لبنان مكشوف: سرّ التّفاوض مع إسرائيل

لبنان مكشوف: سرّ التّفاوض مع إسرائيل

الكاتب: جوزفين ديب | المصدر: اساس ميديا
24 تشرين الثاني 2025

بعد حرب 2024، وقبل انتخاب رئيس للجمهوريّة، كان النقاش في الكواليس الدبلوماسيّة يتمحور حول مَن هي الشخصيّة التي تستطيع أن تقود تفاوضاً بين لبنان وإسرائيل، من دون تحديد شكله يومها، ومَن هي الشخصيّة نفسها التي تستطيع قيادة الساحة الداخليّة إلى مفهوم الدولة بسلاح واحد وجيش واحد واقتصاد مضبوط دوليّاً بشكل عاقل للمحافظة على الاستقرار في البلاد.

تراوحت الأسماء بين أكثر من شخص، وحسمت الأيّام الثلاثة الأخيرة اسم الرئيس بناءً على المهمّة الموكلة إليه، وهي: التّفاوض مع إسرائيل، الاتّفاق مع “الحزب” على صيغة يعود فيها “الحزب” إلى الدولة ليصبح حزباً سياسيّاً. وعند نضوج هذه التسوية، جاءت كلمة السرّ: “انتخبوا جوزف عون”.

 

في حسابات الدول، اللجنة الخماسيّة تحديداً، لا إرادة دوليّة لحصول حرب أهليّة في لبنان. فاستقرار البلد طالما كان أولويّة حتّى في أكثر المراحل توتّراً في حرب سوريا. وبناءً على معطى الحرب التي خرج منها “الحزب” مهزوماً وجاهزاً للذهاب إلى تسوية، وُضعت خارطة طريق مفصّلة بكلّ العناوين والملفّات اللبنانيّة الداخليّة، واللبنانيّة–الإسرائيليّة، واللبنانيّة–الفلسطينيّة، واللبنانيّة–السوريّة. وُضعت الحلول وبدأ العمل عليها.

الذّهاب إلى الأسوأ

بعد انتخابه قال رئيس الجمهوريّة إنّه سيتابع شخصيّاً مع “الحزب” مسار التسوية وحصر السلاح. تقدّمت الأمور مع إطلاق سراح الأسرى المدنيّين من إسرائيل باتّجاه الناقورة، تزامناً مع طلب مورغان أورتاغوس تشكيل لجان دبلوماسيّة للتفاوض. ومنذ ذلك الوقت بدأت الأمور تتداعى باتّجاه الأسوأ بناءً على عدّة معطيات:

  • أوّلاً: رفض رئيسَي الجمهوريّة ومجلس النوّاب تشكيل لجان تضمّ شخصيّات مدنيّة، وتحديداً دبلوماسيّة.
  • ثانياً: البطء في مسار الحوار الرئاسيّ مع “الحزب” حتّى كاد أن يكون معدوماً.
  • ثالثاً: اعتراف علنيّ من نائب “الحزب” حسن فضل الله بوعد تلقّاه “الحزب” من الرئيس قبل انتخابه بعدم المسّ بالسلاح قبل الانتخابات، وأنّ حصر السلاح لن يحصل إلّا وفق استراتيجية دفاعيّة يوافق عليها “الحزب”.
  • رابعاً: عودة “الحزب” إلى إعادة هيكلة نفسه بشكل تدريجيّ من دون الدخول معه بأيّ مسار يؤدّي إلى منطق الدولة.
  • خامساً: عودة الحياة السياسيّة إلى business as usual بالتنفيعات والمحاصصة والمماطلة، وكأنّ شيئاً لم يكن

السّقوط المدوّي

بشكل مفاجئ وباكر جدّاً، بدأ كلّ شيء بالتراجع مع سقوط، لا بل إسقاط، خارطة الطريق الدوليّة التي كانت قد أُعدّت مسبقاً لنهوض لبنان، وفيها وقف النار، الانسحاب، حصر السلاح وإعادة إعمار الجنوب وكلّ لبنان.

ترافق هذا السقوط مع فوضى أميركيّة وتعدّد مبعوثين ووفود وتبعثر العناوين، وبدا أنّ كلّاً يغنّي على ليلاه. فرضت أحداث سوريا نفسها، ثمّ غزّة فرضت نفسها، فتقدّما في السباق مع لبنان الذي استمرّ بالتخبّط حتّى لحظة وضع المسؤولين فيه بين خيارين: الذهاب إلى إقرار حصر السلاح في الحكومة أو التصعيد. وبدفع من رئيس الحكومة حصل ذلك، ثمّ تبعه تخبّط لبنانيّ في التعامل مع مطلب التفاوض.

تفاوض مباشر

وصلت رسالة أميركيّة في أيلول الماضي إلى لبنان تقول: “اذهبوا للتفاوض المباشر مع إسرائيل لأنّ الرئيس ترامب يكاد ينفد صبره من السلطة في لبنان”. ومجدّداً، تمّ تقديم خارطة طريق طويلة للذهاب تباعاً إلى تفاوض يحفظ حقّ لبنان في حدوده عبر انسحاب كامل، وفي استقراره عبر وقف الاعتداءات، وفي إعادة إعماره، وعودة أسراه الأحياء والجثامين من إسرائيل. استمرّ لبنان برفض التفاوض المباشر متمسّكاً بالتفاوض عبر “الميكانيزم”، في موقف موحّد بين رئاستَي الجمهوريّة ومجلس النوّاب تحديداً.

تزامناً مع كلّ هذا المسار، منذ بداية العهد حتّى أسابيع مضت، كان “الحزب” يرسل إشارات يعبّر فيها عن انفتاحه على التفاوض الداخليّ والاتّفاق على “استراتيجية وطنيّة لا دفاعيّة” مقابل إخراج داخليّ رصين لا يعكس رضوخاً لإسرائيل.

لم ينجح أيّ مسار تفاوضيّ داخليّ ولا خارجيّ. وتراوح تقويم الأسباب بين سوء إدارة السلطة لهذا الملفّ، وبين استمرار إمساك إيران بورقة “الحزب” في لبنان.

دخلت الوساطة المصريّة من دون تنسيق مع السعودية، فسقطت فوراً، ومن أسقطها هو الحزب نفسه. لأن الحزب، بحسب المقرّبين منه، يريد وسيطاً يستطيع أن يبلّغ النهائيات بنجاح لكي يُنجز الحل. ثمّ وجّه الحزب رسالة إلى الرؤساء الثلاثة يطلب فيها تنفيذ اتّفاق وقف إطلاق النار أوّلاً. يومها، أساء “الحزب” تقدير التوقيت لأنّ الرسالة تبعها تصعيد إسرائيليّ هو في الواقع غير مرتبط بها. فالرسالة التي أراد “الحزب” تأكيدها يومها كانت للرئيس نبيه برّي الذي كان قد عبّر عن انفتاحه على توسيع “الميكانيزم”، وفيها قال “الحزب” في موضوع التفاوض: الأمر لي.

فشل السّلطة: الطّابة في ملعب “الحزب”؟

تمّ إبلاغ رئيس الجمهوريّة في نيويورك بضيق المهل المفتوحة أمام لبنان. بعد عودته، عادت أورتاغوس مباشرة بعد زيارتها إسرائيل برسالة تحمل مطلباً حاسماً للتفاوض وضبط المعابر. ثمّ جاء وفد الخزانة الذي كان واضحاً جدّاً في الشأن الاقتصاديّ والسياسيّ على حدّ سواء.

بادر بعدها الرئيس بالقول إنّ لبنان جاهز للتفاوض وينتظر الردّ الدوليّ، وبعد أيّام قال أمام زوّاره إنّ مبادرته لم تلقَ جواباً من الجهات المعنيّة. إلّا أنّ مصادر دبلوماسيّة قالت لـ”أساس” إنّ إجابة كاملة على طرح الرئيس كانت في طريقها إليه، لكنّه انتظر وصول السفير ميشال عيسى.

لم تنجح كلّ الطرق في أن تسلك السلطة السياسيّة في لبنان مسار التفاوض للذهاب إلى حلّ، مع استمرار سياسة شراء الوقت. وبناءً على هذا المعطى، وكلّ ما رافقه على مدى عشرة أشهر من فشل التعامل مع المبادرات الدوليّة المستمرّة، فقدت السلطة ثقة “الحزب” والقوى الدوليّة معاً. وفتحت بذلك مساراً يسمح بتفاوض مباشر مع “الحزب” من دون المرور بالسلطة السياسيّة، تماماً كما حصل بين الجانبين الإسرائيليّ والأميركيّ و”حماس” في قطاع غزّة، مع احتساب الفروقات أوجه الشبه.

في معلومات “أساس” أنّ فشل السلطة السياسيّة في تطبيق خارطة الطريق التي وُضعت لها منذ بداية العهد، وعودة “الحزب” إلى التقاط أنفاسه وإثبات حفاظه على جمهوره، بالإضافة إلى إصرار دوليّ على الانتهاء من ملفّات المنطقة سريعاً، كلّ ذلك وضع “الحزب” مجدّداً في المقدّمة على اعتباره الجهة الوحيدة التي تمتلك القدرة على التفاوض بحِرفيّة. وفي المعلومات أنّ جهات دوليّة عربيّة وغربيّة سبق أن طرقت بابه للتفاوض، وهذا ما سيظهر تباعاً في كلّ مرّة تعود السلطة وتثبت أنّها لم تكن على قدر المهمّة التي أُوكلت إليها.