خاص- رسول الفرصة الأخيرة الضائعة

خاص- رسول الفرصة الأخيرة الضائعة

الكاتب: نبيل موسى | المصدر: beirut24
7 كانون الأول 2025

بعد أيام على زيارة البابا لاوون الرابع عشر لبنان، لم يعد التوصيف هو المهم. لم يعد مهمًا ما اذا كانت الزيارة تاريخية أم ظرفية عابرة مرتبطة بمهمة محددة. لم يعد مهمًا ما اذا كانت الزيارة سياسية أم رعوية بهدف إعطاء جرعة دعم لمسيحيي لبنان والشرق في وضع هو الأصعب منذ عقود. كل هذه التوصيفات لم تعد مهمة، بعدما سارع “حزب الله” إلى إجهاض مبادرة رسول السلام الأخير الذي حاول إنزال الحزب، ومعه لبنان، عن شجرة الموت والخراب والدمار التي تسلقها مرغمًا أو بإرادته.

بعد المحاولات الأميركية والسعودية والمصرية، جاء رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم الى لبنان ليقول لـ”حزب الله” إن السلاح لا يصنع سلامًا بل الحوار والتفاوض هو الذي يوصل الى هذا الهدف، وليؤكد له ان مسار السلام في المنطقة قد انطلق ولا أحد قادر على إيقافه، مكررًا عشرات المرات عبارة السلام في الأيام الثلاثة التي أمضاها في ربوع لبنان.

في المقابل، رد “حزب الله”، قبل حلول ذكرى الأسبوع على المبادرة البابوية التي تبيّن أنها ولدت ميتة، فأكد بلسان أمينه العام الشيخ نعيم قاسم تمسّك الحزب بالسلاح، متهمًا في الوقت نفسه خصومه المسيحيين في الداخل باستهداف زيارة البابا الى لبنان!!

والغريب في الأمر، أنه وبالرغم من مسارعة الحزب الى إجهاض مفاعيل الزيارة، استمر توافد المبعوثين الى لبنان، فكانت زيارة المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس الملتبسة، ثم وفد مجلس الأمن الدولي، وبعده زيارة المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان بعد طول غياب، وكأن الجميع لم يستوعب بعد (أو أنه لا يريد ذلك) أن خليفة مار بطرس، بابا السلام، كان رسول السلام الحقيقي الأخير الى لبنان، وأن كل ما ومن سيعقبه لن يكون قادرًا على تحقيق ما لم يحققه الكرسي الرسولي بعلاقاته الدينية والسياسية والإنسانية مع المجتمع الدولي.

لذلك، فقد أخطأ من اعتقد أن زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر للبنان هي زيارة كنسية رعوية حصراً، كما أخطأً من اعتبرها مجرد دعم معنوي لوطن الرسالة والعيش المشترك. فزيارة بابا السلام كانت المحاولة الأخيرة لتجنيب لبنان حربًا مدمّرة ومسعى لإلحاق بلاد الأرز طوعًا بمسار السلام الذي لن يكون مسموحًا لأحد أن يوقفه.

وبعد كلمات عدة أكد فيها على ضرورة تحقيق السلام، كان لافتًا جدًا إعلان قداسة البابا على متن الطائرة في طريق عودته الى روما ان لقاءات عدة عُقدت مع بعض القوى السياسية اللبنانية بعيداً من الاضواء، موضحًا أن “الكنيسة قدّمت اقتراحًا يدعو الحزب إلى ترك السلاح والسعي نحو الحوار”، مضيفًا أن “اللقاءات السياسية تركزت على تهدئة النزاعات الداخلية والإقليمية”. وأكّد عزمه على “الاستمرار في مساعي إقناع مختلف الأطراف اللبنانية بالتخلي عن السلاح والعنف، والانخراط في حوار بنّاء يحقق مصلحة لبنان وشعبه”.

ولكن، يبقى مستغربًا أن الفاتيكان، وكل الدول الداعمة للسلام في لبنان، لم تستوعب الى الآن رسال “حزب الله” وإن كانت شديدة الوضوح: يا سعاة الخير، لقد ضللتم الطريق، لأن من يريد السلام في لبنان عليه أولًا المرور بإيران. فهي التي أنشأت فصائل المقاومة ودعمتها وسلحتها حتى كانت عملية “طوفان الأقصى” و”حرب الإسناد” وما أعقبهما من ويلات على غزة ولبنان. لذلك على من اتخذ قرار بدء الحرب أن يقرر إنهاءها، ومن أعطى السلاح لأذرعه في المنطقة وحده القادر على إعطاء الأمر بتسليمه.

هذا في الشق السياسي. أما في الشق الرعوي من زيارة البابا فقد سجّل امتعاض سياسي وشعبي عارم في الأوساط المسيحية، وإن ظل مكبوتًا احترامًا لمقام الزائر الكبير ومكانته. فقد أنتجت الزيارة على المستوى المسيحي مفاعيل معاكسة لأهدافها، بحيث شعرت هذه الأوساط بإحباط كبير لعدم اهتمام قداسة البابا بالاطلاع عن كثب على أوضاع المسيحيين في لبنان، بحيث أنه لم يلتق السياسيين المسيحيين ولا ممثلي المجتمع المدني والهيئات والجمعيات المسيحية، لمعرفة حقيقة معاناة المسيحيين على الأرض وليس وفقًا للتقارير التي تصله من المرجعيات الدينية فقط.

هل اطلع قداسة البابا على أرقام هجرة الشباب المسيحي، معطوفة على تراجع ارقام الزيجات والولادات بسبب أزمة السكن، وما يؤثر ذلك على تغيير الوضع الديموغرافي في لبنان؟

هل اطلع قداسته من لجان الأهل ومكاتب الطلاب في الجامعات وأولياء الأمور على الأرقام الفلكية للأقساط، وكيفية تسديد هذه الأقساط لأبنائهم، معطوفة على أرقام مبيعات الأراضي من قبل المسيحيين بهدف التعليم والطبابة، وتأثير هذا الأمر على الوضع الجغرافي في البلد؟

هل اطلع قداسته من المعنيين على عدد المسيحيين الذين لا يملكون أي نوع من التأمين الصحي، وعلى تراجع عدد الطلاب المسيحيين في الجامعات الكاثوليكية والمرضى في المستشفيات الكاثوليكية، لمصلحة طلاب ومرضى غير مسيحيين تؤمن لهم طوائفهم وأحزابهم أقساطهم المدرسية والجامعية ونفقات علاجهم؟

الشعب المسيحي يا قداسة البابا متجذّر في هذه الأرض ولن يغادرها مهما حصل، والتاريخ الحديث والقديم أثبت ذلك. لكن المسيحي، كغيره من المكوّنات اللبنانية، تعب من الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي يرزح تحتها البلد، وهو بحاجة لبعض الدعم ليستمر في الصمود، والكنيسة عبر مؤسساتها، إن أرادت، قادرة على ذلك.

ثمة من سيقول ان هذه الامور من واجبات الدولة. صحيح. ولكن في ظل تراجع قدرة الدولة التي ألغتها الدويلة لأكثر من ثلاثة عقود، هل يقف الاكليروس وخلفه الفاتيكان متفرجا على هجرة من تبقى من مسيحيي هذا الشرق؟

انتهت زيارة الحبر الأعظم الى لبنان بسرعة، وكذلك مفاعيلها التي لم يبقَ منها سوى بعض الزفت على الطرقات.