مصير التحقيق في تفجير مرفأ بيروت… بعد امتناع مالك سفينة النّيترات عن التكلّم!

الكاتب: جان الفغالي | المصدر: هنا لبنان
20 كانون الأول 2025

القانون لا يربط مصير التحقيق بإفادة شخصٍ واحدٍ، مهما كانت أهمّيته. فالمحقّق العدلي ملزم بمتابعة الملف استنادًا إلى مجموع الأدلّة المتوافرة: مراسلات رسمية، مستندات شحن، تقارير جمركية، إفادات موظفين، وتقارير خبراء محليين ودوليين. بل إنّ اجتهاد محكمة التمييز اللبنانية يؤكّد أن التحقيق العدلي هو مسار تراكمي، لا يتوقّف على عنصر إثباتٍ واحدٍ، ولا يُشَلُّ بمجرّد غياب شاهد أو امتناعه.

عندما علم أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت أنّ المحقق العدلي القاضي طارق البيطار سيتوجّه إلى بلغاريا لأخذ إفادة مالك السفينة التي نقلت نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، تنفّسوا الصعداء واعتبروا أنّ الحقيقة ستظهر ولو بعد خمسة أعوام وخمسة أشهر على الرابع من آب 2020. لكنّ ظنّهم خاب بعدما علموا أن مالك السفينة امتنع عن الإجابة عن أسئلة القاضي البيطار الذي عاد خالي الوفاض من دون أي أجوبة تُنير التحقيق من شخص هو الأكثر إثارة في هذه القضية.

عرقلة القاضي البيطار لم تقتصر على هذا الأمر، إذ سبق له أن طالب بأن تُسلّم بلغاريا مالك السفينة إلى القضاء اللبناني، لكنّها رفضت الطلب خشية أن يصدر حكم بالإعدام بحقه، وهي تعتبر أنّ لبنان ما زال فيه عقوبة الإعدام. كما جرت محاولة عرقلة القاضي البيطار من السلطات اللبنانية نفسها، إذ كان هناك قرار بمنع السفر بحق البيطار، لكن هذا القرار رُفع لإتاحة المجال للقاضي البيطار بالسفر إلى بلغاريا.

السؤال الذي طرحه المراقبون بعد عدم التعاون البلغاري مع القضاء اللبناني هو: ما هو مصير التحقيق في غياب قطعة أساسية من “بازل” (puzzle) التحقيقات، أي مالك السفينة؟ يُشكّل امتناع مالك السفينة عن إعطاء إفادته محطةً إشكاليّةً جديدةً في مسار التحقيق القضائي الأكثر تعقيدًا في تاريخ لبنان الحديث. فهذا الامتناع لا يطرح فقط أسئلةً تتعلق بتعاون الشهود والمتضرّرين المحتملين مع العدالة، بل يفتح أيضًا نقاشًا قانونيًّا أوسع حول حدود صلاحيّات القضاء اللبناني، وآليات الملاحقة العابرة للحدود، وتأثير العرقلة غير المباشرة في مبدأ كشف الحقيقة.

من الناحية القانونية البحتة، لا يعدُّ امتناع شخص موجود خارج الأراضي اللبنانية عن المثول طوعًا أمام المحقق العدلي أمرًا نادرًا أو مستغربًا، خصوصًا في القضايا ذات الطابع الدولي. فمالك السفينة ليس مواطنًا لبنانيًّا، ولا يخضع للقضاء اللبناني، إلّا إذا كان موجودًا داخل لبنان أو في دولةٍ ترتبط معه باتفاقيات تعاون قضائي تسمح بتسليمه، وعليه، فإنّ الامتناع بحدّ ذاته لا يؤدّي تلقائيًا إلى إسقاط التحقيق أو تعطيله قانونًا، لكنه يفرض على القاضي اعتماد أدوات قانونية بديلة.

وفق أصول المحاكمات الجزائية اللبنانية، يملك المُحقّق العدلي صلاحيّاتٍ واسعةًً في جمع الأدلة واستجواب الشهود، بما في ذلك اللجوء إلى الاستنابات القضائية الدولية. فامتناع مالك السفينة عن الحضور يمكن مواجهته بتوجيه طلب مساعدة قضائية إلى الدولة التي يقيم فيها، بهدف استجوابه بواسطة قاضٍ محليّ، أو عبر تقنية الاستجواب عن بعد، إذا سمح النظام القانوني لتلك الدولة بذلك. وفي هذا السياق، لا يُشترط موافقة الشخص المعني دائمًا، بل يخضع الأمر للقانون الداخلي للدولة المطلوب منها التعاون.

إلّا أنّ الإشكاليّة الأعمق لا تكمن فقط في الوسائل الإجرائية، بل في قوة الإثبات لإفادة مالك السفينة؛ فهذه الإفادة تعدُّ محوريةً في تحديد المسؤوليات المتعلقة بشحنة نيترات الأمونيوم: مَن هو المالك الحقيقي؟ مَن اتخذ قرار نقل الشحنة؟ مَن موّل العملية؟ وهل كان هناك علم مسبق بطبيعة المواد وخطورتها؟ إنّ امتناعه عن الكلام قد يفسّر قانونًا كقرينة ظرفيّة لا ترقى إلى مستوى الدليل القاطع، لكنّها تُضاف إلى مجموعة قرائن يمكن للمحقّق العدلي أن يبنيَ عليها قناعته.

في الفقه الجزائي، لا يُعتبر الصمت أو الامتناع عن الإدلاء بإفادة دليل إدانة بحدّ ذاته، احترامًا لمبدأ قرينة البراءة. غير أنّ هذا المبدأ يطبّق أساسًا على المدّعى عليهم، لا على الشهود أو أصحاب الصلة، ومع ذلك، فإنّ القضاء يمكنه أن يستخلص استنتاجات من الامتناع غير المبرّر.

من جهةٍ أخرى، لا يمكن فصل هذا التطوّر عن السياق السياسي والقضائي الأوسع الذي يُحيط بالتحقيق. فالتحقيق في تفجير المرفأ تعرّض منذ انطلاقه لسلسلة من العراقيل: دعاوى مُخاصمة، طلبات ردّ، ضغوط سياسية، وتعطيل متكرّر لمجلس القضاء الأعلى والحكومة فيما يتصل بالتعاون القضائي. في هذا المُناخ، يُخشى أن يُستثمر امتناع مالك السفينة كذريعةٍ إضافيةٍ للتشكيك بجدوى التحقيق أو للترويج لفكرة استحالة الوصول إلى الحقيقة الكاملة.

مع ذلك، فإنّ القانون لا يربط مصير التحقيق بإفادة شخصٍ واحدٍ، مهما كانت أهمّيته. فالمحقّق العدلي ملزم بمتابعة الملف استنادًا إلى مجموع الأدلّة المتوافرة: مراسلات رسمية، مستندات شحن، تقارير جمركية، إفادات موظفين، وتقارير خبراء محليين ودوليين. بل إنّ اجتهاد محكمة التمييز اللبنانية يؤكّد أن التحقيق العدلي هو مسار تراكمي، لا يتوقّف على عنصر إثباتٍ واحدٍ، ولا يُشَلُّ بمجرّد غياب شاهد أو امتناعه.

في الخُلاصة، يمكن القول إنّ امتناع مالك السفينة عن إعطاء إفادته لا يُنهي التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، لكنّه يكشف مجدّدًا حدود العدالة المحلّية في مواجهة الجرائم ذات الأبعاد الدولية. مصير التحقيق سيبقى مرتبطًا بإرادة القضاء في استخدام كلّ الأدوات القانونية المتاحة، وبقدرة الدولة اللبنانية على تفعيل التعاون القضائي الدولي، وبمدى صمود القاضي البيطار أمام الضغوط. أمّا الحقيقة، وإن تأخرت، فلا يُسقطها الامتناع ولا يُلغيها الصمت.

مصير التحقيق في تفجير مرفأ بيروت… بعد امتناع مالك سفينة النّيترات عن التكلّم!

الكاتب: جان الفغالي | المصدر: هنا لبنان
20 كانون الأول 2025

القانون لا يربط مصير التحقيق بإفادة شخصٍ واحدٍ، مهما كانت أهمّيته. فالمحقّق العدلي ملزم بمتابعة الملف استنادًا إلى مجموع الأدلّة المتوافرة: مراسلات رسمية، مستندات شحن، تقارير جمركية، إفادات موظفين، وتقارير خبراء محليين ودوليين. بل إنّ اجتهاد محكمة التمييز اللبنانية يؤكّد أن التحقيق العدلي هو مسار تراكمي، لا يتوقّف على عنصر إثباتٍ واحدٍ، ولا يُشَلُّ بمجرّد غياب شاهد أو امتناعه.

عندما علم أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت أنّ المحقق العدلي القاضي طارق البيطار سيتوجّه إلى بلغاريا لأخذ إفادة مالك السفينة التي نقلت نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، تنفّسوا الصعداء واعتبروا أنّ الحقيقة ستظهر ولو بعد خمسة أعوام وخمسة أشهر على الرابع من آب 2020. لكنّ ظنّهم خاب بعدما علموا أن مالك السفينة امتنع عن الإجابة عن أسئلة القاضي البيطار الذي عاد خالي الوفاض من دون أي أجوبة تُنير التحقيق من شخص هو الأكثر إثارة في هذه القضية.

عرقلة القاضي البيطار لم تقتصر على هذا الأمر، إذ سبق له أن طالب بأن تُسلّم بلغاريا مالك السفينة إلى القضاء اللبناني، لكنّها رفضت الطلب خشية أن يصدر حكم بالإعدام بحقه، وهي تعتبر أنّ لبنان ما زال فيه عقوبة الإعدام. كما جرت محاولة عرقلة القاضي البيطار من السلطات اللبنانية نفسها، إذ كان هناك قرار بمنع السفر بحق البيطار، لكن هذا القرار رُفع لإتاحة المجال للقاضي البيطار بالسفر إلى بلغاريا.

السؤال الذي طرحه المراقبون بعد عدم التعاون البلغاري مع القضاء اللبناني هو: ما هو مصير التحقيق في غياب قطعة أساسية من “بازل” (puzzle) التحقيقات، أي مالك السفينة؟ يُشكّل امتناع مالك السفينة عن إعطاء إفادته محطةً إشكاليّةً جديدةً في مسار التحقيق القضائي الأكثر تعقيدًا في تاريخ لبنان الحديث. فهذا الامتناع لا يطرح فقط أسئلةً تتعلق بتعاون الشهود والمتضرّرين المحتملين مع العدالة، بل يفتح أيضًا نقاشًا قانونيًّا أوسع حول حدود صلاحيّات القضاء اللبناني، وآليات الملاحقة العابرة للحدود، وتأثير العرقلة غير المباشرة في مبدأ كشف الحقيقة.

من الناحية القانونية البحتة، لا يعدُّ امتناع شخص موجود خارج الأراضي اللبنانية عن المثول طوعًا أمام المحقق العدلي أمرًا نادرًا أو مستغربًا، خصوصًا في القضايا ذات الطابع الدولي. فمالك السفينة ليس مواطنًا لبنانيًّا، ولا يخضع للقضاء اللبناني، إلّا إذا كان موجودًا داخل لبنان أو في دولةٍ ترتبط معه باتفاقيات تعاون قضائي تسمح بتسليمه، وعليه، فإنّ الامتناع بحدّ ذاته لا يؤدّي تلقائيًا إلى إسقاط التحقيق أو تعطيله قانونًا، لكنه يفرض على القاضي اعتماد أدوات قانونية بديلة.

وفق أصول المحاكمات الجزائية اللبنانية، يملك المُحقّق العدلي صلاحيّاتٍ واسعةًً في جمع الأدلة واستجواب الشهود، بما في ذلك اللجوء إلى الاستنابات القضائية الدولية. فامتناع مالك السفينة عن الحضور يمكن مواجهته بتوجيه طلب مساعدة قضائية إلى الدولة التي يقيم فيها، بهدف استجوابه بواسطة قاضٍ محليّ، أو عبر تقنية الاستجواب عن بعد، إذا سمح النظام القانوني لتلك الدولة بذلك. وفي هذا السياق، لا يُشترط موافقة الشخص المعني دائمًا، بل يخضع الأمر للقانون الداخلي للدولة المطلوب منها التعاون.

إلّا أنّ الإشكاليّة الأعمق لا تكمن فقط في الوسائل الإجرائية، بل في قوة الإثبات لإفادة مالك السفينة؛ فهذه الإفادة تعدُّ محوريةً في تحديد المسؤوليات المتعلقة بشحنة نيترات الأمونيوم: مَن هو المالك الحقيقي؟ مَن اتخذ قرار نقل الشحنة؟ مَن موّل العملية؟ وهل كان هناك علم مسبق بطبيعة المواد وخطورتها؟ إنّ امتناعه عن الكلام قد يفسّر قانونًا كقرينة ظرفيّة لا ترقى إلى مستوى الدليل القاطع، لكنّها تُضاف إلى مجموعة قرائن يمكن للمحقّق العدلي أن يبنيَ عليها قناعته.

في الفقه الجزائي، لا يُعتبر الصمت أو الامتناع عن الإدلاء بإفادة دليل إدانة بحدّ ذاته، احترامًا لمبدأ قرينة البراءة. غير أنّ هذا المبدأ يطبّق أساسًا على المدّعى عليهم، لا على الشهود أو أصحاب الصلة، ومع ذلك، فإنّ القضاء يمكنه أن يستخلص استنتاجات من الامتناع غير المبرّر.

من جهةٍ أخرى، لا يمكن فصل هذا التطوّر عن السياق السياسي والقضائي الأوسع الذي يُحيط بالتحقيق. فالتحقيق في تفجير المرفأ تعرّض منذ انطلاقه لسلسلة من العراقيل: دعاوى مُخاصمة، طلبات ردّ، ضغوط سياسية، وتعطيل متكرّر لمجلس القضاء الأعلى والحكومة فيما يتصل بالتعاون القضائي. في هذا المُناخ، يُخشى أن يُستثمر امتناع مالك السفينة كذريعةٍ إضافيةٍ للتشكيك بجدوى التحقيق أو للترويج لفكرة استحالة الوصول إلى الحقيقة الكاملة.

مع ذلك، فإنّ القانون لا يربط مصير التحقيق بإفادة شخصٍ واحدٍ، مهما كانت أهمّيته. فالمحقّق العدلي ملزم بمتابعة الملف استنادًا إلى مجموع الأدلّة المتوافرة: مراسلات رسمية، مستندات شحن، تقارير جمركية، إفادات موظفين، وتقارير خبراء محليين ودوليين. بل إنّ اجتهاد محكمة التمييز اللبنانية يؤكّد أن التحقيق العدلي هو مسار تراكمي، لا يتوقّف على عنصر إثباتٍ واحدٍ، ولا يُشَلُّ بمجرّد غياب شاهد أو امتناعه.

في الخُلاصة، يمكن القول إنّ امتناع مالك السفينة عن إعطاء إفادته لا يُنهي التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، لكنّه يكشف مجدّدًا حدود العدالة المحلّية في مواجهة الجرائم ذات الأبعاد الدولية. مصير التحقيق سيبقى مرتبطًا بإرادة القضاء في استخدام كلّ الأدوات القانونية المتاحة، وبقدرة الدولة اللبنانية على تفعيل التعاون القضائي الدولي، وبمدى صمود القاضي البيطار أمام الضغوط. أمّا الحقيقة، وإن تأخرت، فلا يُسقطها الامتناع ولا يُلغيها الصمت.

مزيد من الأخبار

مزيد من الأخبار