محنةُ العهد وحِكمتُه: “وعي” وطنيّ وسطيّ

محنةُ العهد وحِكمتُه: “وعي” وطنيّ وسطيّ

الكاتب: محمد بركات | المصدر: اساس ميديا
24 تشرين الثاني 2025

يسعى رئيس الجمهوريّة جوزف عون إلى أن يكون “حَكَماً” بين اللبنانيّين المتصارعين، لا طرفاً. المِحنَةُ أنّه انتخِبَ في سياق توجّه إقليميّ ودوليّ هدفه تحرير لبنان من سيطرة إيران. ويصعب على الداخل والخارج الذي وقف خلف انتخابه، استيعاب أنّه يريد أن يكون “حَكَماً”. بل يذهب البعض إلى أنّه يرفض تنفيذ المهمّة التي انتُخِب من أجلها.

 

على صفيح ساخن، بين “الوُشاة” و”الرُعاة”، يتحرّك “وعيُ” العهد لنفسه.

خطاب عيد الاستقلال، من صور في الجنوب، بدا كأنّه “نسخة منقّحة” من خطاب القسم. نسخة أكثر واقعيّة، بعد عام في الحكم. لأنّ “روما من فوق، غير روما من تحت”. ولأنّ الجالس على كرسيّ الحكم، على خطّ زلازل موازين القوى، ليس كالآتي على حصان إقليميّ ودوليّ أبيض.

فميزان القوى في الداخل، على الرغم من اختلاله الشديد لغير مصلحة إيران وحزبها، ما يزال “ثقيلاً” على الجيش والرئاسة. والحرب المستمرّة ضدّ “الحزب” وعناصره وقادته تبدو عاجزة حتى الآن عن إيجاد ميزان قوى جديد في الداخل.

محاولة بناء وعي وطنيّ وسطيّ

من رحم هذه المحنة، تولد “حكمة” العهد الجديدة: اقتراح وعي وطنيّ وسطيّ. اختصره خطاب عيد الاستقلال في صفحته الخامسة، حيث يوازن بين التوجّه إلى “الحزب” وبيئته، وإيران وسياساتها، بالقول: “لمن يرفض الاعتراف بما حصل، إنّ الزمن تغيّر، والظروف تبدّلت، ولبنان تعب من اللادولة، واللبنانيّون كفروا بمشاريع الدويلات، والعالم كاد يتعب منّا، ولم نعد قادرين على الحياة في ظلّ انعدام الدولة”.

يذهب أبعد من السلاح ومن “الحزب”، إلى مخاطبة إيران: “المطلوب أكثر، هو حصر ولاء اللبنانيّ بوطنه، وحصر انتمائه الدستوريّ والقانونيّ إلى دولته”.

ثمّ ينتقل إلى مخاطبة ما يعتبره النصف الثاني من اللبنانيّين، بالقول: “ليس صحيحاً ولا مقبولاً أن نتصرّف وكأنّ جماعة لبنانيّة زالت أو اختفت أو هُزمت… هؤلاء ضحّوا وبذلوا وأعطوا دماً وشهادات. والآن علينا جميعاً أن نعود معهم ومع كلّ اللبنانيّين، إلى حضن الوطن، وتحت سقف الدولة الحصريّ الذي لا سقف سواه، بلا اجتهادات ولا استثناءات”.

أهمّيّة الوعي الوسطيّ في هذه اللحظة من تاريخ لبنان، أنّه يقدّم لشيعة الحزب “وطناً” لطالما رفضوا الاعتراف به سياسيّاً. ويقترح على الآخرين “دولة” تحمي حدودها وشيعتها وجنوبها، ولا تغمض عينيها عن “الأطراف”، أيّاً كان نوع تهميشهم.

هل الطّرفان بـ”الوزن” نفسه؟

هذه العصا الوطنيّة التي يحاول الرئيس إمساكها من الوسط، تكاد تفلت من بين يديه. لكنّه يكاد ينجح أيضاً. فقد باتت صورته عصيّة على التأطير. فلا “الحزب” قادراً على القول إنّه “سرق” العهد من فم الخصم. ولا خصوم “الحزب” راضين عن الرئيس.

هذه تُحسب للرئيس. ودونها الكثير. إذ لم يكن أيّ رئيس لبنانيّ على هذه الدرجة من الوسطيّة من قبل. ربّما فقط في سنوات ميشال سليمان الأولى.

تحدّث الرئيس عن “البعض” هنا و”البعض” هناك. فيما الأكثريّة خارج هذين “البعضين”. وهنا يمكن بناء “أكثريّة” الوعي الوطنيّ الوسطيّ.

لم يتأخّر الرئيس في القول إنّنا “شعب يؤمن بالسلام ويسعى إليه… ونحن حاضرون للشراكة فيه بكلّيّة وفاعليّة، إن عبر توسعة نطاق اتّفاقات سابقة، أو عبر أخرى جديدة، كي لا نصير على قارعة الشرق، وكي لا يتحوّل بلدنا عملة تفاوض، أو بدل تعويض في خارطة المنطقة الجديدة”.

5 نقاط… وأسئلة مفتوحة

بات الرئيس عون يدرك أنّ كلّ خطوة يقترب فيها من أجندته الوسطيّة، تبعده عن “الرُعاة” الذين حاربوا لإيصاله إلى القصر. فهل يبالي؟

الواضح أنّه يضع ما يراه مصلحة لبنان فوق كلّ شيء. وأنّه مستعدّ لتحمّل اللوم والعتب والسّهام، كي يقود لبنان إلى الشاطئ الذي يراه، وسط بحيرة تماسيح تريد التهامه. وقد ختم خطابه بخمس نقاط تختصر وسطيّته: “جهوزيّة الجيش والقوى المسلّحة لتسلّم النقاط المحتلّة فور وقف الخروقات وانسحاب الجيش الإسرائيليّ، وتكليف اللجنة الخماسيّة بالتأكّد من الأمر في منطقة جنوب الليطاني”، و”جهوزيّة لبنان للتفاوض، برعاية أمميّة أو أميركيّة أو دوليّة مشتركة، على أيّ اتّفاق يرسي صيغة لوقف نهائيّ للاعتداءات عبر الحدود، برعاية الدول الشقيقة والصديقة للبنان، عبر تحديد مواعيد واضحة ومؤكّدة، لآليّة دوليّة لدعم الجيش اللبناني، كما للمساعدة في إعادة إعمار ما هدّمته الحرب. بما يضمن ويسرّع تحقيق الهدف الوطنيّ النهائيّ والثابت، بحصر كلّ سلاح خارج الدولة، وعلى كامل أراضيها”.

يبدو الأمر سهلاً حين نقرأ النقاط الخمس. وتبدو الصورة ورديّة. وهي ليست نقاطاً تقنيّة. بل خريطة طريق لـ”الوعي الوطنيّ” المُقترَح.

من ثكنة “بنوا بركات” في صور. من أرض الجنوب، التي وصلها “بالسيّارة”، وليس بطائرة مروحيّة. كأنّه يقول إنّه جاء إلى الأرض من الأرض. فهو ابن العيشيّة في الجنوب. وكيفما احتسبنا رئاسته، فإنّ الجنوب نفسه، ساهم في صناعتها… من هناك، أطلق الرئيس عون “خطاب القسم 2”.

هو سعيٌ مشروع. يحاول من خلاله اختراع خطاب “عاقل” في لحظة جنون محليّة وإقليميّة ودوليّة. ويقترح “وعياً وطنيّاً”، بدلاً من “الوحدة” المصطنعة التي دأبنا على اجترارها منذ عقود.