الأب الشهيد نيكولا كلويترز… حين صار الكاهن “وطنًا” لبلدة برقا

ليس سهلًا أن تكتب عن حياة الأب الشهيد نيكولا كلويترز، لأنّ الرجل لم يعش “في لبنان” وحسب، بل عاش لبنانًا كاملًا بفقره وجروده ومياهه الشحيحة، عشائريته الجارحة، خوفه في الحرب، وبرجائه الذي لا يموت. والأصعب أن تحكي عنه في برقا فهي ليست مكانًا عابراً بل ترك فيه ما هو أعمق من بناء ومدرسة وطريق. ترك أثرًا في الوجدان، وفي معنى أن يكون الكاهن حاضرًا بين الناس لا يعلوهم شأناً وأن تكون الروحانية فعلًا يوميًا يترجم الإيمان إلى ماء يُسقى، ومدرسة تُفتح، وخصومة تُطفأ، وقلوب تتصالح.
كان نيكولا كلويترز شابًا موهوبًا في الرسم والفن. التحق بأكاديمية الفنون الجميلة في لاهاي، وأصبح أستاذًا في مادة الرسم. لكنّه شعر أنّ الفن وحده لا يروي عطشه. فقبل تخرّجه قصد مدينة تيزيه الفرنسية بحثًا عن مزيدٍ من التعمّق الروحي. وفي تلك البيئة الروحية اللاهوتية التي صارت ملهمةً للكنيسة الكاثوليكية، ولا سيّما بروح المجمع الفاتيكاني الثاني، تشكّل في داخله موقفٌ واضح: حوار الأديان، الدفاع عن الفقراء، فهم الآخر المختلف والتحاور معه.
وفي 8 أيلول 1967، وبعد سنتين من الإعداد الروحي والمعرفي، ارتبط نهائيًا بالرهبانية اليسوعية، مبرزًا نذور الفقر والعفّة والطاعة.
العربية “جسر خلاص”
في العام التالي، أُرسل إلى لبنان عام 1968 ليُوثّق معرفته بهذا البلد ويتقن اللغة العربية، كجسر للتواصل مع الآخر المسلم، وسبيل لتيسير خدمة الفقراء التي كان يزمع تأديتها هنا.
انطلق من دير تعنايل للآباء اليسوعيين، ومنه وسّع نشاطه الاجتماعي الخيري ليشمل الجنوب، مشاركًا في الأعمال التطوعية التي أشرفت عليها الحركة الاجتماعية، فكانت له “مدرسة” لفهم مشاكل الناس وتطلعات الشباب، وبناء علاقة حيّة مع الفقير لا سيّما الشيعي، في زمنٍ كانت فيه الهويات تُستعمل سلاحًا.
كاهنٌ في الـ33 يحمل لبنان في قلبه
بعد سنوات من الأسفار والخبرات في لبنان ودول أوروبية عديدة، مزدانة بنشاطه الفني ومعارضه، وموشّحة باستعداد روحي عميق، سيم كاهنًا في 9 حزيران 1973، وهو في الـ 33 من عمره.
ولم تمضِ سنة حتى عاد إلى لبنان في أيلول 1974 ليباشر عمله الرسولي انطلاقًا من تعنايل، تلك الأرض التي تحوّلت على يد اليسوعيين إلى مزرعة نموذجية رغم الأوبئة والمجاعة والحروب والتحولات السياسية. في تعنايل كان يتعلّم يوميًا أن الإيمان لا يُقاس بعدد الصلوات فقط، بل بقدرة الكنيسة على أن تصمد مع الإنسان في أصعب الشروط.
“أين الخدمة الأكثر حاجة؟”
حين سُئل الكاهن اليسوعي الشاب عن المنطقة التي تحتاج إلى الخدمة أكثر من غيرها، قيل له إن نطاق عمله يشمل قرى الهرمل (القاع، إيعات، وادي الرطل) ودير الأحمر (نيحا، القدّام، برقا، زرازير، بيت بو صليبي، بتدعي، أناتا، شليفا) وحدث بعلبك… وأن المسيحيين هناك يحتاجون إلى كهنة يرعون شؤونهم الروحية في أكثر المناطق حرمانًا من خدمات المؤسسات الرسمية.
لكن حدس الأب نيكولا، المعطوف على الدراسات الاجتماعية الميدانية التي أُعدّت عن تلك القرى، أراه بوضوح: برقا وقرى أخرى في جوارها كانت الأشد فقرًا. لم يكن أهلها قادرين على توفير مسكن لكاهن يزورها في الآحاد والأعياد، وكانوا، كما ورد حرفيًا في السرد، “المنسيين من البشر والله ينادوني”. وهكذا كان.
المهمة المستحيلة
في برقا واجه الأب نيكولا أول اختبارٍ حقيقي لمعنى “الراعي”: لم يكن له في البداية غرفة يقيم فيها. وكان عليه أن يوحّد قلوب الناس قبل أن يبني الحجر. التشنج العائلي كان مسيطراً، حتى الاحتفال بالقداس الإلهي كان يجري في كنيستين.
وفوق الانقسام، كان الفقر قاسيًا. أرزاق الناس تمتد في الجرود العالية، والحرمان يطاول الماء والتنقل والرعاية الصحية والمدارس.
ثم اندلعت الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975، فاشتدت العصبيات الطائفية وتفجّر الانقسام السياسي. وسط كل تلك المصاعب، كان السؤال الطبيعي: هل يعود أدراجه؟ هل يستقيل من المهمة؟ هل يترك أهل برقا والجوار رهائن فقرهم وتقوقعهم وخلافاتهم؟
والجواب لم يأتِ بخطبةٍ حماسية، بل بألمٍ واقعيّ عاشته المنطقة: شهادة الشاب غصيبة كيروز الذي كان من فريق الأب نيكولا في التعليم الديني، وهو متجه إلى قريته نبحا، وقد أعدّ رسالة يتنبّأ فيها بمقتله، ويطلب من ذويه أن يسامحوا “اللي قتلوني من كلّ قلبكن”. كانت هذه العبارة جرسًا روحيًا: أن الغفران ليس شعارًا في الحرب، بل قرارًا يكسر سلسلة الدم.
برقا تنهض…
عاد الأب نيكولا إلى التفاصيل التي تصنع حياة الناس. عاش معهم، تنقّل في الجرود، قاسمهم آلامهم وآمالهم، وعرف أنّ حاجتهم الأولى هي المياه: يسقون منها مواشيهم ويزرعون منها أرضهم فحرّك علاقاته في بلجيكا وألمانيا وغيرها من أجل جرّ مياه الينابيع الخاصة بالقرية إلى الأراضي القابلة للزراعة، وبناء مجارٍ لها.
ثم رأى أنّ نهضة برقا تحتاج مدرسة لائقة، تُعد الأجيال القادرة على استثمار خيرات الأرض بدل النزوح إلى المدينة. فحشد الجهود، وأقنع راهبات القلبين الأقدسين بإرسال ثلاث راهبات للإشراف على إدارة المدرسة التي بناها أبناء القرية بسواعدهم وعلى عقار تبرعوا به.
لم يقف الأمر عند المدرسة. أثار همم الشباب لشقّ طريق ترابي يربط برقا بالأراضي الزراعية الواسعة في الأعالي، فشقّوه بأدواتٍ بسيطة وبجهدٍ جماعي، كي يتمكن المزارعون من نقل إنتاجهم إلى الأسواق.
وفي مسار البناء الاجتماعي، تابع بناء قاعة الرعية ومنزل الكاهن، وتوسيع الكنيسة، وافتتاح مشغل ومستوصف ومعمل للمنسوجات بالتعاون مع الراهبات. ولمّا بدأ الناس يشعرون بمعنى “المسؤولية المشتركة”، انطلقت مبادرات جديدة، منها وضع خطة لبناء كنيسة مار شربل في الجبل وسط أشجار التفاح، وتبرع الأهالي بالأموال اللازمة لبنائها، فكانت كنيسة “لكل الناس” بلا تفرقة.
أما اللحظة المفصلية فكانت في العام 1980 حين جمع العائلات بعد طول انقسامات، وتمّت المصالحة رسميًا بحضور المطران الراحل رولان أبو جودة ووجهاء العائلات. كسب محبة الأهالي لأنه لم يأتِ ليُدين أحدًا، بل ليجمع الكل حول فكرة واحدة: لا قيام لقريةٍ ممزقة.
“مهمة ثانية أسمى”… أن يبذل ذاته!
بعد مواجهته أمواج المصاعب ونجاحه في إنهاض قرى البقاع الشمالي ولا سيّما برقا، واستعادة الإنسان والمؤمن كرامته، بدا كأن الأب نيكولا أحسّ بانتهاء مرحلةٍ وبداية أخرى: مرحلة البذل النهائي.
وفي مساء 13 آذار 1985، تردد أنه قال كلماتٍ تختصر جوهره الروحي: إن المسيح يسأله: “أتجرؤ على اتباعي من أجل خلاص البشرية وخلاص كل إنسان؟”… وما عساه يجيب إلا: “سأفعل ما بوسعي”. هذه العبارة من توقيع رجلٍ عاش حياته على حافة الخطر دون أن يتغذى على الخطر، بل على المحبة.
الخطف… العذاب… والقتل
ثم وقعت المأساة التي تحوّلت إلى علامة.
خُطف الأب نيكولا، وتعرّض لأقسى أنواع التعذيب، ونال إكليل الشهادة في 14 آذار 1985. وتؤكد المعلومات أنّه خُطف مساء 13 آذار بعد أن ترأس القداس عند راهبات مستشفى بلدة الهرمل، وعاد أدراجه إلى برقا حيث كان الأهالي بانتظاره في صباح اليوم التالي… لكنه لم يصل.
من الجهة التي اختطفته؟ وفق المعطيات التي توفرت لنا، ظلّت القضية تُروى على أنها تمت “على يد مسلّحين مجهولين”. وهذا توصيفٌ جوهري لا يجوز القفز فوقه: فالمعلومات المتاحة التي نستند إليها لا تثبت هوية جهة محددة بقرارٍ قضائي أو إعلانٍ موثّق، بل تؤكد فقط واقع الاختطاف والقتل الوحشي.
وعُثر على جثمانه في هوّة بعد مرور نحو 17 يومًا على اختفائه، إثر جهود بحثٍ مضنية بدأت من رفاقه اليسوعيين في تعنايل والراهبات والقوى الأمنية في المنطقة.وتورد التفاصيل أن أحد الرعيان لاحظ في الجرد سربًا من الغربان يحوم فوق هوّة عميقة، فخامرته الشكوك، وأبلغ المسؤولين، فتوصّلوا إلى انتشال الجثة من القعر السحيق.
وكانت علامات العنف صادمة: طلقان ناريان، جسد مُعذّب، وموصوف في السرد بأنه “مخَوْزَق”، بما يشير إلى شدّة الحقد المتملّك بقاتليه.
من أجل تفادي المشاكل وعدم الانتقام، دُفن الأب نيكولا في دير تعنايل، في 3 نيسان 1985.
عندما يصبح الدم وثيقة
اليوم، الأب نيكولا كلويترز “خادم الله”. وقد دخل فعليًا درب الطوباوية وملف تقديم دعوى تطويبه قد أُرسل إلى مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان. ويُتابع هذا المسار محليًا بجهد من السيد حمدان جعجع الذي يحفظ أرشيفه ويواكب ملفه في المنطقة.
ولا يقف وفاء برقا عند حدود الذاكرة والأرشيف. فبحسب ما يؤكّده المتابعون للملف في البلدة، تقدّم أهالي برقا بطلبٍ رسمي لنقل رفات الأب كلويترز من دير تعنايل إلى برقا، البلدة أعطاها من عمره أكثر مما أعطاها أبناؤها. طلبٌ يحمل معنى يتجاوز “مكان الدفن”: إنه تعبيرٌ عن رغبة الناس بأن يعود “الأب” إلى بيته، وأن يكون حضوره الملموس بينهم، إلى جانب حضوره الروحي، شاهدًا على ما صنعه، وعلى أن الحب الذي زرعه لم يمت معه، بل يتنامى مع السنوات.
ما لا يهدمه الزمن!
ترك الأب نيكولا في برقا أشياء لا تُرى لكنها ثمينة: ثقافة البقاء بدل النزوح، منطق المصالحة بدل الانقسام، روح العمل الجماعي، وجرأة أن تكون القرية “كنيسة واحدة” لا جماعتين.
لكنّ الأثر الأعمق ليس ما شُيّد بالحجر وحده، بل ما استقرّ في القلب. فبحسب السيد حمدان جعجع، مرّت سنوات طويلة على غياب الأب كلويترز، غير أنّ إرثه لا يزال حاضرًا في البلدة: بين ناسها وأرضها ومبانيها. لم يستطع أهالي برقا نسيانه، بل مرّت الأيام وبقي الحبّ له يزداد. واليوم، يكاد يستحيل أن تمرّ أمام بيت في برقا أو تدخل إليه، من دون أن تلمح صورة للأب نيكولا: على الحائط، قرب الأيقونات، في غرفة الضيوف، أو في زاوية تُشبه “مزارًا” صغيرًا لذاكرة رجل لم يعد حاضرًا بجسده، لكنه لم يغادر يومًا وجدانهم.
وترك أيضًا معنى أن الكاهن ليس فقط “محتفلاً بقداس”، بل رفيق فقر، وطبيب معنويات، ومهندس رجاء. رجل كان يزور تعنايل مرّة أسبوعيًا ليبقى على تواصل مع رفاق دربه اليسوعيين، ثم يعود إلى الهرمل وبرقا وقرى دير الأحمر والقاع وإيعات ووادي الرطل… كأنه يوزّع نفسه خبزًا على مساحة كاملة.
في النهاية، لا يعود السؤال: من قتله؟ وحده. بل: ماذا فعل قبل أن يُقتل؟ وكيف صنع من قرية فقيرة، منسية، ممزقة، مكانًا قادرًا على الوقوف من جديد؟
إنه سؤال يليق بقديس محتمل… وببلد يحتاج إلى شهود يشبهونه: لا يعلّقون الرجاء على الشعارات، بل يزرعونه في التراب، ويسقونه بماء يُجرّ من بعيد، ويحرسونه بمحبة تُبذل حتى النهاية.
الأب الشهيد نيكولا كلويترز… حين صار الكاهن “وطنًا” لبلدة برقا

ليس سهلًا أن تكتب عن حياة الأب الشهيد نيكولا كلويترز، لأنّ الرجل لم يعش “في لبنان” وحسب، بل عاش لبنانًا كاملًا بفقره وجروده ومياهه الشحيحة، عشائريته الجارحة، خوفه في الحرب، وبرجائه الذي لا يموت. والأصعب أن تحكي عنه في برقا فهي ليست مكانًا عابراً بل ترك فيه ما هو أعمق من بناء ومدرسة وطريق. ترك أثرًا في الوجدان، وفي معنى أن يكون الكاهن حاضرًا بين الناس لا يعلوهم شأناً وأن تكون الروحانية فعلًا يوميًا يترجم الإيمان إلى ماء يُسقى، ومدرسة تُفتح، وخصومة تُطفأ، وقلوب تتصالح.
كان نيكولا كلويترز شابًا موهوبًا في الرسم والفن. التحق بأكاديمية الفنون الجميلة في لاهاي، وأصبح أستاذًا في مادة الرسم. لكنّه شعر أنّ الفن وحده لا يروي عطشه. فقبل تخرّجه قصد مدينة تيزيه الفرنسية بحثًا عن مزيدٍ من التعمّق الروحي. وفي تلك البيئة الروحية اللاهوتية التي صارت ملهمةً للكنيسة الكاثوليكية، ولا سيّما بروح المجمع الفاتيكاني الثاني، تشكّل في داخله موقفٌ واضح: حوار الأديان، الدفاع عن الفقراء، فهم الآخر المختلف والتحاور معه.
وفي 8 أيلول 1967، وبعد سنتين من الإعداد الروحي والمعرفي، ارتبط نهائيًا بالرهبانية اليسوعية، مبرزًا نذور الفقر والعفّة والطاعة.
العربية “جسر خلاص”
في العام التالي، أُرسل إلى لبنان عام 1968 ليُوثّق معرفته بهذا البلد ويتقن اللغة العربية، كجسر للتواصل مع الآخر المسلم، وسبيل لتيسير خدمة الفقراء التي كان يزمع تأديتها هنا.
انطلق من دير تعنايل للآباء اليسوعيين، ومنه وسّع نشاطه الاجتماعي الخيري ليشمل الجنوب، مشاركًا في الأعمال التطوعية التي أشرفت عليها الحركة الاجتماعية، فكانت له “مدرسة” لفهم مشاكل الناس وتطلعات الشباب، وبناء علاقة حيّة مع الفقير لا سيّما الشيعي، في زمنٍ كانت فيه الهويات تُستعمل سلاحًا.
كاهنٌ في الـ33 يحمل لبنان في قلبه
بعد سنوات من الأسفار والخبرات في لبنان ودول أوروبية عديدة، مزدانة بنشاطه الفني ومعارضه، وموشّحة باستعداد روحي عميق، سيم كاهنًا في 9 حزيران 1973، وهو في الـ 33 من عمره.
ولم تمضِ سنة حتى عاد إلى لبنان في أيلول 1974 ليباشر عمله الرسولي انطلاقًا من تعنايل، تلك الأرض التي تحوّلت على يد اليسوعيين إلى مزرعة نموذجية رغم الأوبئة والمجاعة والحروب والتحولات السياسية. في تعنايل كان يتعلّم يوميًا أن الإيمان لا يُقاس بعدد الصلوات فقط، بل بقدرة الكنيسة على أن تصمد مع الإنسان في أصعب الشروط.
“أين الخدمة الأكثر حاجة؟”
حين سُئل الكاهن اليسوعي الشاب عن المنطقة التي تحتاج إلى الخدمة أكثر من غيرها، قيل له إن نطاق عمله يشمل قرى الهرمل (القاع، إيعات، وادي الرطل) ودير الأحمر (نيحا، القدّام، برقا، زرازير، بيت بو صليبي، بتدعي، أناتا، شليفا) وحدث بعلبك… وأن المسيحيين هناك يحتاجون إلى كهنة يرعون شؤونهم الروحية في أكثر المناطق حرمانًا من خدمات المؤسسات الرسمية.
لكن حدس الأب نيكولا، المعطوف على الدراسات الاجتماعية الميدانية التي أُعدّت عن تلك القرى، أراه بوضوح: برقا وقرى أخرى في جوارها كانت الأشد فقرًا. لم يكن أهلها قادرين على توفير مسكن لكاهن يزورها في الآحاد والأعياد، وكانوا، كما ورد حرفيًا في السرد، “المنسيين من البشر والله ينادوني”. وهكذا كان.
المهمة المستحيلة
في برقا واجه الأب نيكولا أول اختبارٍ حقيقي لمعنى “الراعي”: لم يكن له في البداية غرفة يقيم فيها. وكان عليه أن يوحّد قلوب الناس قبل أن يبني الحجر. التشنج العائلي كان مسيطراً، حتى الاحتفال بالقداس الإلهي كان يجري في كنيستين.
وفوق الانقسام، كان الفقر قاسيًا. أرزاق الناس تمتد في الجرود العالية، والحرمان يطاول الماء والتنقل والرعاية الصحية والمدارس.
ثم اندلعت الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975، فاشتدت العصبيات الطائفية وتفجّر الانقسام السياسي. وسط كل تلك المصاعب، كان السؤال الطبيعي: هل يعود أدراجه؟ هل يستقيل من المهمة؟ هل يترك أهل برقا والجوار رهائن فقرهم وتقوقعهم وخلافاتهم؟
والجواب لم يأتِ بخطبةٍ حماسية، بل بألمٍ واقعيّ عاشته المنطقة: شهادة الشاب غصيبة كيروز الذي كان من فريق الأب نيكولا في التعليم الديني، وهو متجه إلى قريته نبحا، وقد أعدّ رسالة يتنبّأ فيها بمقتله، ويطلب من ذويه أن يسامحوا “اللي قتلوني من كلّ قلبكن”. كانت هذه العبارة جرسًا روحيًا: أن الغفران ليس شعارًا في الحرب، بل قرارًا يكسر سلسلة الدم.
برقا تنهض…
عاد الأب نيكولا إلى التفاصيل التي تصنع حياة الناس. عاش معهم، تنقّل في الجرود، قاسمهم آلامهم وآمالهم، وعرف أنّ حاجتهم الأولى هي المياه: يسقون منها مواشيهم ويزرعون منها أرضهم فحرّك علاقاته في بلجيكا وألمانيا وغيرها من أجل جرّ مياه الينابيع الخاصة بالقرية إلى الأراضي القابلة للزراعة، وبناء مجارٍ لها.
ثم رأى أنّ نهضة برقا تحتاج مدرسة لائقة، تُعد الأجيال القادرة على استثمار خيرات الأرض بدل النزوح إلى المدينة. فحشد الجهود، وأقنع راهبات القلبين الأقدسين بإرسال ثلاث راهبات للإشراف على إدارة المدرسة التي بناها أبناء القرية بسواعدهم وعلى عقار تبرعوا به.
لم يقف الأمر عند المدرسة. أثار همم الشباب لشقّ طريق ترابي يربط برقا بالأراضي الزراعية الواسعة في الأعالي، فشقّوه بأدواتٍ بسيطة وبجهدٍ جماعي، كي يتمكن المزارعون من نقل إنتاجهم إلى الأسواق.
وفي مسار البناء الاجتماعي، تابع بناء قاعة الرعية ومنزل الكاهن، وتوسيع الكنيسة، وافتتاح مشغل ومستوصف ومعمل للمنسوجات بالتعاون مع الراهبات. ولمّا بدأ الناس يشعرون بمعنى “المسؤولية المشتركة”، انطلقت مبادرات جديدة، منها وضع خطة لبناء كنيسة مار شربل في الجبل وسط أشجار التفاح، وتبرع الأهالي بالأموال اللازمة لبنائها، فكانت كنيسة “لكل الناس” بلا تفرقة.
أما اللحظة المفصلية فكانت في العام 1980 حين جمع العائلات بعد طول انقسامات، وتمّت المصالحة رسميًا بحضور المطران الراحل رولان أبو جودة ووجهاء العائلات. كسب محبة الأهالي لأنه لم يأتِ ليُدين أحدًا، بل ليجمع الكل حول فكرة واحدة: لا قيام لقريةٍ ممزقة.
“مهمة ثانية أسمى”… أن يبذل ذاته!
بعد مواجهته أمواج المصاعب ونجاحه في إنهاض قرى البقاع الشمالي ولا سيّما برقا، واستعادة الإنسان والمؤمن كرامته، بدا كأن الأب نيكولا أحسّ بانتهاء مرحلةٍ وبداية أخرى: مرحلة البذل النهائي.
وفي مساء 13 آذار 1985، تردد أنه قال كلماتٍ تختصر جوهره الروحي: إن المسيح يسأله: “أتجرؤ على اتباعي من أجل خلاص البشرية وخلاص كل إنسان؟”… وما عساه يجيب إلا: “سأفعل ما بوسعي”. هذه العبارة من توقيع رجلٍ عاش حياته على حافة الخطر دون أن يتغذى على الخطر، بل على المحبة.
الخطف… العذاب… والقتل
ثم وقعت المأساة التي تحوّلت إلى علامة.
خُطف الأب نيكولا، وتعرّض لأقسى أنواع التعذيب، ونال إكليل الشهادة في 14 آذار 1985. وتؤكد المعلومات أنّه خُطف مساء 13 آذار بعد أن ترأس القداس عند راهبات مستشفى بلدة الهرمل، وعاد أدراجه إلى برقا حيث كان الأهالي بانتظاره في صباح اليوم التالي… لكنه لم يصل.
من الجهة التي اختطفته؟ وفق المعطيات التي توفرت لنا، ظلّت القضية تُروى على أنها تمت “على يد مسلّحين مجهولين”. وهذا توصيفٌ جوهري لا يجوز القفز فوقه: فالمعلومات المتاحة التي نستند إليها لا تثبت هوية جهة محددة بقرارٍ قضائي أو إعلانٍ موثّق، بل تؤكد فقط واقع الاختطاف والقتل الوحشي.
وعُثر على جثمانه في هوّة بعد مرور نحو 17 يومًا على اختفائه، إثر جهود بحثٍ مضنية بدأت من رفاقه اليسوعيين في تعنايل والراهبات والقوى الأمنية في المنطقة.وتورد التفاصيل أن أحد الرعيان لاحظ في الجرد سربًا من الغربان يحوم فوق هوّة عميقة، فخامرته الشكوك، وأبلغ المسؤولين، فتوصّلوا إلى انتشال الجثة من القعر السحيق.
وكانت علامات العنف صادمة: طلقان ناريان، جسد مُعذّب، وموصوف في السرد بأنه “مخَوْزَق”، بما يشير إلى شدّة الحقد المتملّك بقاتليه.
من أجل تفادي المشاكل وعدم الانتقام، دُفن الأب نيكولا في دير تعنايل، في 3 نيسان 1985.
عندما يصبح الدم وثيقة
اليوم، الأب نيكولا كلويترز “خادم الله”. وقد دخل فعليًا درب الطوباوية وملف تقديم دعوى تطويبه قد أُرسل إلى مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان. ويُتابع هذا المسار محليًا بجهد من السيد حمدان جعجع الذي يحفظ أرشيفه ويواكب ملفه في المنطقة.
ولا يقف وفاء برقا عند حدود الذاكرة والأرشيف. فبحسب ما يؤكّده المتابعون للملف في البلدة، تقدّم أهالي برقا بطلبٍ رسمي لنقل رفات الأب كلويترز من دير تعنايل إلى برقا، البلدة أعطاها من عمره أكثر مما أعطاها أبناؤها. طلبٌ يحمل معنى يتجاوز “مكان الدفن”: إنه تعبيرٌ عن رغبة الناس بأن يعود “الأب” إلى بيته، وأن يكون حضوره الملموس بينهم، إلى جانب حضوره الروحي، شاهدًا على ما صنعه، وعلى أن الحب الذي زرعه لم يمت معه، بل يتنامى مع السنوات.
ما لا يهدمه الزمن!
ترك الأب نيكولا في برقا أشياء لا تُرى لكنها ثمينة: ثقافة البقاء بدل النزوح، منطق المصالحة بدل الانقسام، روح العمل الجماعي، وجرأة أن تكون القرية “كنيسة واحدة” لا جماعتين.
لكنّ الأثر الأعمق ليس ما شُيّد بالحجر وحده، بل ما استقرّ في القلب. فبحسب السيد حمدان جعجع، مرّت سنوات طويلة على غياب الأب كلويترز، غير أنّ إرثه لا يزال حاضرًا في البلدة: بين ناسها وأرضها ومبانيها. لم يستطع أهالي برقا نسيانه، بل مرّت الأيام وبقي الحبّ له يزداد. واليوم، يكاد يستحيل أن تمرّ أمام بيت في برقا أو تدخل إليه، من دون أن تلمح صورة للأب نيكولا: على الحائط، قرب الأيقونات، في غرفة الضيوف، أو في زاوية تُشبه “مزارًا” صغيرًا لذاكرة رجل لم يعد حاضرًا بجسده، لكنه لم يغادر يومًا وجدانهم.
وترك أيضًا معنى أن الكاهن ليس فقط “محتفلاً بقداس”، بل رفيق فقر، وطبيب معنويات، ومهندس رجاء. رجل كان يزور تعنايل مرّة أسبوعيًا ليبقى على تواصل مع رفاق دربه اليسوعيين، ثم يعود إلى الهرمل وبرقا وقرى دير الأحمر والقاع وإيعات ووادي الرطل… كأنه يوزّع نفسه خبزًا على مساحة كاملة.
في النهاية، لا يعود السؤال: من قتله؟ وحده. بل: ماذا فعل قبل أن يُقتل؟ وكيف صنع من قرية فقيرة، منسية، ممزقة، مكانًا قادرًا على الوقوف من جديد؟
إنه سؤال يليق بقديس محتمل… وببلد يحتاج إلى شهود يشبهونه: لا يعلّقون الرجاء على الشعارات، بل يزرعونه في التراب، ويسقونه بماء يُجرّ من بعيد، ويحرسونه بمحبة تُبذل حتى النهاية.















