
الأرقام تكشف حجم تهريب المحروقات بين لبنان وسوريا
منذ سقوط نظام الأسد، كثرت التقارير الإعلاميّة والحقوقيّة التي تناولت تنامي تهريب المحروقات من لبنان إلى سوريا، بالاستناد إلى شهادات ومشاهدات وتقارير مصوّرة، ومنها ما كشفته “المدن” في عدّة محطات. في بعض الأحيان، ارتبطت الظاهرة بشح الوقود في بعض المناطق السوريّة الحدوديّة، أو بفارق الأسعار بين البلدين، وكانت وتيرة عمليّات التهريب تتفاوت في كل مرحلة زمنيّة بحسب اشتداد أو تراجع حدّة هذه العوامل. وفي الأصل، كان استمرار هذه الظاهرة مسألة متوقّعة وطبيعيّة، بالنظر إلى تداخل النسيج الاجتماعي في تلك المناطق، بين جانبي الحدود، ما يجعل هذه العمليّات بالنسبة للسكّان مجرّد تبادل للسلع بحسب ما تقتضيه الحاجة.
“المدن” حلّلت أرقام واردات المحروقات إلى لبنان، للنصف الأوّل من العام الحالي، وهو ما كشف تضخّماً كبيراً في حجم المحروقات المستوردة خلال هذا العام، مقارنة بالعامين الماضيين. وهذا ما يشير إلى أنّ ما يستورده لبنان حاليًا بات يتجاوز، وبنسبة كبيرة، الحاجة المألوفة لسوقه المحلّي. بل يمكن القول إنّ حجم استيراد المحروقات عاد إلى المستويات التي عرفها لبنان خلال الحقبة التي تفشّى فيها تهريب الوقود، قبل رفع الدعم عن البنزين والمازوت في لبنان.
لكن وبخلاف “مرحلة الدعم” التي انتهت، لم يعد التهريب اليوم يشكّل أي استنزاف لاحتياطات المصرف المركزي اللبناني، كما لم يعد يؤثّر سلباً على الأوضاع النقديّة المحليّة، بل بات يدرّ العوائد للخزينة والشركات المستوردة اللبنانيّة.
الأرقام تكشف حجم الظاهرة
تشير الأرقام التي نشرها مصرف لبنان مؤخراً إلى أنّ لبنان استورد، خلال النصف الأوّل من العام الحالي، 3.33 مليون طن متري من المشتقّات البتروليّة، وهو ما يشكّل زيادة ضخمة مقارنة بحجم الاستيراد خلال النصف الأوّل من السنوات الماضية، والبالغ 2.39 مليون متري خلال العام الماضي، و2.52 مليون طن متري خلال العام 2023. وبهذا الشكل، يكون حجم استيراد المحروقات قد ارتفع خلال هذه السنة بنحو 938 ألف طن متري، خلال النصف الأوّل من العام 2025، مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، وبنسبة ارتفاع تقارب الـ 39%.
بطبيعة الحال، سجّل لبنان خلال العام الراهن انتعاشًا نسبيًا في العجلة الاقتصاديّة، مقارنة بالعام الفائت. غير أنّ هذه الانتعاشة، المحدودة الأثر، لا تفسّر ضخامة ونسبة الارتفاع في حجم الواردات البتروليّة، وفقاً للبيانات المُعلن عنها. ولذا، من الواضح بحسب الأرقام أنّ ما يستورده لبنان لا يرتبط حصراً بحركة الطلب الداخلي، بل بارتفاع الطلب على المحروقات اللبنانيّة من الجانب الآخر من الحدود في سوريا.
وللتأكيد على هذه النقطة، يمكن التذكير بأن حجم استيراد المحروقات الحالي، خلال العام 2025، عاد ليُماثل حجم الاستيراد في الحقبة التي شهدت اتّساعاً في عمليّات التهريب، حين بلغت واردات المشتقات البتروليّة 3.22 مليون طن متري في النصف الأوّل من 2021، و3.49 مليون طن متري في النصف الأوّل 2020. مع الإشارة إلى أنّ الدعم الذي قدّمه مصرف لبنان، في تلك المرحلة، لاستيراد المحروقات، حفّز عمليّات التهريب بسبب تنامي فارق الأسعار بين جانبي الحدود.
في تصريحاته الأخيرة، أعلن عضو نقابة أصحاب المحطّات جورج البراكس أنّ متوسّط استهلاك لبنان لمادّة البنزين، خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام، بلغ نحو 8.3 مليون ليتر يومياً. مع العلم أنّ البراكس نفسه، كان قدّر هذه المتوسّط بنحو 6 مليون ليتر يومياً في تصريحات سابقة عام 2023، وهو ما يؤكّد وجود زيادة بنسبة 38% بين الفترتين. هذه النسبة، التي تدل عليها تصريحات البراكس، تشابه نسبة الزيادة التي يمكن استخلاصها من مقارنة أرقام الاستيراد، التي أفصح عنها مؤخراً مصرف لبنان.
في جميع الحالات، من المهم التنويه أنّ حجم التهريب إلى سوريا خلال العام الحالي لم يكن مستقرًّا، على امتداد أشهر السنة. إذ من المعلوم أنّ أزمة شحّ المحروقات في سوريا شهدت انفراجات تدريجيّة، مع بدء تخفيف العقوبات عن النظام الجديد، بعد سقوط النظام السابق. كما تباين حجم الفروقات في الأسعار بين البلدين، بحسب القرارات التي جرى اتخاذها في كل بلد، وهو ما أثّر على حركة التهريب الحدوديّة في كل مرحلة.
فعلى سبيل المثال، بلغ ثمن ليتر البنزين في السوق الموازية في سوريا قرابة 1.66 دولار أميركي خلال شهر كانون الثاني الماضي، بعيد سقوط نظام الأسد، مقارنة بـ 0.82 دولار أميركي في لبنان، ما عنى إمكانيّة تحقيق ربح بنسبة 102% بمجرّد نقل الوقود بين جانبي الحدود.
أمّا في الوقت الراهن، بات سعر ليتر البنزين في سوريا (95 أوكتان) يقارب الـ 0.91 دولار أميركي، أي ما يعلو مثيله في لبنان بنسبة 10% فقط. ولهذا السبب، وبحسب مصادر عاملة في قطاع المحروقات، شهدت عمليّات التهريب تراجعات ملحوظة خلال الأشهر الماضية، مقارنة بالنصف الأوّل من العام.
الأثر الاقتصادي
لطالما ارتبطت ظاهرة تهريب المحروقات، في أذهان اللبنانيين، بمدلولات شديدة السلبيّة. فهذه الظاهرة كانت أحد أسباب استنزاف احتياطات المصرف المركزي، في بدايات الأزمة، حين لجأ المصرف إلى تمويل استيراد البنزين والمازوت من دولاراته بسعر الصرف الرسمي. وخلال مقابلته الأخيرة، حاول الحاكم السابق للمصرف رياض سلامة توجيه اللوم إلى هذه الظاهرة بالتحديد، وربطها بالانهيار الحاصل، حين أشار إلى أنّ لبنان كان يموّل “صمود” النظام السوري على حساب استقراره النقدي.
لكن في الوقت الراهن، لا يمكن ربط ظاهرة التهريب بالمدلولات السلبيّة نفسها. فاستيراد المحروقات يتم تمويله من قبل الشركات المستوردة، بالدولارات الطازجة، من دون أن يؤثّر ذلك على ميزانيّة المصرف المركزي. والشركات المستوردة، تتقاضى ثمن المبيع بالدولار النقدي، مع هامش ربح، ما يعني أن بيع المحروقات إلى سوريا لا يؤثّر في حجم المعروض النقدي من العملة الصعبة، في سوق القطع. وزيادة الاستيراد، بفعل بيع المحروقات سوريا، يزيد من إيرادات الحكومة اللبنانيّة، من الرسوم المفروضة على بيع المحروقات.
ومع ذلك، تبقى المشكلة الأساسيّة هي استخدام شبكات التهريب نفسها بين البلدين لغايات أخرى، مثل الاتجار بالسلع الزراعيّة والمواد الغذائيّة، وهذا ما يضر بالسياسات الحمائيّة التي يضعها كل بلد للدفاع عن قطاعه الزراعي في كل موسم. وهذا بالتحديد ما تشير إليه نقابات وجمعيّات المزارعين اللبنانيين، التي تكرّر الحديث عن خطورة إغراق السوق المحلّي بالسلع المهرّبة من الجانب الآخر من الحدود.
