إلى أهلي الشيعة اللبنانيين

إلى أهلي الشيعة اللبنانيين

الكاتب: أندرو حبيب | المصدر: نداء الوطن
7 كانون الأول 2025

يقولون عادةً “هذه رسالة من القلب”، ولكنّي أكتبها “رسالة من العقل”، لأنّ أيّامنا هذه وما قد يأتينا بعدها، أحوج إلى إعمال العقل أيضًا، وقد تصح ال”فقط” مكان “أيضًا”.

وقبل البدء بالرسالة، وجب توضيح المنبع الفكري للمتوجِّه إليكم. أنا ماروني من لبنان، تعرّفت على التشيّع على يد معلّمي “مخّول” – مخايل عواد الحصروني العلّامة والملفان الذي لا يأتي مَن مِثلُه إلّا مرة كل بضع مئات من السنين– رحمه الله، في صفوف الأجهزة التي تُعنى بالأبحاث والتثقيف السياسي في حزب القوات اللبنانية، وقد بدأَتْ مسيرة التعلّم هذه بقوله لي: “لا تنظر إلى جماعةٍ ما، بعينِك أنت، بل أنظر إليها بعينها هي، بعينها التي ترى نفسها بها، كي تستطيع البدء بمسار محاولة الفهم”.

أعطيتم إيران الكثير

إن لشيعة لبنان فضل كبير على الجمهورية الإسلامية الإيرانية بصيغتها الحالية، والفضل هذا يرجع إلى القرن الرابع عشر أي منذ إسهاماتهم الأولى في البناء التدريجي لنظرية ولاية الفقيه. وهم ما فتئوا مُفْضِلين.

فالشهيد الأول، إبن جزين، “محمد بن مكي الجزيني العاملي” صاحب “اللمعة الدمشقية”، أسّس لما يقال عنه “علاقة الأمّة بالفقهاء” من خلال شبكة الوكلاء الذين ينوبون عن الفقهاء في تنظيم شؤون الناس في دينهم ودنياهم كما يقومون بجمع الحقوق المالية الشرعية لتوزيعها على مستحقيها بنظر الفقيه. وللشهيد الثاني، “زين الدين العاملي”، الدور الأول في مأسسة وتثبيت إمكانية المجتهدين في جمع الأموال الشرعية (الخمس) وفي إدارة الأملاك الوقفية، وهذه ركائز قوّة، لم يكن من الممكن أن تقوم ولاية الفقيه فيما بعد لولاها، فالمال وإدارته هي محركات السلطة على الناس. أما إبن الشهيد الثاني، “حسن بن زين الدين العاملي”، فقد ساهم عبر تنظيره لمفهومَيْ “الاجتهاد” و”التقليد” في تثبيت سلطة رجال الدين، حيث على العامة أن يقلّدوا الفقيه الأعلم ويتبعوا فتاواه، وهذه المسألة ركنٌ أساس، لا ولاية تعيينية مطلقة دونها، سواء أكانت لعامة الفقهاء أو لفقيه عالِم أو لمجلس شورى الفقهاء.

في الأيام عينها التي عاشت فيها هذه الأعلام، كان الصفويون، وهم سُنّة، وذات عِرق تركي في الأصل، يخسرون أراضيهم أمام بني عثمان السُنّة ذات العرق التركي أيضًا، وكان لا بدّ من بناء مفهومي/ديني/أيديولوجي ما، بمواجهة العثمانيين الذين على منهاج التسنّن الحنفي، وهنا أتى دور علماء التشيّع في لبنان، ومنهم “المحقّق الكركي” (الشيخ علي بن الحسين بن عبد العالي) من كرك نوح في البقاع. لقد استعان الصّفويون – السُنّة في الأصل – بهذا العالِم اللبناني، ليصنع لهم أكثر عناصر القالب الإيديولوجي لما أسماه لاحقًا علي شريعتي “التشيّع الصفوي”، مؤسِّسًا للُحمة احتاجوها بقوّة، لمجابهة العثمانيين، واستعادة أراضيهم.

لم يتوقّف عطاؤكم هنا بالنسبة لولاية الفقيه، بل تعدّاه إلى احتضان وتدريب وحماية العناصر التي ستصبح فيما بعد ذات شأن في الدولة الإسلامية الإيرانية الوليدة، وذلك قبل وصول الخميني إلى طهران في شباط 1979 وانتصار ثورته. فبعد “خروج” معارضي الشاه الإيرانيين من مصر عندما توقّف “مكتب تحرير الشعوب” الناصري عن رعايتهم، قدِموا إلى لبنان واحتضنتهم البيئة الشيعية – ولو أن تدريبهم وتدريب العناصر التي ستصبح فيما بعد أهم قادة حزب الله تمّ في مخيمات حركة فتح – وكان من هذه البيئة، وخاصة من حركة أمل، أهم عناصر الحرس الشخصي للإمام الخميني، الذين درّبوا أيضًا ولدا الخميني أحمد ومحمد، وأحمد الملقّب بالـ”رينغو” إبن آية الله منتظري، ممثل الخميني لدى حركة فتح.

خسرتم على يد إيران الكثير

في محاضرة عن “البازار والرأسمالية الإيرانية” للبروفيسور علي أنصاري، أستاذ التاريخ الإيراني والمدير المؤسس لمعهد الدراسات الإيرانية في جامعة “ساينت أندروز”، يروي أنصاري مشاهداته في سوق من أسواق بيع السجاد في إيران. يصفُ كيف يقف التاجر “البازاري” متباهياً أمام الزبائن بجمال السجادة، متغزّلاً بدقّة عُقدِها، وروعة ألوانها، وجودة حريرها، تلك السلعة التي ستُباع بأثمانٍ باهظة وتعود عليه بالثروة والجاه. ولكن، ما لا يراه الشاري، وما يُخفيه التاجر ببراعة، هو “الكلفة البشرية” لهذه التحفة.

يشرح أنصاري أن خلف هذا الجمال تكمن مأساة نساءٍ وحرفياتٍ فقيرات، يقبعن في القرى النائية أو الأقبية المعتمة، ينسجنَ هذه السجادات عُقدةً تلو الأخرى. هؤلاء النسوة يقدّمنَ حرفيًا “نور عيونهنّ” في سبيل هذه الصناعة؛ فبسبب الدقة المتناهية المطلوبة والعمل في ظروف إضاءة سيئة، ينتهي المطاف بكثيرات منهنّ إلى الإصابة بالعمى وفقدان البصر.

والنقطة الجوهرية التي يُضيء عليها أنصاري هي ذهنية التاجر (البازاري) تجاه هؤلاء المنتجات؛ ففي اللحظة التي تفقد فيها الحائكة بصرها وتصبح غير قادرة على الإنتاج، تتحول في نظر التاجر من “أصل منتج” إلى “عبء لا طائل منه”. لا يوجد وفاء، ولا تعويض، ولا رعاية. هي مجرد “خسارة جانبية” مقبولة (Expendable casualty) في سبيل الربح الأكبر. لقد استُنفِذت فائدتها، والآن يمكن استبدالها بجيلٍ جديد من العيون السليمة الجاهزة للانطفاء في سبيل “السجادة” التالية.

وهنا، يا أهلي، أستميحكم عذراً لمرارة التشبيه وقسوته، ولكن العقل يفرض علينا المقارنة. ألا ترون في مأساة “البيجر” الأخيرة صدىً مفجعاً ومؤلماً لمأساة تلك النسوة؟

تلك العيون التي انطفأت في لحظة واحدة في قرانا ومدننا، وتلك الأطراف التي بُترت، ألم تكن ضحية لنفس العقلية “البازارية” التي تدير المشهد عن بُعد؟ كما تخسر الحائكة بصرها لتكتمل “لوحة” التاجر التي سيفاوض عليها، خسر شبابكم عيونهم وأطرافهم في سبيل حياكة “سجادة النفوذ الإيراني” في المنطقة. أنتم، بدمائكم وتضحياتكم، تنسجون خيوط القوة التي تتباهى بها طهران على طاولات المفاوضات مع الغرب، ولكنكم، تماماً كالحائكة، لستم الشريك في الربح، بل أنتم “كلفة الإنتاج” التي يدفعها الصانع من لحمه الحي.

الخطر الداهم اليوم، هو أن هذه الذهنية التجارية البحتة التي تحكم “البازار” السياسي، تعني شيئاً واحداً: متى أُنجزت الصفقة، أو متى أصبحت كلفة الحفاظ على “الأدوات” أعلى من مردودها، سيتم التخلي عنكم. فكما تُترك الحائكة العمياء لمصيرها بعد أن تعجز عن العطاء، يُخشى أن تُتركوا وحدكم لمواجهة مصيركم في وطنٍ مكسور، بعد أن تكون طهران قد قبضت ثمن السجادة التي حيكت بنور عيونكم.

ولم تقتصر هذه المنهجية “الاستهلاكية” على الفقراء والكادحين، بل طالت عصب الطائفة وشريانها الحيوي: رجال الأعمال والمغتربين وأصحاب الثروات. انظروا حولكم، إلى وجهاء الشيعة الذين بنوا إمبراطوريات تجارية بعرق جبينهم في أصقاع الأرض، كيف باتوا اليوم محاصرين في أرزاقهم، ومشبوهين في تحركاتهم، وتُغلق في وجوههم المصارف العالمية، لا لذنبٍ اقترفوه، بل لشبهة ارتباطهم – قسرًا أو طوعًا – بمنظومة وضعتهم في قفص الاتهام الدولي.

وهنا نستحضر مجددًا العبرة من الداخل الإيراني. فآيات الله الذين “حلبوا” البازار الإيراني تاريخيًا واستخدموا أموال التجار التقليديين كوقود لإسقاط الشاه، ما لبثوا أن انقلبوا عليهم بعد التمكين. لقد حوّل النظام الإيراني “البازار” – الذي كان صانعاً للملوك وشريكاً في القرار – إلى ركام سياسي، وسحب منه النفوذ لصالح احتكارات الحرس الثوري والمؤسسات الدينية و”البونيادات”، حتى بات التاجر الإيراني اليوم يواجه الإفلاس والانهيار، فاقدًا لدوره، ومتحسرًا على ثروةٍ موّلت جلاديه. وعلى المنوال نفسه، يُساق الرأسمال الشيعي اللبناني. فبدلًا من أن تُستثمر “الحقوق الشرعية” وأموال “الخمس” – التي هي، بالمفهوم الفقهي والاجتماعي، شبكة أمان لتنمية المجتمع وحماية فقرائه وتعليم أبنائه – تم تحويل وجهة أكثريتها بالكامل. لقد دُفعت هذه الأموال، التي هي جنى أعماركم، لشراء الصواريخ وتكديس السلاح. والمفارقة المأساوية، التي يرفض العقل تصديقها لولا حدوثها، هي أن أموالكم لم تُنفق لحمايتكم، بل أُنفقت لشراء “الذريعة” التي دمرت بيوتكم. لقد تحول “الخمس” من سهمٍ لإعمار دنياكم وآخرتكم، إلى سهمٍ ناري أحرق الأرزاق وهجّر العائلات. فهل يُعقل أن يموّل المرءُ خرابَ بيته بماله الخاص؟ إن إيران ومن سار في ركبها، استنزفوا “البازار الشيعي اللبناني” حتى الرمق الأخير، وها هم يقفون اليوم متفرجين على انهيار ما بنيتموه، تماماً كما يقف النظام في طهران غير آبهٍ بأنين تجار تبريز وأصفهان.

عودوا إلى لبنان

إن إيران، ذات المنطق المصلحي، لا ترى فيكم حلفاء متكافئين، بل “استثماراً” قابلاً للتسييل أو الشطب حسب تقلبات السوق الدولية. فلا تسمحوا بأن تكونوا مجرد خيطٍ يحترق لتلمع السجادة الفارسية، بل عودوا لتكونوا نسيج هذا الوطن الذي لا يكتمل إلا بكم، ولا يحميكم سواه.

وتذكّروا أنّه من هذه الأرض نظّر الشهيدان الأول والثاني، ومن هنا انطلق الكركري، ومن منابر لبنان فقط صدح زين شعيب، وعلى صفحات تاريخ “السهل” كتب طلال حيدر. مِن صلابة هذه الأرض دبكةُ أهل بعلبك، ومن رقّتها جمال هيفا وهبة، فكفى بنا تضحية في سبيل الآخرين ولنقل مرة لكل المرات “يحيا لبنان”…، فقط لبنان!