من قلب الضاحية إلى عمق الإقليم… ارتدادات ما بعد الطبطبائي

من قلب الضاحية إلى عمق الإقليم… ارتدادات ما بعد الطبطبائي

الكاتب: ربيع دندشلي | المصدر: المدن
26 تشرين الثاني 2025

تعيش المنطقة اليوم لحظة انتقالية حسّاسة يصعب توصيفها بإعلان حرب أو هدنة. إنها منطقة رمادية تتقاطع فيها مفاوضات غير مرئية بين واشنطن وطهران، ورهانات سعودية على الاستقرار، وتصعيد إسرائيلي محسوب، في حين يقف لبنان، كعادته، عند خط النار من دون أن يمتلك القدرة على التأثير في اتجاهاته. 

وفي قلب هذه اللحظة جاء اغتيال هيثم علي الطبطبائي، أحد أبرز القادة الميدانيين في حزب الله، كضربة تُشبه فصلًا جديدًا لا مجرد حادثة أمنية عابرة. فالعملية لم تُقرأ كاستهداف فردي؛ بل كرسالة استراتيجية أرادت إسرائيل أن تقول عبرها إن ميزان الاشتباك لن يعود كما كان، وإن بنية الحزب القيادية نفسها أصبحت هدفاً مباشراً.

هذا التحوّل جعل المشهد اللبناني جزءاً من لوحة إقليمية أكبر، تُرسم ملامحها بين واشنطن وطهران والرياض وتل أبيب، في حين يبدو حزب الله مضطراً للتعامل مع الواقع الجديد بميزان أدقّ من أي وقت مضى.

واشنطن وطهران… مفاوضات بلا أوراق علنية واشتباك بلا حرب

لم يعد الحديث عن اتفاق نووي أو مسار تفاوضي شامِل مطروحاً بجدية. ما يجري بين الولايات المتحدة وإيران اليوم أقرب إلى إدارة زمنية للأزمة، لا إلى إنتاج حلّ نهائي لها. واشنطن، الموزّعة بين صعود تحديات دولية كالصين وروسيا واستحقاقاتها الداخلية، ليست في وارد فتح جبهة إقليمية واسعة. هدفها الواضح هو تبريد الساحات الحساسة ومنع الانفجار الشامل.

في المقابل، تبدو طهران منهكة بالضغوط الاقتصادية والسياسية، وتدرك أن أي مواجهة كبرى ستتمدّد إلى ساحاتها الإقليمية من العراق إلى سوريا ولبنان، وهذا ما يجعلها تميل إلى ضبط الإيقاع العسكري أكثر من دفعه إلى التصعيد.

ضمن هذه المعادلة، يتحول لبنان إلى ساحة قياس حرارة العلاقة بين الطرفين: كل ارتفاع في وتيرة الاغتيالات والقصف، وكل خفض في وتيرة الاشتباك، هو انعكاس مباشر لحجم الانفتاح أو الانسداد في الممرات الخلفية بين واشنطن وطهران. إنها لعبة رسائل لا يعلنها أحد لكن الجميع يفهمها.

في المقابل، ومنذ إطلاق رؤيتها الاقتصادية والتحولية، بدأت المملكة العربية السعودية تنظر إلى الإقليم بمنطق جديد: لا نمو دون استقرار، ولا استثمار في ظل حروب مفتوحة. هذا التوجّه دفعها إلى إعادة صياغة علاقتها مع إيران، من المواجهة إلى إدارة الخلاف، كما ظهر في اتفاق بكين في العام 2023.

في لبنان، ترفض الرياض الدخول في مواجهة مباشرة مع حزب الله أو تقديم دعم مجاني لقوىً سياسية فقدت ثقة الشارع. وتربط أي انخراط اقتصادي أو سياسي بإصلاحات ملموسة واستقرار مؤسسي حقيقي. لذلك تميل المملكة اليوم إلى لعب دور الضابط الناعم للإيقاع، فهي لا تملك رغبة في انفجار إقليمي يهدد مشاريعها العملاقة، ولا ترى مصلحة في ترك لبنان ينهار، لكنها أيضاً لا تنوي القفز إلى الواجهة قبل وضوح مسار الترتيبات الكبرى بين واشنطن وطهران.

السعودية هنا ليست لاعب ظلّ؛ بل لاعب توازن. غيابها يعقّد أي تسوية، ووجودها يمنح الاستقرار وزناً عربياً لا يمكن تجاوزه.

اغتيال الطبطبائي… ضربة تُصيب “العصب الخفي” 

شكّل مقتل الطبطبائي نقطة انعطاف لافتة. فالرجل ليس شخصية احتفالية أو إعلامية؛ بل من الجيل الميداني الصامت الذي تولّى إدارة وحدات عملياتية حسّاسة، وشهد انتقال الحزب من الجنوب إلى سوريا واليمن، ثم العودة إلى الجنوب ضمن استراتيجية إعادة توزيع القوى.

العملية الإسرائيلية التي استهدفته لم تكن مجرد تصفية قيادي؛ بل كانت ضربة في “عمق العمق”. فهي أعادت إسرائيل إلى قلب الضاحية الجنوبية بعد وقف إطلاق النار، ووجّهت رسالة مزدوجة: قيادة الحزب ليست محصّنة، والقدرات التي تمسك بالمفاصل العملياتية يمكن ضربها مهما كانت محمية.

اختيار الطبطبائي تحديداً يحمل دلالات واضحة:

  • يمثل طبقة الخبرة العسكرية التي يصعب تعويضها بسرعة

  • يرتبط بوحدات نخبوية ذات طابع حساس في خطوط الجبهة

  • كان جزءاً من حلقات إعادة بناء القوة بعد الحرب الأخيرة

إسرائيل أرادت القول إن زمن الاستنزاف البطيء مستمر، وإن “تفكيك الخبرة” أصعب وأكثر إيلاماً من تدمير مستودع أو موقع.

ردّ الحزب جاء محسوباً: امتصاص الضربة، إعادة توزيع الأدوار، وتكثيف العمل على تأهيل كوادر بديلة. فالحزب يدرك أن الردّ الكبير يفتح باب حرب لا يريدها، وأن المعركة الحقيقية الآن هي معركة الزمن: من يُرهق الآخر أكثر وأطول؟

إسرائيل وتصعيد محسوب لا يذهب إلى الحرب 

تتحرك إسرائيل اليوم بمنطق “الضرب تحت السقف”. تريد إعادة فرض الردع، وطمأنة جمهورها، وإجهاض قدرة حزب الله على إعادة بناء قدراته. لكنها تدرك أن حرباً شاملة ستكون مكلفة وغير قابلة للضبط، ولذلك تركّز على ضرب القيادات الوسيطة وخطوط الإمداد ومراكز التدريب.

اغتيال الطبطبائي هو جزء من هذه الاستراتيجية: استهداف بنية الخبرة لا بنية السلاح فقط. إنه قتل “الذاكرة العسكرية”، لا مجرد إزاحة شخص من موقعه.

ومع ذلك، تعرف تل أبيب أن أي خطأ في الحسابات قد يشعل مواجهة لا تريدها ولا تستطيع إنهاءها بسهولة، وهو ما يجعلها تعمل على حافة الهاوية من دون السقوط فيها.

أما حزب الله فيقف عند تقاطع بالغ الحساسية، وهو ارتباطه بطهران، ومواجهته لإسرائيل، وتعايشه مع دولة لبنانية منهارة. الاغتيالات تشكّل ضغطاً مباشراً على بنيته العسكرية، لكنها أيضاً تفرض عليه إعادة النظر في وتيرة الاشتباك، وتطوير بنية القيادة، والانتقال من نموذج مركّز إلى نموذج أوسع وأكثر مرونة.

والحزب اليوم لا يبحث عن حرب، لكنه أيضاً لا يستطيع أن يظهر بمظهر العاجز. لذلك يوازن بين ردود محسوبة ورسائل ردع، وإعادة بناء صامتة لقدراته البشرية والتقنية، مع ترك قرار الحرب الكبرى خارج الحدود اللبنانية وبيد الحسابات الإيرانية–الإسرائيلية.

لبنان… بلد يتلقى ولا يصنع

في كل هذا المشهد، يبدو لبنان الحلقة الأكثر هشاشة. دولة مفككة، اقتصاد منهار، نزوح متزايد من الجنوب، وانعدام قرار مركزي. كل ضربة إسرائيلية تترك أثراً اجتماعياً واقتصادياً أكبر من أثرها العسكري، وكل اغتيال يضيف طبقة جديدة من القلق والارتباك.

لبنان لا يحدد وتيرة التصعيد؛ بل يعيش نتائجها. ولا يملك ترف الانتظار، لكنه أيضاً لا يملك أدوات التدخل.

من هنا يمكن القول أن المنطقة دخلت مرحلة يصعب التراجع عنها بسهولة: لا حرب، ولا سلام، ولا حلّ قريب. واشنطن وطهران تديران الوقت، السعودية تحرس الاستقرار بصمت، إسرائيل تواصل استراتيجية “التآكل”، وحزب الله يحاول النجاة بلا انزلاق، وفي غياب تسوية كبرى، سيبقى لبنان ساحة اختبار، لا طرفاً مقرِّراً. أما اغتيال الطبطبائي، فقد يكون بداية فصل جديد لا نهاية مرحلة سابقة.