
محاصرة إدارة ترامب لإيران و”الحزب” من فنزويلا إلى لبنان
فنزويلا ثم أوكرانيا هما الشاغلان الأساسيان للرئيس دونالد ترامب في هذه الأيام، إنما ذلك لا يمنع إدارته من المضي بملفات قديمة وجديدة بناءً على قراءة رغباته ومزاجه. اتخذ القرار بتطويق إيران و”حزب الله” في كل مكان، من كاراكاس إلى طهران مروراً بالعراق واليمن ولبنان. بإجراءات مباشرة وبإنذارات تحذيرية عالية السقف مثل إدخال المسيّرات الأميركية المتفوقة إلى المعادلة، يعمل فريق ترامب على تجنيب إيران ووكلائها وميليشياتها الحرب المباشرة ويستمر في ردع إسرائيل لأن دونالد ترامب لا يريد اللجوء إلى الإخضاع بالقوة العسكرية ما دام هناك مجال للإقناع بالقوة السلمية. فأين هي إبرة بوصلة الإخضاع والإقناع الآن؟
لنبدأ بأوكرانيا. ليس مستحيلاً، وإنما يُستبعد أن تُتوّج الجهود الرامية لإنهاء الحرب في أوكرانيا قبل نهاية هذه السنة. الأسباب عديدة من بينها التخبّط ضمن فريق ترامب، بالذات بين المبعوثين الذين يكلفهم الرئيس الأميركي مهمات صنع السياسة الأميركية، وبين أركان إدارته في الهيئة التنفيذية مثل وزير الخارجية ونائب الرئيس ورجال البنتاغون.
الرجل الذي يعتبر نفسه المفاوض الأميركي الأول بتكليف من الرئيس الأميركي هو صديق الرئيس ستيف ويتكوف، يشترك معه في هذه المهمة صهر الرئيس جاريد كوشنر. كلاهما يسعى لنسخ مبدأ تقديم “خطة ترامب” الى الأفرقاء المتنازعين لتكون مسودةً لإنهاء الحروب وتمكين دونالد ترامب من الحصول على جائزة نوبل للسلام.
حقق الرجلان نجاحاً في إنجاز “خطة ترامب” لغزة وتسويقها على الصعيد العربي والإسلامي والدولي، إنما العبرة في التنفيذ، كذلك العثرة. هذا لا يلغي ولا ينفي أن أسلوب تقديم البنود إلى الطرفين المتنازعين بهدف تضييق الفجوات- مع حجب الانتصار الساحق عن كل منهما- قد أصبح ما يسمى الطبعة الزرقاء Blueprint لحل النزاعات التي يتأبطها الثنائي ويتكوف- كوشنر.
مشكلة الثنائي في سعيه لإنهاء حرب أوكرانيا متعددة الأسباب. هناك عنصر وزير الخارجية ماركو روبيو الذي بدأ يتململ من انتزاع سلطات منصبه منه بإيلاء مهمات التفاوض وصوغ السياسة الخارجية إلى ويتكوف- كوشنر. وهناك نائب الرئيس جيه دي فانس الذي يريد تطعيم صنع السياسات الخارجية الكبرى بأفرادٍ موالين له.
في ذهن كل من فانس وروبيو الرئاسة الأميركية، وليس مجرد ملفات السياسة الخارجية. فليس من مصلحة أحدهما أن يبدو جالساً في المقعد الخلفي مقيّداً بحزام الأمان فيما يقود عربة السياسات الخارجية الثنائي ويتكوف- كوشنر. وبالمناسبة، إن الموفد الخاص إلى سوريا توم برّاك جزء من هذا الفريق، إنما ما يميّزه هو أنه سفير للولايات المتحدة لدى تركيا صادق على تعيينه الكونغرس الأميركي.
العنصر الآخر الذي بدأ يعرقل مهمات الثنائي ويتكوف- كوشنر هو التصاق سمعة “المال أولاً” بهما كونهما رجلا أعمال يتقنان فن الصفقة لجني الأرباح كأولوية، وهما لا ينفيان ذلك. المشكلة هي أن هذا الانطباع لدى الأطراف المعنية بدأ يقود إلى التشكيك بالثنائي المفاوض، بغاياته وقيمه، بهامش استعداده للتخلي عن المبادئ، بضغوطه وأساليبه في إطار الإقناع والإخضاع. كوشنر نفسه قالها صراحة أن المصالح تأتي أولاً وقبل القيم.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يفهم تماماً لغة أولوية المصالح على القيم، إنما ذلك لم يمح أزمة الثقة التي برزت أخيراً بالرجل الذي يُفترَض أنه قريب جداً منه ويتعاطف مع روسيا على حساب أوكرانيا- ستيف ويتكوف. اللافت أن التشكيك بدوافع ويتكوف أتى من الساحة الروسية نفسها، وليس فقط من ناحية أوكرانيا والدول الأوروبية.
كثيرون من الأوروبيين لا يطيقون ويتكوف ولا يثقون بالثنائي الذي أوفده ترامب إلى موسكو متأبطاً الطبعة الزرقاء لإنهاء حرب أوكرانيا. والسبب الأساسي هو سمعة المال أولاً المرتبطة بالرجلين اللذين يعتبران هذا المبدأ هو الأفضل لهما، ولأميركا. السبب الآخر هو الخوف من استغلال ضعف أوكرانيا في معادلة المفاوضات مع روسيا بسبب تخبط قياداتها في الفساد وانحسار قدراتها ميدانياً.
رغم كل ذلك، ليس هناك ما يؤدي إلى الاستنتاج المسبق أن جهود الثنائي ويتكوف- كوشنر ستلاقي الفشل خصوصاً أن والد كوشنر هو السفير الأميركي لدى فرنسا، وهو أيضاً رجل عقارات يساعد ابنه على إبرام الصفقات، ووالد زوجته إيفانكا هو رئيس الولايات المتحدة الأميركية. ترامب يتلهف إلى إنهاء الحرب الأوكرانية التي أنهكت الأوكرانيين والروس على السواء.
يدرك ترامب أن الدول الأوروبية تخشى أن يقدّم الرئيس الأميركي لروسيا ما يؤذي المصالح الأوروبية الكبرى ويؤدّي إلى إضعاف حلف شمال الأطلسي (ناتو). لكن الرجل مقتنع بأن هذه الحرب يجب أن تنتهي، ليس على أساس معادلة غالب ومغلوب، وإنما على أساس وقف النزيف وتجنّب توسّع الحرب الروسية- الأوكرانية إلى حرب روسية- أوروبية. وبالقدر نفسه من الأهمية، هناك ناحية نوبل للسلام، وكذلك توجد في روسيا تلك المصالح الكبرى التي في حسابات ويتكوف وكوشنر وهي ليست بعيدة إطلاقاً عن حسابات ترامب نفسه، وعنوانها المال. لذلك أوكرانيا أولوية تلي الأولوية الفنزويلية.
يسعى الرئيس الأميركي إلى تجنّب العمليات العسكرية لإزاحة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو عبر الإقناع بوسائل الترغيب والترهيب. المفاوضات بين ترامب ومادورو حول ظروف رحيل الأخير من فنزويلا وضماناته ما زالت مستمرة، إنما سيف الجهوزية العسكرية يبقى مسلّطاً على عنق مادورو.
ما في ذهن دونالد ترامب يتعدى خلع مادورو والإطاحة بنظامه الذي أنهك الشعب هناك. في ذهنه فوائد استراتيجية كبرى تشمل إبعاد نفوذ روسيا عن أميركا اللاتينية، وقطع الطريق على الصين التي تستفيد من التحايل على العقوبات المفروضة على إيران وتستورد النفط عبر بوابة التعاون بين فنزويلا وإيران. التعاون بين فنزويلا وإيران- و”حزب الله” في لبنان- يشمل الشراكة في الإتجار بالمخدرات، وصناعة المسيّرات، والتعاون في مجال الاستخبارات، وإتقان فن تبييض الأموال للتحايل على العقوبات.
وجد ترامب في فنزويلا بوابة لتطويق إيران و”حزب الله” في كل هذه المجالات، هذا بالطبع إلى جانب أحد أهم الأهداف وهو السيطرة على الأسواق النفطية العالمية بعد أن تصبح فنزويلا في الفلك الأميركي. قطع الشرايين بين فنزويلا وبين إيران و”حزب الله” يتطلب عمليات عسكرية داخل فنزويلا دقيقة ومؤذية، خططها جاهزة حالما تفشل جهود الإقناع الديبلوماسية.
قطع الشرايين مع فنزويلا سيكون مؤلماً جداً لإيران و”حزب الله”، فكلاهما في مواقف حرجة. كلاهما يدركان أن إدارة ترامب تصعِّد ضدهما بصورة نوعية فيما تزجهما في الزاوية. عاصفة نشر الجريدة الرسمية العراقية قراراً بتجميد أموال “منظمات إرهابية”، من ضمنها “حزب الله”، لم تهدأ رغم تأكيد الحكومة العراقية أن الإدراج أتى سهواً وأنها ستحقق في الموضوع وتحاسب المسؤولين المقصّرين. سهواً كان أو امتحاناً، إن الرسالة التي تبقى في الذهن تنص على أن للتطويق وسائله المختلفة.
في لبنان، أتت محاصرة “حزب الله” وإيران عبر بوابة المفاوضات بين لبنان وإسرائيل. حاول “حزب الله” وإيران منع الدولة اللبنانية من التفاوض وكانا جاهزين لاستدعاء حرب إسرائيلية على لبنان تؤدّي إلى احتلال الجنوب اللبناني كاملاً. أتى التطاول الإيراني على السيادة اللبنانية بأوجه عدة رافقه تحريض “حزب الله” ضد الدولة والتشكيك بصدقية الجيش اللبناني.
المواقف الصارمة والجازمة لإدارة ترامب أوضحت للدولة اللبنانية أن أمامها إما تنفيذ قراراتها بحصرية السلاح في يد الدولة على وجه السرعة، وإما ستقوم إسرائيل بنزع سلاح “حزب الله” ولن توقفها إدارة ترامب عن ذلك إذا استمر تلكؤ الدولة اللبنانية وتملصها.
أوضحت إدارة ترامب أن التفاوض مع إسرائيل لا مناص منه، إذا أرادت الدولة استرداد حقوق لبنان. أوضحت أنها جاهزة للضغط على إسرائيل إذا اتخذت الحكومة اللبنانية قرار التفاوض ووسّعت إطاره ليشمل عنصراً مدنياً إلى جانب العنصر العسكري في مفاوضات ما تسمى الميكانيزم، أي آلية مراقبة وقف النار. أوضحت أن الهدف من المفاوضات هو أن تشمل ترسيم الحدود وتطبيع الحدود اللبنانية- الإسرائيلية بعد الاتفاق على انسحاب إسرائيل من المواقع التي تحتلها في أعقاب نزع سلاح “حزب الله”.
الرسالة الأميركية كانت واضحة: إما جديّة حصرية السلاح وتفكيك بنية “حزب الله”، وإما تصعيد إسرائيلي وشيك وخطير. سمعت الدولة اللبنانية الرسالة جيداً فبادر رئيس الجمهورية جوزف عون بشجاعة وثقة إلى تعيين السفير سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني إلى اجتماعات الميكانيزم، وتوافق على هذا القرار رئيس الحكومة نواف سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري.
أدرك الرؤساء الثلاثة أن أمامهم إما استعادة الدولة جديتها وسيادتها، وإما استدعاء الدمار للبنان، فاستدركوا قبل فوات الأوان. هذا بدوره شكَّل صدمة لـ”حزب الله” ولإيران خصوصاً بعدما تم إبلاغ طهران أن لا مزاح بشأن العمليات العسكرية الإسرائيلية الجاهزة ليس ضد لبنان فحسب، وإنما الموجهة نحو إيران، إذا صعدت. كما حرصت الولايات المتحدة على إبلاغ إيران أن المسيّرات الأميركية المتفوقة جاهزة لها، إذا أساءت الخيار.
هكذا وجدت إيران نفسها مُحاصرة بالمسيّرات الأميركية ومطوقة من فنزويلا حتى لبنان والعراق بإنذارات وإجراءات، من الاغتيالات إلى العقوبات إلى الحرب المفتوحة على الاستفادة من الإتجار بالمخدرات. فلقد خسرت إيران قاعدتها في سوريا، وهذا ما نسف مشروعها الأساسي المعروف بالهلال الفارسي.
سوريا اليوم هي الباب الذي يصدّ إيران، والبوابة المغلقة في وجه روسيا. لبنان اليوم هو ميدان الحرب الإيرانية- الإسرائيلية المؤجلة بقرار أميركي، والتي ستصبح مستبعدة إذا أسفرت المفاوضات اللبنانية- الإسرائيلية عن ترسيم الحدود، وإذا تماسكت الدولة اللبنانية وتمسكت بقراراتها بجدية، وعلى رأسها حصرية السلاح.
الرؤية الأميركية لتلك المنطقة العازلة التي تُذكر في إطار مستقبل جنوب لبنان تستبعد رؤية إيران و”حزب الله” القائمة على استخدام الجنوب منصّة للاستفزاز والدمار باسم المقاومة، تستبعد إيران عن المشروع برمته، سوى إذا دخلت قطار التحوّل في الشرق الأوسط.
تلك المنطقة تقوم على ركيزتين، أمنية واقتصادية. تنطلق هذه الرؤية من الاستقرار، والاستثمار، وإعادة الإعمار، والإزدهار، بعيداً من الدمار، بشراكة عربية وأميركية وأوروبية. هكذا، أيضاً، يتم تطويق الرؤية الإيرانية لمستقبل لبنان ومعها الرؤية الإسرائيلية الطامعة به. فخطوة جيدة هي هذه المفاوضات التي دفعت بها إدارة ترامب واتخذتها الدولة اللبنانية.
أقله، يمكن الآن الإجابة على ذلك السؤال الذي يطرحه عليّ كل لبناني أقابله: حرب أو لا حرب؟ الجواب يبقى غير حاسمٍ في ظروف كهذه، لكنه قبل المفاوضات غير ما هو من بعدها: الحرب الآن مؤجّلة.
