالة التامّة للسلاح كما توحي ضغوطها للوهلة الأولى، بل الإبقاء على «مقدار بسيط» من هذا السلاح، أو على عنوان «السلاح» على الأقل، بما يكفي ليكون «ذريعة» دائمة لها.

تدرك إسرائيل أن تخلّي «حزب الله» عن كل سلاحه هو خط أحمر وجودي بالنسبة إليه. إنّه جزء من عقيدته وتركيبته السياسية والعسكرية. وفي أي مفاوضات محتملة، هو لا يقبل بتجاوز الحل الوسط في مسألة سلاحه، أي التخفيف منه شكلاً وموقّتاً في جنوب الليطاني، مع رفض قاطع للمسّ به في المناطق الأخرى كلها، أي شمال النهر، حيث يرجح وجود الثقل الحقيقي للمخزون الاستراتيجي.

وهنا، تمارس إسرائيل خديعة، وتستثمر في تقاطع المصالح المثير، إذ يتبين أنّ مصلحتها الخبيثة تكمن في الإبقاء على جزء بسيط من سلاح «حزب الله»، وتحديداً الأسلحة ما دون الاستراتيجية (بعد إزالة الصواريخ الدقيقة التوجيه والمسيّرات المتقدمة وما يوازيها)، بحيث تحتفظ بالذريعة الدائمة لاستمرار الضغط العسكري والاستخباراتي على لبنان. وهذا العنوان عن «خطرٍ متبقٍّ في لبنان» تستخدمه لتشرعن أمام العالم استكمال مخططاتها التوسعية المعلنة وغير المعلنة في جنوب الليطاني، وربما حتى نهر الأولي، تحت مسمّى «تأمين الحدود».

وفي عبارة أوضح، حتى لو تخلّى «حزب الله» عن سلاحه بكامله، ستجد إسرائيل أنّ مصلحتها تقتضي اتهامه دائماً بأنّه يحتفظ بالسلاح لتبرير المضي في مخططاتها التوسعية في لبنان. وسيكون على الدولة اللبنانية أن تبذل كل الجهود مع الأميركيين والفرنسيين والسعوديين والقطريين والمصريين لتكشف فعلاً عن كل مواقع «الحزب» (السابقة) في كل لبنان، وإظهار الحقائق ميدانياً، ما ينزع الذرائع الإسرائيلية تماماً.

مشكلة لبنان حالياً تكمن في أنّ «حزب الله» نفسه يصرّ على إثبات «الاتهام» الإسرائيلي بأنّه يحتفظ بالسلاح، ويرفض التخلّي عنه للجيش بأي ثمن، بل إنّه استعاد جزءاً من قدراته العسكرية التي خسرها في الحرب. فهو يعتبر ضمناً أنّ احتفاظه بمخزون الأسلحة في شمال الليطاني، ولو بعيارات لا تشكّل خطراً على إسرائيل، إنما يتيح له على الأقل الاحتفاظ بالهيبة السياسية والمبرر الداخلي لوجوده وسلاحه، أمام بيئته ومؤيديه واللبنانيين عموماً.

أي إنّ إسرائيل لا تريد «نزع السلاح» في المطلق، بل «نزع فاعلية السلاح»، أي كف يد «الحزب» عن إطلاق الصواريخ الاستراتيجية والمسيّرات، وتعطيل أي نوع من الأسلحة يمكن أن يهدّد أمنها من قريب أو بعيد. وبعد ذلك، في العمق اللبناني، فليتدبّر اللبنانيون أمورهم في ما بينهم، فقد يبقى السلاح الخفيف والمتوسط وبعض السلاح الثقيل مصدر إزعاج داخلي لبناني أو لا يبقى.

والمثير في هذا الشأن، كلام صدر للمرّة الأولى، قبل أيام، على «احتواء السلاح» شمال الليطاني. فمصادر المؤسسة العسكرية أوردت هذا المصطلح، وكذلك الرئيس نواف سلام أورده علناً قبل يومين، في تطوّر يُعتبر غير مسبوق. وربما تتلقف إسرائيل فكرة «الاحتواء» شمال الليطاني أو على الأرجح شمال الأولي، طبعاً بعد التخلص من السلاح الذي يشكّل تهديداً لها، كتسوية مناسبة، لأنّ هذا السلاح لا يهدّد مصالحها الأمنية، بل ينام في المخازن حتى يصيبه الصدأ، أو يُبتكر له حلّ مناسب في السياسة.

هذا السيناريو سبق أن شهدت غزة مثيلاً له. فإسرائيل استفادت بمهارة فائقة من وجود «العدو المفيد» الذي لا يُسحق بكامله. وفي المنطلق، هناك تساؤلات مشروعة عن توقيت عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023 ونتائجها الاستراتيجية. وثمة شكوك عميقة في حيثياتها، لأنّها منحت إسرائيل مبرّراً ذهبياً لتنفيذ مخططاتها بتدمير القطاع وتهجيره. واللافت، بعد العملية، أنّ إسرائيل قامت بتعظيم حجم الخسائر التي أصابتها في العملية، كما كانت مصلحة «حماس» بتعظيمها أيضاً من أجل رفع المعنويات في بيئتها. وفي أي حال، الترجمة العملانية هي أنّ إسرائيل استفادت من هذا التعظيم، فأوقعت الكوارث التي لا يمكن تصورها في غزة وأهلها.

في لبنان اليوم، إسرائيل تطلب نزع السلاح بكامله، وهي تعلم أنّ ذلك لن يحدث. وقد تكون لها مصلحة في الاكتفاء بإزالة ما يشكّل تهديداً استراتيجياً مباشراً (كالصواريخ التي تصل إلى العمق). وفي المقابل، يبقى «الوجود» المسلّح شمال الليطاني بمثابة الضوء الأخضر الذي يُخوّلها ضرب أي هدف في أي وقت، تحت ذريعة استهداف مخازن أو مواقع، وبالتالي تبرير التوسع والاحتلال في الجنوب اللبناني.

إسرائيل لا تريد عدواً مُسالماً. هي تريد عدواً ضعيفاً، لكنها تريد أن يكون هناك عدو دائماً، عدو لا يشكّل خطراً حقيقياً عليها، لكنه يُبقي على «مشروعية القوة» و«ضرورة الردع» التي تحتاج إليهما لتنفيذ أجندتها التوسعية. إنّها مفارقة مثيرة: العدو لا يُريد إسقاط عدوه بكامله، (أو ربما لا يستطيع. النتيجة هي إيّاها) لأنّه في حاجة إلى وجوده، ولو كعنوان.