
تقرير أميركي: هكذا يتغلغل “الإخوان” في الولايات المتحدة
يمثل التغلغل الاستراتيجي لجماعة “الإخوان المسلمين” في الولايات المتحدة تهديداً أيديولوجياً معقداً ومستداماً، يختلف جوهرياً عن الأشكال التقليدية للإرهاب. يؤكد التحليل المنهجي لاستراتيجية الجماعة، التي يقدمها تقرير حديث، صادر عن معهد دراسة معاداة السامية والسياسات العالمية (ISGAP)، أنه لا ينبغي أن يُفهم نشاطها في المقام الأول بصفته شأناً دينياً أو مدنياً بسيطاً، بل عملية جهاد تستهدف أسس الحضارة الغربية ذاتها، ينبغي التصدي له
بكل الوسائل.
يُشدد التقرير على ضرورة التمييز بين الدين الإسلامي والأيديولوجيا الإسلاموية التي تعد جماعة “الإخوان المسلمين” أبرز مروجيها، وعلى التنبيه إلى خطة الـ”100 عام” لتحقيق الهدف الاستراتيجي لـ”الإخوان” في الغرب، كما ورد في وثائقهم الداخلية، أي “الجهاد الحضاري” (Civilization-Jihadist Process). فهذا المفهوم يُعيد تعريف الصراع من مواجهة عسكرية مباشرة إلى صراع أيديولوجي ومؤسسي طويل الأمد، نهايته “تدمير الحضارة الغربية من داخلها وتخريب بيتها البائس بأيديهم وأيدي المؤمنين”. فهذه العبارة توضح أن هذا التغلغل عمل أيديولوجي لإحداث تغيير جذري – تحويلي في المجتمع الأميركي، يستغل الحريات التي تتيحها الديموقراطيات الغربية، مثل حرية التعبير والتنظيم، كآليات لتعزيز أهداف مناهضة للديموقراطية بطبيعتها.
“التطرف المستتر” والحرب المؤسسية
يدرج التقرير تغلغل “الإخوان” المؤسسي تحت “التطرف غير العنيف”، ويعرّفه بأنه “شكل معقّد من التهديد الذي يستغل الحريات الديموقراطية والمؤسسات القانونية والأطر الثقافية للنهوض بأهداف متطرفة، متجنباً إجراءات من شأنها أن تستدعي ردات فعل أمنية تقليدية، فيُستخدم التسامح والانفتاح الديموقراطي لتنفيذ أجندة أيديولوجية لا تتوافق مع التسامح والانفتاح الديموقراطي”.
تعتمد استراتيجية “الإخوان” على “مرونة أيديولوجية مقترنة بتكتيكات براغماتية” (Strategic Flexibility with Doctrinal Rigidity). بعبارة أخرى، تتستر الجماعة بخطاب”حقوق الأقليات” أو “التسامح” علناً، بينما تحافظ سراً على التزامها إقامة نظام حكم إسلامي. هذه الاستراتيجيا تجعل الجماعة نموذجاً “للحرب المؤسسية”، ويكمن التهديد الجيوسياسي في قدرتها على التسلل المنهجي الى المؤسسات الاجتماعية والسياسية والقانونية، وهذا يُضعف الديموقراطيات الغربية من داخلها.
أهم استنتاجات التقرير في هذا الإطار هو أن هذا التغلغل الأيديولوجي المنهجي يُشكل تحدياً وجودياً للمرونة الديموقراطية، ولا يمكن مواجهة “الجهاد الحضاري” بأدوات مكافحة الإرهاب التقليدية التي تركز على العنف، إنما يجب تطوير أطر لمكافحة التطرف المستتر، والتمييز بين حماية المسلمين الأفراد من الكراهية وحماية الأيديولوجيات السياسية المناهضة للديموقراطية من النقد. كما يجب تعزيز الشفافية المالية والأكاديمية، وتحديداً في ما يتعلق بالتمويل الأجنبي الذي يدعم المنظمات المرتبطة بـ”الإخوان”.
تمكين ومرحلية
التمكين مبدأ استراتيجي مركزي يوجه عمليات “الإخوان”، ويُترجم بأنه “الترسيخ المؤسسي”. تتجاوز الغاية منه بناء المساجد والمراكز الخيرية، فالتمكين الفعلي هو تحقيق “الغلبة” في المجتمع، في إشارة واضحة إلى أن الهدف اكتساب القوة والسلطة الكافيتين لفرض الحكم الإسلامي، ابتداءً بالوعي الفردي وانتهاءً بالسيطرة الشاملة.
تطور “التمكين” في أربع مراحل. فمع حسن البنا، بدأ “التمكين التأسيسي”، إذ رسم أساس “التدرّج”، مُفصلاً سبع مراحل، تبدأ بالتجديد الروحي الفردي وتتوج بإعادة تأسيس النظام الاجتماعي الإسلامي الشامل، مع التركيز على الصبر الاستراتيجي وبناء الكوادر؛ ومع سيد قطب أتى “التمكين الثوري”، إذ تحدث قطب عن “الجاهلية” الشاملة، فالمجتمعات الغربية والعلمانية المعاصرة غير شرعية، ومهمة “الطليعة” الثورية تحقيق التطهير الأيديولوجي، مفضلاً القطيعة الثورية على التكيف البراغماتي؛ ومع يوسف القرضاوي أتى “التمكين المؤسسي” إذ تطوّر “فقه الأقليات” لتبرير المشاركة التكتيكية في الأنظمة الديموقراطية، والانخراط في المجتمعات غير المسلمة كجزء من “التدرّج”؛ ومع علي الصلابي أتى “التمكين العسكري/السياسي”، إذ أكد على “الجهاد الشامل”.
المرْحَلِيَّة هي الشق التكتيكي في التمكين، أو التكيف الموقت مع الظروف لحماية الحركة الإسلاموية حتى يتحقق التمكين الكامل، استناداً إلى مفاهيم فقهية مثل “فقه الواقع” و”المصلحة” و”الضرورة”، و”التدرج”. وبحسب التقرير، وفّر القرضاوي الغطاء الفقهي للمنظمات في الغرب لتبني خطاب حقوق الأقليات في تكتيك مرحلي من دون التخلي عن الهدف الأكبر اي “الجهاد الحضاري”. وهذا يبرر التناقض الظاهري بين أيديولوجية قطب الثورية والنموذج الغربي لـ”الإخوان”.
توفر وثيقة “مشروع “الإخوان المسلمين: نحو استراتيجية عالمية للسياسة الإسلامية” (1982) إطاراً عالمياً سرياً، وغالباً ما يُشار إليها بخطة الـ”100 عام”، وتهدف إلى توسيع النفوذ الإسلامي في المجتمعات الغربية بالتغلغل المنهجي والتسلل إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك السيطرة على التعليم والإعلام، فيما تعدّ “المذكرة التفسيرية للهدف الاستراتيجي العام للجماعة في أميركا الشمالية” (1991) وثيقة التنفيذ التي تُثبت هدف “الإخوان” الصريح في أميركا، معلنةً بوضوح أن “عمل الإخوان في أميركا نوع من الجهاد العظيم في إزالة الحضارة الغربية وتدميرها من الداخل وتخريب بيتها البائس”. وتتضمن “المذكرة التفسيرية” ملحقاً يسمي صراحة 29 منظمة كجزء من شبكة “الإخوان” أو “منظمات أصدقائنا” في أميركا الشمالية. وهذه القائمة تكشف عن بنية تحتية شاملة للتغلغل في كل قطاعات المجتمع الأميركي.
المجالات الأربعة للتغلغل
تُنفذ استراتيجية التمكين من خلال أربعة مجالات تشغيلية متكاملة، يُعزز كل منها الآخر لإحداث تأثير شامل على الحياة المدنية الأميركية.
المجال الأول هو التأثير في السياسات العامة، من خلال الوصول إلى الهياكل الحكومية والتأثير في عملية صوغ السياسات الداخلية والخارجية. فقد نجحت المنظمات المرتبطة بـ”الإخوان” في ترسيخ علاقات استشارية مع الوكالات الفيدرالية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووزارة الأمن الداخلي (DHS)، ما مكنها من تشكيل لغة مكافحة الإرهاب وأولوياتها.
المجال الثاني هو التلاعب بالأطر القانونية، أو ما يُعرف باسم “الحرب القانونية” (Lawfare)، ويستغل النظام القانوني الأميركي نفسه كآلية هجوم ودفاع لتعزيز أجندة الإخوان.
وأبرز مثال على ذلك تحويل مفهوم “الإسلاموفوبيا” من التركيز على “التمييز والكراهية ضد الأفراد المسلمين” إلى “نقد الأيديولوجية الإسلاموية أو المنظمات المرتبطة بها”، لإخفاء النشاط الأيديولوجي تحت ستار حماية الأقليات الدينية.
المجال الثالث هو التغلغل المؤسسي من خلال المراكز الإسلامية والمساجد إذ تعمل مراكز لـ”الدعوة” والترسيخ الأيديولوجي. وثمة مؤسسات مثل “الوقف الإسلامي لأميركا الشمالية” (NAIT)، والتي ورد ذكرها في “المذكرة التفسيرية”، تسيطر على أصول عقارية لمئات المراكز والمساجد، ما يضمن الاستدامة المالية والرقابة المؤسسية الطويلة الأمد لشبكة “الإخوان”. كما يُمثل “مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية” (CAIR) دراسة حالة رئيسية في التغلغل المؤسسي، إذ نجح في ترسيخ نفسه واجهة ناطقة باسم الجالية المسلمة في الولايات المتحدة.
المجال الرابع هو السيطرة على السردية والإعلام، والتعبئة المنسقة بعد 7 أكتوبر 2023.
التطبيع مع التطرف
تحولت الجامعات الأميركية إلى معاقل للنشاط “الإخواني”: تنظيم اعتصامات باستخدام مواد احترافية ورسائل موحدة بتنسيق مركزي، وتقديم مجموعات طالبية ويسارية الدعم اللوجستي والمظلة السياسية الى هذه الاعتصامات التي تضمنت في بعض الحالات دعماً صريحاً لحركة “حماس” أو تبنت شعارات معادية للسامية.
كانت النتيجة الاستراتيجية التطبيع مع المواقف المتطرفة، فالمفاهيم التي كانت تعتبر متطرفة أو معادية للسامية صارت مقبولة ضمن الخطاب التقدمي بذريعة “مناهضة الاستعمار”، وهذا أدى إلى تحييد آليات الدفاع المؤسسية في الجامعات، في استراتيجية هدفها تحويل المجتمع تدريجاً عبر مؤسساته، مع التركيز على التعليم والقانون والإعلام.
يخلص التقرير إلى أن الجماعة تمكنت من إحداث “اعتماد مساري” داخل المؤسسات الأميركية. فما إن يُصبح إطار “الإسلاموفوبيا” أو “فقه الأقليات” جزءاً من الإجراءات القياسية في أقسام الموارد البشرية أو الجامعات أو وكالات الأمن، يصعب عكس القرارات الصادرة عنها حتى مع تغير القيادات أو الإدارات. وهذا يضمن تأثيراً أيديولوجياً طويل الأمد، يتجاوز الأهداف التكتيكية الضيقة.
ختاماً، التغلغل المؤسسي لـ”الإخوان المسلمين” في الغرب، كما تكشف عنه وثائق “التمكين” و”الجهاد الحضاري”، يشكل تحدياً منهجياً للمرونة الديموقراطية. يقول التقرير إن النتيجة النهائية لهذا التغلغل “تعتمد بشكل حاسم على قدرة الديموقراطيات على تطوير إطار تحليلي متكامل، وتنفيذ تدابير قانونية ملائمة، وتعزيز المرونة المؤسسية لمواجهة حملة التأثير الأيديولوجي المنسقة التي تعمل ضمن الحدود القانونية.

