أزمة وطنية بصوت طفولي

في لبنان، يكفي فيديو صُوِّر داخل مدرسة، وبصوت أطفال، كي تتحول البلاد إلى ساحة ذعر سياسي وأخلاقي. لا لأن ما قيل يهدد السلم الأهلي فعلًا، بل لأن النظام نفسه هش إلى درجة أن أي تعبير ثقافي غير مألوف يُقرأ فورًا كتهديد وجودي. هكذا تحوّل مشهد تمثيلي داخل ثانوية مناهج العالمية في طرابلس إلى أزمة وطنية مفتوحة.
الضجة التي أعقبت انتشار الفيديو لم تكن متناسبة مع الحدث بقدر ما كانت كاشفة لخلل أعمق. بلد يعجز عن إدارة أزماته البنيوية، من الاقتصاد إلى السيادة، وجد في فيديو مدرسي فرصة لاستعراض حساسيته المفرطة تجاه الاختلاف. وكأن المشكلة ليست في الدولة، بل في أطفالها.
وسط هذا الانفلات الخطابي، صدر بيان لجنة أهالي “ثانوية مناهج العالمية”، فجاء مختلفًا عن معظم ما قيل. لم ينكر الواقع، ولم يناور لغويًا، بل سمّى الأمور بأسمائها. قالت اللجنة بوضوح:
“نحن لم نعهد على ثانويتنا الحبيبة… أن تلقنهم إلا كل كلمة طيبة وكل ما يظهر ديننا الحنيف بتعاليمه السمحة.”
وأضافت أن ما ورد في الفيديو “لا يعني كرهًا لهم أو عدم تعايش معهم”، معتبرة أن ما قُدّم “مجرد تعليمات تُعطى لصغيراتنا لعدم المشاركة في أعياد الآخرين”.
هذا الموقف، سواء اتُّفق معه أو رُفض، يعكس وعيًا سياسيًا غائبًا عن الخطاب العام: الدفاع عن الحق في التعبير الثقافي من دون الوقوع في خطاب الكراهية، ورفض تحويل القناعات الدينية الخاصة إلى تهمة عامة. اللجنة ذهبت أبعد، حين تساءلت علنًا: “هل خالف هذا الفيديو في محتواه تعاليم ديننا الحنيف أو حضّ على الكراهية بأي شكل من الأشكال؟”
في علم السياسة، لا تُقاس قوة الدول بقدرتها على قمع التعبير، بل بقدرتها على استيعابه. جون ستيوارت ميل رأى أن المجتمع الذي يخاف من الأفكار المختلفة هو مجتمع غير واثق من نفسه. أما لبنان، فيبدو أنه يخاف من نفسه قبل أي شيء آخر.
المفارقة أن الدولة التي لم تنجح في بناء هوية سياسية جامعة حقيقية، ما زالت تطالب الناس بالتصرف وكأن هذه الهوية موجودة. هنا يصبح الفيديو ذريعة، لا سببًا. السبب الحقيقي هو نظام سياسي بُني على إنكار التعدد بدل تنظيمه. أرند ليبهارت شدد على أن المجتمعات المنقسمة تحتاج إلى إدارة توافقية تعترف بالاختلاف وتحميه، لا إلى خطابات وحدة وطنية تُستخدم فقط عند الأزمات.
لبنان، منذ تأسيسه، يعيش على هذا التناقض. يطالب بالذوبان في هوية واحدة، لكنه يُنتج الانقسام عند كل تفصيل. وكما قال ابن خلدون، الدولة التي تتعدد فيها العصبيات من دون عقد سياسي واضح، تبقى في حال اضطراب دائم. الفيديو لم يخلق هذا الاضطراب، بل كشفه.
التهكم المرّ أن المؤسسات التي يفترض أن تكون محمية من الاستثمار السياسي، كالمؤسسات التربوية، تتحول فجأة إلى ساحات صراع رمزي. لجنة الأهل نفسها نبهت إلى ذلك حين تحدثت عن “محاولات بائسة سبقتها محاولات كثيرة استهدفت مدينة طرابلس”، مؤكدة رفضها “التدخلات الخارجية التي تحمّل الأمور ما لا تحتمل”.
هنا لا بد من قول ما يُتجنّب عادة: للمخرج، والكاتب، والمشاركين في أي عمل تمثيلي أو تربوي كامل الحق في التعبير عن ثقافتهم وقناعاتهم. هذا حق لا يُلغى بذريعة العيش المشترك، بل يُنظَّم بالقانون. المشكلة ليست في التعدد، بل في نظام سياسي يطالب بالتعايش من دون أن يؤمّن شروطه.
التوصيات لا يمكن أن تكون وعظية.
أولًا، الاعتراف الصريح بأن لبنان ليس مجتمعًا متجانسًا، وأن التعدد واقع لا شعار.
ثانيًا، حماية حرية التعبير الديني والثقافي ضمن أطر قانونية واضحة تمنع التحريض ولا تجرّم القناعة.
ثالثًا، تحييد المدارس عن الاستثمار السياسي والأمني. وأخيرًا، فتح نقاش جدي حول النظام السياسي نفسه، لا حول أعراض فشله.
في لبنان، لا تخاف الدولة من الفتنة بقدر ما تخاف من الاعتراف بعجزها. لذلك، كلما تكلّم الأطفال، ارتبك الكبار.
أزمة وطنية بصوت طفولي

في لبنان، يكفي فيديو صُوِّر داخل مدرسة، وبصوت أطفال، كي تتحول البلاد إلى ساحة ذعر سياسي وأخلاقي. لا لأن ما قيل يهدد السلم الأهلي فعلًا، بل لأن النظام نفسه هش إلى درجة أن أي تعبير ثقافي غير مألوف يُقرأ فورًا كتهديد وجودي. هكذا تحوّل مشهد تمثيلي داخل ثانوية مناهج العالمية في طرابلس إلى أزمة وطنية مفتوحة.
الضجة التي أعقبت انتشار الفيديو لم تكن متناسبة مع الحدث بقدر ما كانت كاشفة لخلل أعمق. بلد يعجز عن إدارة أزماته البنيوية، من الاقتصاد إلى السيادة، وجد في فيديو مدرسي فرصة لاستعراض حساسيته المفرطة تجاه الاختلاف. وكأن المشكلة ليست في الدولة، بل في أطفالها.
وسط هذا الانفلات الخطابي، صدر بيان لجنة أهالي “ثانوية مناهج العالمية”، فجاء مختلفًا عن معظم ما قيل. لم ينكر الواقع، ولم يناور لغويًا، بل سمّى الأمور بأسمائها. قالت اللجنة بوضوح:
“نحن لم نعهد على ثانويتنا الحبيبة… أن تلقنهم إلا كل كلمة طيبة وكل ما يظهر ديننا الحنيف بتعاليمه السمحة.”
وأضافت أن ما ورد في الفيديو “لا يعني كرهًا لهم أو عدم تعايش معهم”، معتبرة أن ما قُدّم “مجرد تعليمات تُعطى لصغيراتنا لعدم المشاركة في أعياد الآخرين”.
هذا الموقف، سواء اتُّفق معه أو رُفض، يعكس وعيًا سياسيًا غائبًا عن الخطاب العام: الدفاع عن الحق في التعبير الثقافي من دون الوقوع في خطاب الكراهية، ورفض تحويل القناعات الدينية الخاصة إلى تهمة عامة. اللجنة ذهبت أبعد، حين تساءلت علنًا: “هل خالف هذا الفيديو في محتواه تعاليم ديننا الحنيف أو حضّ على الكراهية بأي شكل من الأشكال؟”
في علم السياسة، لا تُقاس قوة الدول بقدرتها على قمع التعبير، بل بقدرتها على استيعابه. جون ستيوارت ميل رأى أن المجتمع الذي يخاف من الأفكار المختلفة هو مجتمع غير واثق من نفسه. أما لبنان، فيبدو أنه يخاف من نفسه قبل أي شيء آخر.
المفارقة أن الدولة التي لم تنجح في بناء هوية سياسية جامعة حقيقية، ما زالت تطالب الناس بالتصرف وكأن هذه الهوية موجودة. هنا يصبح الفيديو ذريعة، لا سببًا. السبب الحقيقي هو نظام سياسي بُني على إنكار التعدد بدل تنظيمه. أرند ليبهارت شدد على أن المجتمعات المنقسمة تحتاج إلى إدارة توافقية تعترف بالاختلاف وتحميه، لا إلى خطابات وحدة وطنية تُستخدم فقط عند الأزمات.
لبنان، منذ تأسيسه، يعيش على هذا التناقض. يطالب بالذوبان في هوية واحدة، لكنه يُنتج الانقسام عند كل تفصيل. وكما قال ابن خلدون، الدولة التي تتعدد فيها العصبيات من دون عقد سياسي واضح، تبقى في حال اضطراب دائم. الفيديو لم يخلق هذا الاضطراب، بل كشفه.
التهكم المرّ أن المؤسسات التي يفترض أن تكون محمية من الاستثمار السياسي، كالمؤسسات التربوية، تتحول فجأة إلى ساحات صراع رمزي. لجنة الأهل نفسها نبهت إلى ذلك حين تحدثت عن “محاولات بائسة سبقتها محاولات كثيرة استهدفت مدينة طرابلس”، مؤكدة رفضها “التدخلات الخارجية التي تحمّل الأمور ما لا تحتمل”.
هنا لا بد من قول ما يُتجنّب عادة: للمخرج، والكاتب، والمشاركين في أي عمل تمثيلي أو تربوي كامل الحق في التعبير عن ثقافتهم وقناعاتهم. هذا حق لا يُلغى بذريعة العيش المشترك، بل يُنظَّم بالقانون. المشكلة ليست في التعدد، بل في نظام سياسي يطالب بالتعايش من دون أن يؤمّن شروطه.
التوصيات لا يمكن أن تكون وعظية.
أولًا، الاعتراف الصريح بأن لبنان ليس مجتمعًا متجانسًا، وأن التعدد واقع لا شعار.
ثانيًا، حماية حرية التعبير الديني والثقافي ضمن أطر قانونية واضحة تمنع التحريض ولا تجرّم القناعة.
ثالثًا، تحييد المدارس عن الاستثمار السياسي والأمني. وأخيرًا، فتح نقاش جدي حول النظام السياسي نفسه، لا حول أعراض فشله.
في لبنان، لا تخاف الدولة من الفتنة بقدر ما تخاف من الاعتراف بعجزها. لذلك، كلما تكلّم الأطفال، ارتبك الكبار.













