لبنان وقبرص: الاتّفاق البحريّ خطوة أولى… لا إنجاز

لبنان وقبرص: الاتّفاق البحريّ خطوة أولى… لا إنجاز

الكاتب: محمد فحيلي | المصدر: اساس ميديا
30 تشرين الثاني 2025

بينما كان الرئيسان جوزف عون ونيكوس خريستودوليدس يردّدان أمام الكاميرات أنّ اتّفاق ترسيم المنطقة الاقتصاديّة الخالصة بين لبنان وقبرص “تاريخيّ” و”استراتيجيّ”، كان اللبنانيّون يعيشون يوماً عاديّاً من أيّام الانهيار الطويل: انقطاع كهرباء كالمعتاد، مودعون يفاوضون على فتات أموالهم، وشباب يحلمون بجواز سفر وهجرة قبل أيّ شيء آخر. هنا تظهر خطورة اللحظة: أن نضيف اتّفاقاً جديداً إلى متحف “الإنجازات الورقيّة”، بدل أن يكون هذا الاتّفاق بداية تغيير حقيقيّ في طريقة إدارة الدولة للفرص والموارد.

ليس الاتّفاق مع قبرص تفصيلاً. هو حلقة في مسار طويل بدأ منذ عام 2007 مع توقيع اتّفاقٍ أوّليّ لترسيم الحدود البحريّة، ثمّ عُلِّق بسبب النزاع البحريّ مع إسرائيل وبسبب العجز المزمن عن اتّخاذ قرار سياديّ واضح في الداخل. بعد اتّفاق الترسيم مع إسرائيل عام 2022، أُعيد تحريك الملفّ، وتمكّن لبنان اليوم من توقيع النسخة النهائيّة مع قبرص وتثبيت حدود منطقته الاقتصاديّة الخالصة.

هذا يعني، نظريّاً على الأقلّ، أنّ جزءاً أساسيّاً من الغموض القانونيّ الذي كان يحيط بحدود لبنان البحريّة الغربيّة قد بدأ يتراجع، وأنّ البلد بات قادراً على أن يقدّم لنفسه وللعالم “خريطة بحريّة محسومة” بدل خرائط التكهّنات.

لا تقتصر أهميّة ذلك على رسم خطٍّ على البحر، فالشركات العالميّة التي تستثمر في النفط والغاز لا تقترب من مناطق متنازع عليها، ولا تغامر بأموالها في بيئات قانونيّة ضبابيّة. حين تُحسم الحدود مع قبرص، يصبح من الأسهل على لبنان أن يطرح بلوكاته البحريّة في جولات تلزيم أقلّ مخاطرة، وأن يُقنع شركات جدّيّة بأنّ هناك إطاراً قانونيّاً مستقرّاً يمكن العمل ضمنه، خصوصاً في لحظة يسعى فيها الاتّحاد الأوروبيّ إلى تنويع مصادر الطاقة بعيداً عن الغاز الروسيّ، ويعيد النظر في دور شرق المتوسّط، الذي يشمل مصر وقبرص وإسرائيل ولبنان، كأحد الأحواض البديلة.

الرّبط الكهربائيّ مع قبرص

إلى جانب الترسيم البحريّ، يحمل الاتّفاق بُعداً آخر لا يقلّ أهميّة يتمثّل في الحديث عن ربط كهربائيّ بين لبنان وقبرص عبر كابل بحريّ. هذا الربط، إذا سار في الاتّجاه الصحيح، يمكن أن يكون جزءاً من شبكة أوسع تصل شرق المتوسّط بأوروبا.

في بلد يعيش منذ عقود على عجز كهربائيّ مزمن، تصبح فكرة الربط مغرية: لبنان الذي فشل في بناء قطاع طاقة وطنيّ قادر، يحلم اليوم بأن يكون جزءاً من منظومة أوسع، يستورد منها الكهرباء حين يحتاج، وربّما يصدّر طاقات بديلة أو غازيّة عندما تتوافر الظروف المناسبة. لكنّ هذا الحلم، مهما بدا مغرياً، يبقى مشروطاً بإصلاح البيت الداخليّ قبل تعليق الآمال على الأسلاك العابرة للبحر.

مع كلّ هذه الفرص النظريّة، لا بدّ من التوقّف قليلاً أمام القيود القاسية التي لا يمكن القفز فوقها. أوّل هذه القيود أنّ لبنان لم يعلن حتّى اليوم أيّ اكتشافات تجاريّة مؤكّدة للغاز في مياهه. كلّ ما يُقال عن “ثروات هائلة” يبقى في إطار الاحتمال، لا اليقين. بلوك واحد حُفِر ولم يقدّم حتّى الآن ما يكفي ليتحوّل إلى مشروع إنتاجيّ.

كيف يمكن، إذاً، أن نبني وعوداً كبيرة على أساس جيولوجيّ لم تثبت جدواه بعد؟

لا تُختصر صورة لبنان في أعين المستثمرين بالبحر وحده، بل هناك دولة منهارة ماليّاً، نظام مصرفيّ شبه مشلول، موازنة عامة مُثقَلة بالعجز، وتصنيف متدنٍّ على لوائح المخاطر المرتبطة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب. أيّ شركة عالميّة تحسب هذه العناصر بدقّة قبل أن تضع منصّة حفر واحدة في البحر.

يتمثّل قيدٌ آخر لا يقلّ حساسيّةً في استمرار النزاع البحريّ مع سوريا شمالاً، حيث تتقابل البلوكات اللبنانيّة مع بلوكات سوريّة وتتداخل معها. لا يلغي الاتّفاق مع قبرص الحاجة إلى تسوية واضحة مع دمشق، ولا يمنع أن يُستعمَل أيّ توتّر على هذا الخطّ لردع الشركات عن الاستثمار في البلوكات القريبة.

إلى الشمال الشرقيّ، يطلّ العامل التركيّ برأسه. أعلنت أنقرة رفضها الاتّفاق بين لبنان وقبرص واعتبرت أنّه يتجاهل حقوق القبارصة الأتراك. قد لا يغيّر هذا الموقف في قانونيّة الاتّفاق وفقاً لقواعد الأمم المتّحدة، لكنّه يذكّرنا بأنّ شرق المتوسّط ما يزال مسرحاً لصراع النفوذ بين تركيا وقبرص واليونان، وأنّ لبنان لا يستطيع أن يتصرّف وكأنّ العالم حوله ساكن وهادئ.

من سيدير الثّروة؟

حتى لو افترضنا أنّ الجيولوجيا تبشّر باكتشافات واعدة، وأنّ النزاعات الحدوديّة أُديرت بالحكمة اللازمة، تبقى المعضلة الكبرى في الداخل: من سيدير هذه الثروة المحتملة؟ كيف؟ لمصلحة من؟

لن يصدّق بسهولة اللبنانيّ، الذي عاش ثلاثة عقود من الخصخصة المقنّعة والسمسرات والمصالح المتشابكة بين السياسة والمال، أنّ أيّ “ليرة غازيّة” مستقبليّة ستذهب تلقائيّاً إلى المصلحة العامّة، بعد أن رأى كيف تحوّل المصرف المركزيّ إلى خزنة للسلطة، وكيف استُخدمت أموال المودعين لإطالة عمر نظام سياسيّ وماليّ فاسد. من حقّه أن يسأل: ما الذي يمنع أن يتكرّر السيناريو نفسه مع صندوق سياديّ جديد أو عائدات غازيّة محتملة؟

من هنا، يصبح السؤال الأهمّ: كيف نحول دون أن ينتهي هذا الاتّفاق إلى فرصة أخرى مهدورة؟

أوّل ما يجب الاعتراف به أن لا معنى لأيّ حديث عن “لبنان كممرّ للطاقة” إذا بقي قطاع الكهرباء على حاله. بلد غير قادر على توفير عشر ساعات تغذية لمواطنيه لا يمكن أن يقدّم نفسه بوّابة للطاقة إلى أوروبا. إصلاح قطاع الطاقة ليس تفصيلاً تقنيّاً، بل شرط وجود.

يعني الإصلاح إعادة هيكلة مؤسّسة كهرباء لبنان على أسس الكفاءة والشفافيّة، تحسين الجباية وخفض الهدر، إدماج الطاقات المتجدّدة تدريجاً في مزيج الطاقة، ووضع سياسات جدّيّة تقلّل من الارتهان للفيول المستورَد. عندها فقط يمكن لأيّ ربط كهربائيّ مع قبرص أو غيرها أن يكون جزءاً من رؤية متكاملة، لا صفقة طارئة لسدّ عجز ظرفيّ.

في موازاة ذلك، يحتاج لبنان منذ الآن، قبل أن تُعلَن أيّ اكتشافات حقيقيّة، إلى حسم شكل الإدارة الماليّة للموارد الطبيعيّة. الحديث عن صندوق سياديّ يجب ألّا يبقى شعاراً مطمئناً في البيانات، بل يجب أن يُترجم إلى إطار قانونيّ صارم يمنع تسييل أموال الصندوق لتمويل عجز الموازنة أو إنقاذ المصارف أو شراء الولاءات السياسيّة. أيّ صندوقٍ من هذا النوع يجب أن يتمتّع بإدارة مستقلّة، وبآليّات رقابة برلمانيّة وقضائيّة وإعلاميّة جدّيّة، وأن يلتزم معايير الشفافيّة الدوليّة في الصناعات الاستخراجيّة، بحيث تُنشَر العقود والدفعات والعائدات بالتفصيل، ويعرف المواطن أين تذهب حقوقه.

استخدام الاتّفاق كورقة قوّة

على المستوى السياسيّ ـ الدبلوماسيّ، يمكن للاتّفاق أن يتحوّل إلى ورقة قوّة بدل أن يكون ورقة نزاع إضافيّة، إذا أحسن لبنان استخدامه في نسج شبكة علاقات أكثر توازناً. مع سوريا، يمكن تحويل ملفّ الترسيم الشماليّ إلى باب لتفاهم أوسع يشمل التعاون في الطاقة وإعادة الإعمار، بدل إبقائه ساحة تجاذب وتأجيل.

مع تركيا، يمكن اختيار خطاب عقلانيّ لا يُقحم لبنان في محاور مواجهة حادّة، ولا يسمح في الوقت نفسه لأيّ طرف بأن يستخدمه ورقة على طاولة صراعاته الخاصّة. مع الاتّحاد الأوروبيّ ودول شرق المتوسّط الأخرى، يمكن أن يبني لبنان علاقات تقوم على المصالح المتبادلة والاحترام، لا على الارتهان ولا على الخطابات الشعبويّة.

في النهاية، يمكن القول إنّ اتّفاق الترسيم مع قبرص إنجاز حقيقيّ على مستوى القانون الدوليّ والعلاقات الثنائية، لكنّ قيمته الفعليّة ستُقاس بما سيحصل بعده، لا به وحده.

لا يحمل البحر إلينا حلولاً سحريّة، لكنّه يضعنا أمام خيار واضح: إمّا أن نرى فيه فرصة لكتابة فصلٍ جديدٍ من قصّة استنزاف البلد وثرواته، وإمّا أن نجعله بداية عقدٍ جديد بين الدولة والمجتمع، يقوم على الوضوح والمساءلة والمصلحة العامّة. بين هذين الخيارين يتحدّد معنى أن يكون الاتّفاق “تاريخيّاً” فعلاً، لا فقط في النصوص والخطب، بل في حياة الناس على البرّ.