
«الحزب» وكابوس الاستنزاف القاتل
ليس بسيطاً ما يتعرّض له «حزب الله» منذ صيف 2024. بالتأكيد، هو لم يتصور يوماً أنّه سيصل إلى الوضعية المريرة التي يتخبّط فيها حالياً. وأسوأ ما فيها هو أنّه خسر كل الفرص الممكنة للعودة إلى «قواعد الاشتباك الذهبية» التي كان يتمتع بها سابقاً، وفي ظلها كان يمتلك كثيراً من أوراق القوة وهوامش المبادرة، سياسياً وعسكرياً.
في ذكرى مرور عام على اتفاق وقف النار (27 تشرين الثاني 2024)، تبين أنّ «حزب الله» خسر في الـ365 يوماً الفائتة نحو 350 عنصراً أو كادراً، أي ما يوازي عنصراً واحداً أو كادراً كل يوم. ومعظم هؤلاء هم من النخب الذين اصطادتهم المسيّرات الإسرائيلية في الجنوب والبقاع، وصولاً إلى بيروت، حيث تمّ تتويج التصفيات باستهداف رئيس أركان «الحزب» هيثم الطبطبائي، الذي تبين أنّه كان الدماغ العسكري والأمني المركزي.
من البديهي أن يقوم «الحزب» كل يوم، ومع كل ضربة إسرائيلية لمقاتليه وكوادره، بمراجعة حساباته: هل يبقى صامتاً هادئاً ملتزماً وقف النار من جانبه أم يقلب الطاولة مجدداً، «علَيّ وعلى أعدائي يا رب»؟ ويدافع أصحاب كل من النظريتين عن صوابية موقفهم، في داخل «الحزب» كما في بيئته.
1- هناك من يعتقد أنّ أي ردّ من جانب «الحزب» في ظل المعطيات المحلية والإقليمية الحالية لن يقدّم أي فائدة عسكرية أو سياسية، لأنّ محور إيران بكامله مربك، في طهران نفسها، كما في لبنان وغزة واليمن والعراق، عدا عن أنّه خسر سوريا بكاملها. وأي حركة عسكرية يقوم بها «الحزب» في لبنان اليوم، ولو كانت بسيطة، ستستخدمها إسرائيل والولايات المتحدة لتفجير حرب لا هوادة فيها عليه وعلى وبيئته ومناطقه في شكل ساحق. وهذه مسؤولية لا يجرؤ أحد على تحمّلها. لذلك، يميل أصحاب هذا الرأي إلى ضرورة تحمّل الضربات بهدوء، لاستعادة جزء من القدرات التي تمّت خسارتها في الحرب، وانتظار باب فرج من إيران، إذا نجحت في استعادة مفاوضاتها مع الولايات المتحدة، وفتح ثغرات ممكنة في جدار العلاقات مع تركيا والحكم الجديد في سوريا. كما يدعو أصحاب هذا الرأي إلى استعجال الاستفادة من وضعية «نصف الهزيمة» الحالية، للحصول على مكتسبات في داخل التركيبة اللبنانية والسلطة، قبل الاضطرار إلى التخلّي عن السلاح. ويصف هؤلاء أنفسهم بالبراغماتيين. وربما يتماهون بمقدار معيّن مع الشركاء في الثنائية الشيعية، أي حركة «أمل» التي تدعو إلى إيجاد مخارج واقعية تجنّب الوضع الشيعي في لبنان كوارث محتملة، وهي تسعى إلى إقناع القيادة الإيرانية بهذا الموقف.
2- في المقابل، هناك رأي أكثر تشدّداً في داخل «الحزب» مفاده أنّ انتظار إسرائيل تشن ضرباتها كيفما يحلو لها، في أي منطقة، سيمنحها هامش الاستمرار في ما تفعله من دون ضوابط. كما أنّ خصوم «الحزب» في الداخل والخارج سيزدادون اقتناعاً بأنّهم باتوا الأقوى، وسيستغلون ذلك للانقضاض على «الحزب» وانتزاع كل عناصر قوته منه، فيخسر الميزات التي تمتع بها حتى اليوم، باعتباره الأقوى وصاحب القرار الأول في السلطة. ولذلك، في رأي هؤلاء، يجب على «الحزب» أن يبرهن للآخرين أنّه ما زال قوياً. وفي أي حال، يبقى ذلك أفضل من حال الجمود والصمت بعد كل ضربة، والتي تعني الاستسلام.
حتى اليوم، لم يُحسم هذا الجدل داخل «الحزب» لأنّه يشكّل انعكاساً لجدل مماثل في طهران نفسها بين تيارين متشدّد ومتساهل، أو عسكري وسياسي. ومقاربة «الحزب» الحالية أقرب إلى أصحاب الرأي المتساهل، لكنها تتأثر بالمتشدّدين. وهذا يظهر على مستويين: في التعاطي الميداني مع الجيش اللبناني، لجهة الاكتفاء بتسليم جزئي لمخازن السلاح والأنفاق والمراكز في جنوب الليطاني، والتشدّد برفض تسليم أي شيء في شماله. ولكن، بالنسبة إلى إسرائيل، هي تنفّذ عملياتها العسكرية من دون أي ردّ. ولذلك، هي تتمادى في ضرباتها وتقوم برفع مستوياتها وتوسيع إطارها الجغرافي من دون أي تحفظ. وهذا ما يطرح أسئلة حول مستقبل الوضع.
حتى اليوم، تستثمر إسرائيل في «ذريعة» سلاح «حزب الله»، وتعتمد استراتيجية التصعيد المدروس، فتشن غارات مركّزة وعمليات تصفية نوعية، مع تهديد مستمر، لدفع الحزب إلى الانسحاب من الجنوب من دون الحاجة إلى توغل بري واسع. لكن التوغل قد يحصل في أي لحظة. وهي تستمر في تنفيذ ضرباتها «النوعية» ضدّ أهداف بعيدة شمال الليطاني، بذريعة استهداف مخازن أو قادة، لتثبيت تفوقها النوعي. كما تعمل لتثبيت «المنطقة العازلة». وتستفيد إسرائيل من إرباك لبنان الرسمي العاجز عن استعادة أي هامش للقرار الوطني والسيادي، لا من إسرائيل ولا من «حزب الله».
السيناريو الأرجح في المرحلة المقبلة ليس «التسوية الكبرى» ولا «الحرب الشاملة»، بل هو «مراوحة الاستنزاف» التي يتمّ بموجبها تثبيت هدنة هشة، تنزع بموجبها إسرائيل الفاعلية العسكرية المباشرة للحزب جنوباً، وتستمر في توجيه الضربات المدروسة شمالاً بذريعة المخزون المتبقي، بينما يبقى لبنان الرسمي ضعيفاً ومستهلكاً وعاجزاً عن استعادة زمام المبادرة والسيادة، ومُعلّقاً بين بقاء «الذريعة» الإسرائيلية وحتمية «ورقة الضغط» الإيرانية. وهذا الاستنزاف سيكون مريحاً لإسرائيل، لكنه قاتل لـ«حزب الله» ولبنان. والمأزق يكمن في أنّ أحداً لن يستطيع منع إسرائيل من الاستمرار فيه بلا ضوابط ولا حدود.
والمخرج الوحيد المحتمل، للجميع في لبنان، هو أن يعلن «الحزب» بجرأة تسليم كل سلاحه إلى الجيش، كما فعلت كل الميليشيات التي كانت مدججة بالسلاح ذات يوم. فإذا حصل ذلك عاجلاً، وقبل أن تتمادى إسرائيل، بالضرب أو التوغل أو القضم، أي قبل فوات الأوان، فربما تستطيع الدولة بما تملكه من رصيد عربي ودولي أن تطلق العنان لمبادرات تفرمل طموحات إسرائيل… وإلّا فالمستقبل أَكثر سواداً.
