الدولة التي خطّطت لاغتيال العقل: كيف أُعدِمت الفلسفة في لبنان؟

الكاتب: الأب ريمون ابي تامر
20 كانون الأول 2025

في بلدٍ يفاخر بأنه “منارة الشرق”، يصبح السؤال مشروعاً ومؤلماً في آن واحد:
كيف تحوّلت الفلسفة، التي كانت يوماً قلب المدرسة اللبنانية، إلى مادة مهمَّشة ومغيَّبة؟

وكيف صار العقل النقدي، الذي صاغ هويّة لبنان الثقافية، عبئاً على نظامٍ لا يريد مواطنين يفكرون، بل أفراداً يطيعون؟

منذ نهاية التسعينيات، ومع إقرار مناهج 1997، دخل التعليم اللبناني في مرحلة جديدة، حملت عنوان “التحديث”، لكنها أخفت في طيّاتها نزعة واضحة إلى تفريغ المناهج من بعدها النقدي، ولا سيّما في مادة الفلسفة. لم يكن الأمر صدفة. ولم يكن مجرد خطأ تقني. كان قراراً سياسياً، شديد الدقة، يرسم حدوداً جديدة لوظيفة المدرسة.


أولاً: مناهج بلا ذاكرة… وتربية بلا سؤال

حين نُحّيَ تعليم تاريخ لبنان الحديث والمعاصر جانباً، لم يكن الهدف حماية الطلاب من عنف الحرب، بل حماية الطبقة السياسية من مرآة الحقيقة. وهكذا نشأ جيلٌ لا يعرف ماذا جرى، ولا من حارب، ولا لماذا انفجر البلد أصلاً.

لكن الأخطر من غياب التاريخ… هو غياب قدرة النقد.
فمن دون الفلسفة، يفقد الطالب القدرة على السؤال، والتحليل، والمقارنة، والمحاسبة.

ومدرسة بلا سؤال هي مدرسة بلا مواطن.

وهذا تماماً ما أراده النظام:
ذاكرة معلّقة + عقل مُجمَّد = مجتمع قابل لإعادة التدوير سياسياً.

ثانياً: لماذا خاف النظام من الفلسفة؟

لأن الفلسفة تسأل:

ما هي شرعية السلطة؟

ما معنى العدالة؟

من يملك الحق في القرار؟

أين موقع الفرد من الجماعة؟

ما دور الدولة في حماية الإنسان؟


هذه الأسئلة ليست أكاديمية.
إنّها تهزّ بنية كاملة تعيش على إعادة إنتاج الولاءات، لا على بناء مواطنين أحرار.

في تسعينيات ما بعد الحرب، لم تجرؤ دولة زمن الوصاية على تحديث مادة الفلسفة سياسياً، بل اكتفت بصيغتها القديمة، ثم قلّصت حصصها، ثم أفرغتها من قوتها التحليلية، وكأنها مادة ثانوية يمكن إدخالها في القلب الصناعي للمناهج من دون أن ينبض بها الجسد.

وهكذا تحوّلت الفلسفة من مادة تكوّن العقل إلى مجرد مادة امتحان.
والامتحان، كما نعرف، لا يخرّج فلاسفة… بل طلاباً يحفظون ويعيدون.


ثالثاً: الفلسفة ليست ترفاً… بل أساس الهويّة اللبنانية

لبنان وُلد من جدلية:
الحرية + العقل+ التعددية.

ومن دون الفلسفة، لا معنى للتعدد، ولا ضمانة للحرية، ولا قوة للعقل.
إنّها المادة الوحيدة التي تدرب اللبناني على أن يكون لبنانياً، أي قادراً على الإصغاء، والجدال، والنقد، والاختلاف – من دون تكسير ولا شتائم ولا شيطنة.

الفلسفة تخلق مساحات مشتركة، حين تكون السياسة مصابة بالانسداد.

وتخلق لغة نقدية، حين يصبح الخطاب العام رهينة الشعبوية.
وتخلق ذاكرة مشتركة، حين تُفبرك سرديات متناقضة.

هذا ما فهمته دول خرجت من حروب أقسى من حربنا – فنلندا، رواندا، جنوب أفريقيا – فجعلت الفلسفة رافعة لإعادة بناء الإنسان.
أما نحن، فقررنا إسكاتها.

رابعاً: ماذا خسر لبنان حين خسر الفلسفة؟

خسر شيئاً من ذاته.
خسر قدرته على إنتاج نقاش عام راقٍ.
خسر ثقافة السؤال.
خسر حقه في أن يكون بلداً يفكر، لا بلداً يستهلك.

وأخطر خسارة:
أن الجيل الجديد أصبح بارعاً في اللغات، التكنولوجيا، والعلوم
لكنه هشّ أمام خطاب الكراهية، وسهل الانجرار وراء العنف الرمزي، وعاجزاً عن فهم ذاته أو الآخر.

جيل يعرف “كيف يعمل”، لكنه لا يعرف “لماذا يعمل”.
جيل يعرف “ماذا يدرس”، لكنه لا يعرف “من هو”.

خامساً: إعادة الفلسفة ليست مطلباً تربوياً… بل معركة سياسية

اليوم، مع النقاش حول الإطار الوطني الجديد للمناهج، هناك فرصة، لكنّها خطرة، إذ يمكن إعادة الفلسفة بعمق جديد، كما يمكن تحويلها إلى مادة “مهارات تفكير” خفيفة الوزن، منزوعة الروح، بلا مضمون سياسي أو أخلاقي أو إنساني.

لذلك يجب أن تكون المعركة واضحة:
إعادة الفلسفة ليست تحسيناً تقنياً… بل مشروع مقاومة فكرية ضد تفريغ الهوية.

نريد فلسفة تعيد للطالب القدرة على:

مساءلة السلطة
نقد الخطاب
فهم ذاته وبلده
التفكير في الحرية والعدالة

قراءة العالم بعيون غير مستعارة

نريد فلسفة تحوّل المدرسة إلى ورشة وعي، لا إلى مصنع شهادات.

ختاماً: لبنان لا يُبنى بلا عقل حرّ.
تغييب الفلسفة كان قراراً سياسياً لإسكات العقل.
وإعادتها اليوم يجب أن تكون قراراً وطنياً لإحياء لبنان.

فالفلسفة ليست كتاباً ولا منهجاً.
إنها طريقة حياة.

وكل وطن يريد الخروج من أزمته يحتاج إلى أن يستعيد قدرته على السؤال.

والسؤال، كما نعرف، هو بداية الحرية… وبداية الدولة.

هل يمكن للبنان أن يولد من جديد؟
ربما.

لكن شرط البداية بسيط وواضح:
أعيدوا للفلسفة مكانها… ليعود للعقل مكانه في هذا البلد.

الدولة التي خطّطت لاغتيال العقل: كيف أُعدِمت الفلسفة في لبنان؟

الكاتب: الأب ريمون ابي تامر
20 كانون الأول 2025

في بلدٍ يفاخر بأنه “منارة الشرق”، يصبح السؤال مشروعاً ومؤلماً في آن واحد:
كيف تحوّلت الفلسفة، التي كانت يوماً قلب المدرسة اللبنانية، إلى مادة مهمَّشة ومغيَّبة؟

وكيف صار العقل النقدي، الذي صاغ هويّة لبنان الثقافية، عبئاً على نظامٍ لا يريد مواطنين يفكرون، بل أفراداً يطيعون؟

منذ نهاية التسعينيات، ومع إقرار مناهج 1997، دخل التعليم اللبناني في مرحلة جديدة، حملت عنوان “التحديث”، لكنها أخفت في طيّاتها نزعة واضحة إلى تفريغ المناهج من بعدها النقدي، ولا سيّما في مادة الفلسفة. لم يكن الأمر صدفة. ولم يكن مجرد خطأ تقني. كان قراراً سياسياً، شديد الدقة، يرسم حدوداً جديدة لوظيفة المدرسة.


أولاً: مناهج بلا ذاكرة… وتربية بلا سؤال

حين نُحّيَ تعليم تاريخ لبنان الحديث والمعاصر جانباً، لم يكن الهدف حماية الطلاب من عنف الحرب، بل حماية الطبقة السياسية من مرآة الحقيقة. وهكذا نشأ جيلٌ لا يعرف ماذا جرى، ولا من حارب، ولا لماذا انفجر البلد أصلاً.

لكن الأخطر من غياب التاريخ… هو غياب قدرة النقد.
فمن دون الفلسفة، يفقد الطالب القدرة على السؤال، والتحليل، والمقارنة، والمحاسبة.

ومدرسة بلا سؤال هي مدرسة بلا مواطن.

وهذا تماماً ما أراده النظام:
ذاكرة معلّقة + عقل مُجمَّد = مجتمع قابل لإعادة التدوير سياسياً.

ثانياً: لماذا خاف النظام من الفلسفة؟

لأن الفلسفة تسأل:

ما هي شرعية السلطة؟

ما معنى العدالة؟

من يملك الحق في القرار؟

أين موقع الفرد من الجماعة؟

ما دور الدولة في حماية الإنسان؟


هذه الأسئلة ليست أكاديمية.
إنّها تهزّ بنية كاملة تعيش على إعادة إنتاج الولاءات، لا على بناء مواطنين أحرار.

في تسعينيات ما بعد الحرب، لم تجرؤ دولة زمن الوصاية على تحديث مادة الفلسفة سياسياً، بل اكتفت بصيغتها القديمة، ثم قلّصت حصصها، ثم أفرغتها من قوتها التحليلية، وكأنها مادة ثانوية يمكن إدخالها في القلب الصناعي للمناهج من دون أن ينبض بها الجسد.

وهكذا تحوّلت الفلسفة من مادة تكوّن العقل إلى مجرد مادة امتحان.
والامتحان، كما نعرف، لا يخرّج فلاسفة… بل طلاباً يحفظون ويعيدون.


ثالثاً: الفلسفة ليست ترفاً… بل أساس الهويّة اللبنانية

لبنان وُلد من جدلية:
الحرية + العقل+ التعددية.

ومن دون الفلسفة، لا معنى للتعدد، ولا ضمانة للحرية، ولا قوة للعقل.
إنّها المادة الوحيدة التي تدرب اللبناني على أن يكون لبنانياً، أي قادراً على الإصغاء، والجدال، والنقد، والاختلاف – من دون تكسير ولا شتائم ولا شيطنة.

الفلسفة تخلق مساحات مشتركة، حين تكون السياسة مصابة بالانسداد.

وتخلق لغة نقدية، حين يصبح الخطاب العام رهينة الشعبوية.
وتخلق ذاكرة مشتركة، حين تُفبرك سرديات متناقضة.

هذا ما فهمته دول خرجت من حروب أقسى من حربنا – فنلندا، رواندا، جنوب أفريقيا – فجعلت الفلسفة رافعة لإعادة بناء الإنسان.
أما نحن، فقررنا إسكاتها.

رابعاً: ماذا خسر لبنان حين خسر الفلسفة؟

خسر شيئاً من ذاته.
خسر قدرته على إنتاج نقاش عام راقٍ.
خسر ثقافة السؤال.
خسر حقه في أن يكون بلداً يفكر، لا بلداً يستهلك.

وأخطر خسارة:
أن الجيل الجديد أصبح بارعاً في اللغات، التكنولوجيا، والعلوم
لكنه هشّ أمام خطاب الكراهية، وسهل الانجرار وراء العنف الرمزي، وعاجزاً عن فهم ذاته أو الآخر.

جيل يعرف “كيف يعمل”، لكنه لا يعرف “لماذا يعمل”.
جيل يعرف “ماذا يدرس”، لكنه لا يعرف “من هو”.

خامساً: إعادة الفلسفة ليست مطلباً تربوياً… بل معركة سياسية

اليوم، مع النقاش حول الإطار الوطني الجديد للمناهج، هناك فرصة، لكنّها خطرة، إذ يمكن إعادة الفلسفة بعمق جديد، كما يمكن تحويلها إلى مادة “مهارات تفكير” خفيفة الوزن، منزوعة الروح، بلا مضمون سياسي أو أخلاقي أو إنساني.

لذلك يجب أن تكون المعركة واضحة:
إعادة الفلسفة ليست تحسيناً تقنياً… بل مشروع مقاومة فكرية ضد تفريغ الهوية.

نريد فلسفة تعيد للطالب القدرة على:

مساءلة السلطة
نقد الخطاب
فهم ذاته وبلده
التفكير في الحرية والعدالة

قراءة العالم بعيون غير مستعارة

نريد فلسفة تحوّل المدرسة إلى ورشة وعي، لا إلى مصنع شهادات.

ختاماً: لبنان لا يُبنى بلا عقل حرّ.
تغييب الفلسفة كان قراراً سياسياً لإسكات العقل.
وإعادتها اليوم يجب أن تكون قراراً وطنياً لإحياء لبنان.

فالفلسفة ليست كتاباً ولا منهجاً.
إنها طريقة حياة.

وكل وطن يريد الخروج من أزمته يحتاج إلى أن يستعيد قدرته على السؤال.

والسؤال، كما نعرف، هو بداية الحرية… وبداية الدولة.

هل يمكن للبنان أن يولد من جديد؟
ربما.

لكن شرط البداية بسيط وواضح:
أعيدوا للفلسفة مكانها… ليعود للعقل مكانه في هذا البلد.

مزيد من الأخبار

مزيد من الأخبار