تلاعب في البيانات المالية يهدّد تعويضات الأساتذة في المدارس الخاصة

تلاعب في البيانات المالية يهدّد تعويضات الأساتذة في المدارس الخاصة

الكاتب: ناديا الحلاق | المصدر: هنا لبنان
24 تشرين الثاني 2025

وإذا كانت نقابة المعلّمين قد دقّت ناقوس الخطر، فإنّ المعالجة الحقيقية تبدأ بالتزام إدارات المدارس بالشفافية واحترام القانون، وبموقف واضح من الدولة والجهات الرقابية لحماية صندوق التعويضات ومنع استنزافه. فحماية المعلّم ليست خيارًا، بل ضرورةً لضمان بقاء التعليم الخاص قائمًا على أسس العدالة والثقة.

في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب لبنان منذ سنوات، لا يزال المعلمون في المدارس الخاصة يدفعون أثمانًا متراكمة لانهيارٍ غير مسبوق طال كل القطاعات. لكن ما بدأ كأزمة رواتب وتدهور في القدرة الشرائية تحوّل اليوم إلى أزمة أخلاقية وقانونية تُهدّد مستقبل آلاف الأساتذة: تلاعبٌ ممنهج بالبيانات المالية المقدّمة إلى صندوق التعويضات، عبر تسجيل رواتب لا تتجاوز الحدّ الأدنى للأجور، في وقتٍ يتقاضى فيه المعلمون مبالغ أعلى بكثير، سواء بالليرة أو بالدولار.

ومع توسّع الشكاوى، تكشّفت ممارسات وصفتها نقابة المعلّمين بـ”الخطيرة والمرفوضة”، إذ تقوم إدارات بعض المدارس بالضغط مباشرة على المعلمين لإجبارهم على توقيع بيانات غير مطابقة للواقع، ما يهدّد بشكل مباشر تعويض نهاية خدمتهم، ويقوّض الثقة بالمؤسسات التربوية التي يفترض أن تكون نموذجًا للشفافية.

لكن خلف هذه الصورة، هناك قصص يومية يعيشها المعلّمون بعيدًا عن الأضواء، تعكس حجم الضغط والخوف والصمت المفروض عليهم.

شهادات المعلمين: خوف وضغوط وتوقيع قسري

يقول أحد المعلمين إنّ الإدارة استدعته إلى مكتب المحاسبة وطلبت منه توقيع بيان مالي بحجّة أن العملية “روتينية”. وما إن اطّلع عليه حتى اكتشف أنَّ راتبه مسجّل على أنه 28 مليون ليرة فقط.
ويقول لموقع “هنا لبنان”: “عندما اعترضت، قالوا لي: هذه مجرّد أوراق للصندوق. إذا لم تُوقّع، قد تتعطل أمورك. شعرت بأنه تهديد مبطّن”.

معلّمة أخرى رفضت أيضًا الكشف عن اسمها تؤكّد أن أحد مسؤولي المدرسة حاول إقناعها بأن الجميع يوقّع وأنّ رفضها سيُظهرها وكأنها تسبّب عرقلة داخل المدرسة. وتقول: “أعلم أن الرقم المكتوب لا يشبه راتبي، لكننا نعيش في خوف دائم من خسارة وظائفنا”.

أما معلّم ثالث، فيتحدّثُ بمرارةٍ عن شعوره بالمشاركة في ظلم نفسه: “راتبي الفعلي يتجاوز ثلاثة أضعاف الرقم المكتوب. لكن الإدارة قالت لنا صراحة: من لا يعجبه فليبحث عن مدرسة أخرى. نحن نحتاج العمل… فنسكت”.

هذه الشهادات، وإن جاءت بلا أسماء خوفًا من الانتقام الوظيفي، تعكس واقعًا باتت النقابة تتلقّى بشأنه عشرات الشكاوى.
ويكرّر المعلمون اليوم رسالتهم: “نريد فقط بيانات حقيقية تعكس رواتبنا الفعلية، لأن تعويض نهاية الخدمة هو مستقبلنا الوحيد بعد سنوات من التدريس”.

وفي هذا السياق، يعتبر عضو المجلس التنفيذي في نقابة المعلّمين باتريك رزق الله “أنّ ما تقوم به بعض إدارات المدارس الخاصّة من ممارسات غير مقبولة، من خلال الضغط على المعلّمين لإرغامهم على توقيع بيانات مالية لصندوق التعويضات تُظهر رواتبهم على أنها لا تتجاوز الحدّ الأدنى للأجور أي 28 مليون ليرة لبنانية هو تصرّف مرفوض، لأنه لا يعكس الواقع الفعلي للرواتب، سواء بالليرة اللبنانية أو بالدولار، ويؤثّر بشكل مباشر في قيمة تعويض نهاية الخدمة، ما يُعدّ مسًّا واضحًا بحقوق المعلّمين”.

وتابع رزق الله أنّ النقابة “ترفض هذا التواطؤ الصّريح ضدّ حقوق أفراد الهيئة التعليميّة”، و”تؤكّد أنّ أيّ تلاعب بالأرقام هو تقويض لأسس العدالة في احتساب التعويضات”.
وذكّر “بأن الحسومات الشهرية من رواتب المعلّمين كما والمساهمات التي تُسدَّد لصندوق التعويضات تصبّ بشكل مباشر في تحسين الوضع المالي للصندوق، الذي لا يزال يعاني من تداعيات الانهيار الاقتصادي منذ أكثر من ست سنوات”.
اعتبر أنّ “دقة البيانات وشفافيتها ليست فقط واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا، بل شرط أساسي لإنقاذ صندوق التعويضات وضمان استمراريّته، وبالتالي تحسين تعويضات نهاية الخدمة للأساتذة الذين أفنوا حياتهم في خدمة الأجيال”.

وطالب رزق الله إدارات المدارس المعنيّة “بالتراجع الفوري عن هذه الممارسات”، كما طالب إدارة الصندوق “برفض أي بيان مالي لا يعكس الواقع الحقيقي لرواتب المعلّمين، مؤكّدًا أنّ النقابة “تتابع هذا الملفّ بكل جديّة حفاظًا على كرامة المعلّم وحقوقه”.
وختم رزق الله بتوجيه رسالة إلى المعلّمين “بالتكاتف وعدم التوقيع على أي بيان مالي لا يعكس الحقيقة الفعليّة للرواتب”.

أمام هذا الواقع المقلق، يجد المعلّمون أنفسهم عالقين بين واجبهم التربوي الذي أدّوه لسنوات طويلة، وبين ممارسات تضرب في صميم حقوقهم وتهدّد مستقبلهم المهني والاجتماعي. فالتلاعب بالبيانات المالية لا يُعدّ مجرّد خطأ إداري أو تجاوز بسيط، بل هو ممارسة تمسّ بكرامة المعلّم، وتضع مصير تعويضاته على المحكّ في وقتٍ بات فيه هذا التعويض الملاذ الأخير للكثيرين.

وإذا كانت النقابة قد دقّت ناقوس الخطر، فإنّ المعالجة الحقيقية تبدأ بالتزام إدارات المدارس بالشفافية واحترام القانون، وبموقف واضح من الدولة والجهات الرقابية لحماية صندوق التعويضات ومنع استنزافه. فحماية المعلم ليست خيارًا، بل ضرورةً لضمان بقاء التعليم الخاص قائمًا على أسس العدالة والثقة.

وفي النهاية، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: كيف يمكن لمؤسسات تربوية أن تطالب معلميها بغرس قيم الصدق والنزاهة في نفوس الطلاب، فيما تَفرض عليهم ممارسات لا تمتّ للتربية بصلة؟
يبقى الأمل بأن يتحوّل صوت المعلّمين إلى فعل، وأن تُترجم التحذيرات إلى إجراءات، قبل أن يفقد هذا القطاع أحد أهم أعمدته: المعلّم.