
كرم في التفاوض قرار سيادي… والاعتراض عليه إيراني
ما كادت رئاسة الجمهورية تعلن عن تكليف السفير السابق سيمون كرم ترؤس الوفد اللبناني إلى اجتماعات لجنة “الميكانيزم”، حتى سارع “حزب الله” ليصبّ عليها رصاص حملاته صبًّا، في تعبير يختزل الإشكالية البنيوية العميقة التي كانت الدولة في لبنان ترزح تحت وطأتها، ثمَّ أشباحها: من هو صاحب القرار الفعلي، وتاليًا من يمتلك زمام المبادرة.
ورغم أن رصاص “الحزب” يرتدي لبوس الاعتراض على اسم وشخصية وخطاب السفير كرم، إلا أن الهدف منه وضع الدولة تحت الضغط والتهويل لإرباكها والحد من قدرتها على التفاوض. فهو كان على اطّلاع مسبق منذ أسابيع على خطوة بعبدا. وفي اليوم ذاته الذي صدر فيه قرار التكليف أشارت وسائل إعلام “الحزب” إلى أنه ممتعض من توجه الرئيس جوزاف عون إلى تسمية الدكتور بول سالم، بمعنى أن موجة الاعتراض على اسم الشخصية هو رأس جبل الجليد لغايات أعمق.
ذلك أن هذه الخطوة ما كانت لتأتي متأخرة، وفي الهزيع الأخير من المهلة الممنوحة للدولة لإثبات إرادتها الجدية في احتكار القرار الاستراتيجي قبل السلاح، إلا انطلاقًا من حرص بعبدا على مراعاة صورة “حزب الله” التي تحدث عنها رئيس الجمهورية. في موازاة تأمين غطاء داخلي واسع ومكين لها، عبّر عنه بيان بعبدا بالإشارة إلى المشاورات، والتنسيق مع رئيسي الحكومة والبرلمان. وكذلك المواقف المعيارية للرئيس نواف سلام التي أطلقها عبر منبر “الجزيرة”، في اختيار موفق لتوجيه رسائل عبر قناة يتابعها جمهور “المحور”، حيث أشار بوضوح إلى أن قرار رئيس الجمهورية “محصّن سياسيًا”، وأن المفاوضات “فوق عسكرية”، لكنها لا ترقى إلى “السلام” أو “التطبيع”.
والرسالة الأهم كانت أن لبنان لن يسمح “بمغامرات تقودنا إلى حرب جديدة”، وهي موجهة إلى إيران وأميركا في الوقت ذاته، للتأكيد أن زمام المبادرة في يد الدولة “بلا شركاء”. والرئيس بري ما أرسل معاونه السياسي علي حسن خليل إلا لجسّ نبض طهران، فوقف على ما يبديه الحرس الثوري من تصلّب يكبّل تقدم التفاوض مع أميركا. فكان لزامًا فض تلازم المسارين مع اقتراب نصل جولة حرب جديدة، وما كان اختيار التوقيت جزافًا، إذ يتزامن مع تقديم الجيش تقريره الثالث والأخير لهذا العام حول تطبيق خطة حصرية السلاح، وكذلك مع زيارة ممثلي الدول الـ 14 في مجلس الأمن إلى لبنان للغاية نفسها.
تكليف كرم، الذي يتجاوز الإطار المدني التقني الكلاسيكي، ويحمل طابعًا سياسيًا دبلوماسيًا، هو قرار سيادي مكتمل أركان الشرعية، وينسجم مع مندرجات “خطاب القسم” و”البيان الوزاري” لحكومة الرئيس نواف سلام، والتي على أساسها فتح لنا العالم بابًا مواربًا، فيما اعتراض “الحزب” عليه عبر “الأذرع” الإعلامية و”السوشيالية” و”فرسان الدراجات النارية”، إيراني الهوية والأهداف.
هذا القرار هو بمثابة خطوة أولى ضمن مسار يروم إحداث خرق في جدار “الجليد” الأميركي الذي راح يتراكم، والسعي إلى اكتساب ضمانتها كشرط شارط لنقل الصراع إلى طاولة المفاوضات، والتي تتطلب مهارات وسياقات غير مألوفة لدى من اعتاد التفاوض عبر الآخرين، والاكتفاء بالتصديق على وصفاتهم المنجزة كـ “أمر واقع”.
لذلك جرى اختيار السفير كرم من قبل بعبدا بالتنسيق مع واشنطن، والذي يعد شخصية مقلقة بالنسبة لـ “الحزب” ورهطه، لكونه من “صقور” السياديين، وسبق أن اصطدم مع المفوض “البعثي” غازي كنعان حين كان محافظًا للبقاع، فارتحل إلى مقام محافظ بيروت، ومنه إلى سفارة لبنان في واشنطن. لكنه لم يلبث فيها إلا قليلاً حيث فضل الاستقالة على الركون لإملاءات سفير حافظ الأسد وأحد أبرز أركان دبلوماسيته وليد المعلم.
زد عليها أنه لم يكن أحد صانعي “قرنة شهوان” فحسب، المسمار الأول في نعش الوصاية، بل كان الأقرب بينهم إلى عقل بطريرك السيادة الراحل مار نصر الله صفير. ومع ذلك، عدا عن صعوبة التأثير عليه عبر نماذج الضغوطات المعروفة، فإن إشكالية “الحزب” ليست بالتزام كرم حدود التفويض الممنوح له، بل بالتفويض نفسه المرتبط بقرارات مجلس الوزراء بحصرية السلاح واسترداد احتكار قرار الحرب والسلم، وهو الأصل في الحكاية.
