لماذا لا يحل نزع السلاح أزمة لبنان؟

المشكلة في لبنان لا تختصر بوجود سلاح خارج عن الدولة. فهي قبل ذلك أزمة نظام ولاء متكامل. فجوهر المأزق القائم يتمثّل في مشروع سياسي – عقائدي اسمه ولاية الفقيه، يتجاوز الدولة ويتقدّم عليها ويعاملها كحيّز وظيفي قابل للاستخدام لا ككيان سيادي جامع. ويقوم هذا المشروع على إعادة تعريف السياسة نفسها، فيحدّد معنى الطاعة، ويرسم اتجاه القرار، ويعيد تشكيل مفهوم المواطنة بوصفها علاقة مشروطة بمرجعية خارج الحدود. ولذلك، يبقى أي نقاش ينحصر في السلاح دورانًا حول الأعراض من دون مقاربة المرض.
ولتفسير كيفية ترسّخ هذه المنظومة، يجب العودة إلى لحظة تاريخية محدّدة دخل فيها العامل الإيراني مباشرة إلى الساحة اللبنانية. فمع وصول عناصر الحرس الثوري إلى منطقة البقاع في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ضمن سياق أعقب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، تزامن الحضور العسكري مع فراغ أمني وسياسي عميق. وترافقت هذه اللحظة مع واقع شيعي خرج من عقود طويلة من التهميش البنيوي داخل الدولة اللبنانية.
وكان الشيعة في لبنان جزءًا من نظام طائفي غير متوازن. فتمثيلهم السياسي بقي محدودًا قياسًا بحجمهم الديموغرافي، وعاشت مناطقهم، ولا سيما الجنوب والبقاع، إهمالًا إنمائيًا وأمنيًا مزمنًا، وتعرّضت لاعتداءات متكرّرة في ظل غياب حماية مؤسسية فعّالة. فأنتج هذا الواقع شعورًا متراكمًا بالغبن، بوصفه تجربة اجتماعية يومية مرتبطة بالحرمان والحرب وعدم الأمان، لا بوصفه سردية أيديولوجية جاهزة. ومن هنا، يندرج توصيف هذه المظلومية في إطار الفهم التحليلي للسياق، أي تفسير الأرضية التي سمحت بظهور فاعلين جدد من دون تحويلها إلى تبرير سياسي لاحق.
وفي هذا الفراغ تحديدًا، قدّم الحضور الإيراني نفسه بديلًا وظيفيًا عن الدولة. فدخل الحرس الثوري حاملًا التدريب والسلاح، ومعهما منظومة سياسية وتربوية واجتماعية واقتصادية ومالية متكاملة تطوّرت مع العقود لتصبح بنية موازية تتغذّى من هشاشة النظام المركزي وتستثمر فيها. وربطت هذه المنظومة المقاومة بالهوية، وأقرنت الحماية بالانتماء العقائدي، وجمعت السياسة بالطاعة لمرجعية الولي في طهران. وهكذا، لم يكن الأمر دعمًا عسكريًا فحسب، بل إعادة تشكيل شاملة لمعنى الأمان والشرعية والانتماء.
ثم بلغ هذا المسار ذروته مع اندلاع الصراع الشيعي–الشيعي بين حركة أمل و”حزب الله” في منتصف الثمانينيات. فمثّل الصراع مواجهة بين مشروعين متمايزين. ففي حين سعت حركة أمل إلى إدماج الشيعة في الدولة والعمل ضمن نظامها بأدوات سلطوية وزبائنية مألوفة في سياق الحرب الأهلية، قام مشروع حزب الله في المقابل على
تجاوز الدولة وربط السلاح والقرار السياسي مباشرة بمرجعية الولي الفقيه، والتعامل مع لبنان بوصفه ساحة ضمن مشروع إقليمي أوسع.
فحُسم الصراع تدريجيًا لمصلحة “حزب الله” بفعل تلاقي ثلاثة عوامل؛ الأول بالدعم الإيراني المباشر، والثاني بتحوّل موازين القوى الإقليمية، والثالث بتراجع قدرة الدولة اللبنانية على فرض نفسها مرجعيةً سياديةً. ومنذ تلك المرحلة، تحوّل السلاح من أداة مواجهة إلى بنية حكم داخل بيئته، وصار قناة لإعادة تشكيل الولاء السياسي والاجتماعي. فجرى تحويل المظلومية التاريخية من واقع اجتماعي محدّد إلى عقيدة سياسية دائمة تُستدعى لتثبيت السلاح وتعليق منطق الدولة المركزي وربط مصير جماعة كاملة بصراع إقليمي مفتوح.
ومن هنا تتضح نقطة جوهرية. فحتى نزع السلاح، إذا جرى ضمن نظام مركزي هش، لا يكفي لمعالجة الأزمة. إذ إنّ إحدى المعضلات الأساسية في النظام المركزي اللبناني تكمن في عجزه البنيوي عن إدارة الاختلافات العميقة داخل المجتمع، ولا سيما الاختلافات ذات الطابع الديني والثقافي. فالنظام المركزي يفترض وجود فضاء سياسي واحد يمكن ضبطه بمنطق قانوني موحّ د، فيما الواقع اللبناني يقوم على مجتمعات متباينة في تصوّرها للأخلاق العامة، وللسلطة، وللعلاقة بين الدين والدولة. ويظهر هذا العجز كلما حاولت الدولة المركزية فرض تسويات عامة على بيئات لا تشترك في المرجعيات نفسها.
ولا يمكن مقاربة مسألة إلغاء الطائفية السياسية في لبنان خارج الإطار الذي حدّدته مقدمة الدستور نفسها. فالفقرة (ح) تنصّ بوضوح على أن “إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يُقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية”. وهذه العبارة ليست تفصيلًا لغويًا ولا ترفًا إنشائيًا، بل اعتراف دستوري صريح بأن الطائفية في لبنان ليست عارضًا إداريًا يمكن شطبه بقرار، بل بنية اجتماعية – سياسية عميقة لا تُفكَّك إلا تدريجيًا، وبآليات تضمن الاستقرار والشراكة وتمنع الانزلاق نحو الغلبة.
لكن الواقع اللبناني يقوم على معادلة معكوسة مقارنةً بالدول القومية الكلاسيكية. ففي لبنان، الفرد لا ينتمي إلى الدولة مباشرة، بل إلى طائفة، والطائفة هي التي تدخل في تركيب النظام السياسي. أي أن المسار الفعلي هو: الطائفة، فالنظام، فالفرد. وعليه، فإن إلغاء الطائفية السياسية، من دون إعادة بناء هذا المسار برمّته، لا يُلغي الانتماء الطائفي، بل يُلغي الإطار الذي ينظّم حضوره السياسي، ما يفتح الباب أمام تفرّد الطرف الأقوى عدديًا أو أمنيًا، تحت ذريعة المساواة الشكلية. وهكذا، يتحوّل الإلغاء من أداة إصلاح إلى أداة إقصاء، ومن وعد بالمواطنة إلى مدخل للهيمنة.
وتزداد خطورة هذا الطرح عندما يُربط بالعلمنة بوصفها حلًا سحريًا للأزمة اللبنانية. فلا يمكن التعامل مع الواقع اللبناني من زاوية تبسيطية تفترض إمكان تغيير المنطق الديني عبر أدوات سياسية أو دستورية. فجزء واسع من البيئة الشيعية، كما من البيئات الإسلامية عمومًا، ينظر إلى العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، بوصفها تهديدًا لهوية دينية – اجتماعية متجذّرة. وهذا لا يُقال تبريرًا لهذا الموقف، بل توصيفًا لواقع قائم. ففرض العلمنة الشاملة في هذا السياق لا ينتج حيادًا، بل صدامًا قيميًا، تتحوّل فيه الدولة من ضامن للتنوّع إلى طرف في نزاع هوّياتي مع مكوّنات أساسية من المجتمع.
وتتعقّد هذه الإشكالية أكثر حين يُدار هذا التنوّع ضمن نظام مركزي ضعيف؛ فالدولة التي تفتقر إلى قدرة ردع سيادي وإلى شرعية جامعة، وتُصرّ في الوقت نفسه على فرض نموذج موحّد، تفتح المجال أمام بدائل هوّياتية أقوى منها. وهكذا، بدل أن ينتج المركز اندماجًا، يُنتج ردود فعل دفاعية، وبدل أن تكون الدولة مساحة تفاوض، تتحوّل إلى ساحة صراع رمزي حول معنى القيم والهوية. في هذا السياق، لا يصبح الإشكال في الدين بحد ذاته، ولا في التديّن السياسي، بل في محاولة حشر هذا التعدّد داخل قالب مركزي واحد عاجز عن احتوائه.
ومن هنا، يتبيّن أن النظام المركزي يفشل عندما يُطالَب بأن يكون علمانيًا في مجتمع غير علماني، أو دينيًا في مجتمع متعدّد الأديان، أو حياديًا من دون امتلاك أدوات الحياد. وينتج عن هذا التناقض شلل دائم، حيث تعجز الدولة عن فرض نموذجها، وتعجز المجتمعات في المقابل عن الاعتراف بشرعية الدولة. وهذا بالضبط ما حذّرت منه مقدمة الدستور حين ربطت إلغاء الطائفية السياسية بخطة مرحلية، لا بقفزة سياسية غير محسوبة.
في هذا الإطار، تبرز الفدرالية لا بوصفها حلًا أيديولوجيًا بديلًا عن العلمنة، ولا نقيضًا لها، بل كآلية تنظيم واقعية للاختلاف. فهي لا تسعى إلى تغيير قناعات المجتمعات، ولا إلى إعادة هندسة هوياتها، بل إلى الاعتراف بها وتنظيمها ضمن إطار دستوري جامع. وتسمح لكل مجتمع محلي بإدارة شؤونه الثقافية والاجتماعية والتربوية وفق خصوصياته، من دون تحويل هذه الخصوصيات إلى أدوات صراع على مستوى الدولة ككل.
وتكمن قوة الفدرالية في قدرتها على الفصل بين وحدة الكيان وتعدّد أنماط العيش داخله. فهي تحافظ على دولة واحدة، وسيادة واحدة، وحدود واحدة، وفي الوقت نفسه تتيح تنوّعًا مؤسسيًا في إدارة القيم والتعليم والأحوال الشخصية والشؤون المحلية. وبذلك، تنتقل الدولة من محاولة صهر الاختلاف إلى تنظيمه، ومن فرض الانسجام القسري إلى إدارة التباين المنتج.
في المقابل، أثبت خطاب “لبنان الرسالة” محدوديته العملية. فقد قدّم صورة أخلاقية جذّابة عن التعايش، لكنه أخفق في ترجمتها إلى بنية حكم قادرة على إدارة التناقضات. فالتعايش لا يُدار بالنوايا ولا بالرموز، بل بالمؤسسات والقواعد الواضحة. وعندما يغيب هذا المستوى التنظيمي، يتحوّل الخطاب الرسالي إلى غطاء للعجز بدل أن يكون حلًا له.
وعليه، لا تأتي الفدرالية نقيضًا للتنوّع اللبناني، ولا التفافًا على الدستور، بل استجابة واقعية لروحه. فهي لا تطلب من البيئات الدينية أن تصبح علمانية، ولا من البيئات العلمانية أن تتديّن، بل تطلب من الدولة أن تتخلّى
عن وهم الصهر القسري، وأن تبدأ بلعب دور المنظّم العادل للاختلاف. وفي بلد فشل مرارًا في إدارة تنوّعه عبر المركز، تبدو هذه المقاربة أقلّ مثالية وأكثر قابلية للحياة.
فالسؤال الحقيقي لم يعد كيف ننزع السلاح، بل كيف نعيد بناء الدولة بحيث لا يعود السلاح ولا استغلال التفوّق العددي ممكنًا أصلًا.
لماذا لا يحل نزع السلاح أزمة لبنان؟

المشكلة في لبنان لا تختصر بوجود سلاح خارج عن الدولة. فهي قبل ذلك أزمة نظام ولاء متكامل. فجوهر المأزق القائم يتمثّل في مشروع سياسي – عقائدي اسمه ولاية الفقيه، يتجاوز الدولة ويتقدّم عليها ويعاملها كحيّز وظيفي قابل للاستخدام لا ككيان سيادي جامع. ويقوم هذا المشروع على إعادة تعريف السياسة نفسها، فيحدّد معنى الطاعة، ويرسم اتجاه القرار، ويعيد تشكيل مفهوم المواطنة بوصفها علاقة مشروطة بمرجعية خارج الحدود. ولذلك، يبقى أي نقاش ينحصر في السلاح دورانًا حول الأعراض من دون مقاربة المرض.
ولتفسير كيفية ترسّخ هذه المنظومة، يجب العودة إلى لحظة تاريخية محدّدة دخل فيها العامل الإيراني مباشرة إلى الساحة اللبنانية. فمع وصول عناصر الحرس الثوري إلى منطقة البقاع في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ضمن سياق أعقب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، تزامن الحضور العسكري مع فراغ أمني وسياسي عميق. وترافقت هذه اللحظة مع واقع شيعي خرج من عقود طويلة من التهميش البنيوي داخل الدولة اللبنانية.
وكان الشيعة في لبنان جزءًا من نظام طائفي غير متوازن. فتمثيلهم السياسي بقي محدودًا قياسًا بحجمهم الديموغرافي، وعاشت مناطقهم، ولا سيما الجنوب والبقاع، إهمالًا إنمائيًا وأمنيًا مزمنًا، وتعرّضت لاعتداءات متكرّرة في ظل غياب حماية مؤسسية فعّالة. فأنتج هذا الواقع شعورًا متراكمًا بالغبن، بوصفه تجربة اجتماعية يومية مرتبطة بالحرمان والحرب وعدم الأمان، لا بوصفه سردية أيديولوجية جاهزة. ومن هنا، يندرج توصيف هذه المظلومية في إطار الفهم التحليلي للسياق، أي تفسير الأرضية التي سمحت بظهور فاعلين جدد من دون تحويلها إلى تبرير سياسي لاحق.
وفي هذا الفراغ تحديدًا، قدّم الحضور الإيراني نفسه بديلًا وظيفيًا عن الدولة. فدخل الحرس الثوري حاملًا التدريب والسلاح، ومعهما منظومة سياسية وتربوية واجتماعية واقتصادية ومالية متكاملة تطوّرت مع العقود لتصبح بنية موازية تتغذّى من هشاشة النظام المركزي وتستثمر فيها. وربطت هذه المنظومة المقاومة بالهوية، وأقرنت الحماية بالانتماء العقائدي، وجمعت السياسة بالطاعة لمرجعية الولي في طهران. وهكذا، لم يكن الأمر دعمًا عسكريًا فحسب، بل إعادة تشكيل شاملة لمعنى الأمان والشرعية والانتماء.
ثم بلغ هذا المسار ذروته مع اندلاع الصراع الشيعي–الشيعي بين حركة أمل و”حزب الله” في منتصف الثمانينيات. فمثّل الصراع مواجهة بين مشروعين متمايزين. ففي حين سعت حركة أمل إلى إدماج الشيعة في الدولة والعمل ضمن نظامها بأدوات سلطوية وزبائنية مألوفة في سياق الحرب الأهلية، قام مشروع حزب الله في المقابل على
تجاوز الدولة وربط السلاح والقرار السياسي مباشرة بمرجعية الولي الفقيه، والتعامل مع لبنان بوصفه ساحة ضمن مشروع إقليمي أوسع.
فحُسم الصراع تدريجيًا لمصلحة “حزب الله” بفعل تلاقي ثلاثة عوامل؛ الأول بالدعم الإيراني المباشر، والثاني بتحوّل موازين القوى الإقليمية، والثالث بتراجع قدرة الدولة اللبنانية على فرض نفسها مرجعيةً سياديةً. ومنذ تلك المرحلة، تحوّل السلاح من أداة مواجهة إلى بنية حكم داخل بيئته، وصار قناة لإعادة تشكيل الولاء السياسي والاجتماعي. فجرى تحويل المظلومية التاريخية من واقع اجتماعي محدّد إلى عقيدة سياسية دائمة تُستدعى لتثبيت السلاح وتعليق منطق الدولة المركزي وربط مصير جماعة كاملة بصراع إقليمي مفتوح.
ومن هنا تتضح نقطة جوهرية. فحتى نزع السلاح، إذا جرى ضمن نظام مركزي هش، لا يكفي لمعالجة الأزمة. إذ إنّ إحدى المعضلات الأساسية في النظام المركزي اللبناني تكمن في عجزه البنيوي عن إدارة الاختلافات العميقة داخل المجتمع، ولا سيما الاختلافات ذات الطابع الديني والثقافي. فالنظام المركزي يفترض وجود فضاء سياسي واحد يمكن ضبطه بمنطق قانوني موحّ د، فيما الواقع اللبناني يقوم على مجتمعات متباينة في تصوّرها للأخلاق العامة، وللسلطة، وللعلاقة بين الدين والدولة. ويظهر هذا العجز كلما حاولت الدولة المركزية فرض تسويات عامة على بيئات لا تشترك في المرجعيات نفسها.
ولا يمكن مقاربة مسألة إلغاء الطائفية السياسية في لبنان خارج الإطار الذي حدّدته مقدمة الدستور نفسها. فالفقرة (ح) تنصّ بوضوح على أن “إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يُقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية”. وهذه العبارة ليست تفصيلًا لغويًا ولا ترفًا إنشائيًا، بل اعتراف دستوري صريح بأن الطائفية في لبنان ليست عارضًا إداريًا يمكن شطبه بقرار، بل بنية اجتماعية – سياسية عميقة لا تُفكَّك إلا تدريجيًا، وبآليات تضمن الاستقرار والشراكة وتمنع الانزلاق نحو الغلبة.
لكن الواقع اللبناني يقوم على معادلة معكوسة مقارنةً بالدول القومية الكلاسيكية. ففي لبنان، الفرد لا ينتمي إلى الدولة مباشرة، بل إلى طائفة، والطائفة هي التي تدخل في تركيب النظام السياسي. أي أن المسار الفعلي هو: الطائفة، فالنظام، فالفرد. وعليه، فإن إلغاء الطائفية السياسية، من دون إعادة بناء هذا المسار برمّته، لا يُلغي الانتماء الطائفي، بل يُلغي الإطار الذي ينظّم حضوره السياسي، ما يفتح الباب أمام تفرّد الطرف الأقوى عدديًا أو أمنيًا، تحت ذريعة المساواة الشكلية. وهكذا، يتحوّل الإلغاء من أداة إصلاح إلى أداة إقصاء، ومن وعد بالمواطنة إلى مدخل للهيمنة.
وتزداد خطورة هذا الطرح عندما يُربط بالعلمنة بوصفها حلًا سحريًا للأزمة اللبنانية. فلا يمكن التعامل مع الواقع اللبناني من زاوية تبسيطية تفترض إمكان تغيير المنطق الديني عبر أدوات سياسية أو دستورية. فجزء واسع من البيئة الشيعية، كما من البيئات الإسلامية عمومًا، ينظر إلى العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، بوصفها تهديدًا لهوية دينية – اجتماعية متجذّرة. وهذا لا يُقال تبريرًا لهذا الموقف، بل توصيفًا لواقع قائم. ففرض العلمنة الشاملة في هذا السياق لا ينتج حيادًا، بل صدامًا قيميًا، تتحوّل فيه الدولة من ضامن للتنوّع إلى طرف في نزاع هوّياتي مع مكوّنات أساسية من المجتمع.
وتتعقّد هذه الإشكالية أكثر حين يُدار هذا التنوّع ضمن نظام مركزي ضعيف؛ فالدولة التي تفتقر إلى قدرة ردع سيادي وإلى شرعية جامعة، وتُصرّ في الوقت نفسه على فرض نموذج موحّد، تفتح المجال أمام بدائل هوّياتية أقوى منها. وهكذا، بدل أن ينتج المركز اندماجًا، يُنتج ردود فعل دفاعية، وبدل أن تكون الدولة مساحة تفاوض، تتحوّل إلى ساحة صراع رمزي حول معنى القيم والهوية. في هذا السياق، لا يصبح الإشكال في الدين بحد ذاته، ولا في التديّن السياسي، بل في محاولة حشر هذا التعدّد داخل قالب مركزي واحد عاجز عن احتوائه.
ومن هنا، يتبيّن أن النظام المركزي يفشل عندما يُطالَب بأن يكون علمانيًا في مجتمع غير علماني، أو دينيًا في مجتمع متعدّد الأديان، أو حياديًا من دون امتلاك أدوات الحياد. وينتج عن هذا التناقض شلل دائم، حيث تعجز الدولة عن فرض نموذجها، وتعجز المجتمعات في المقابل عن الاعتراف بشرعية الدولة. وهذا بالضبط ما حذّرت منه مقدمة الدستور حين ربطت إلغاء الطائفية السياسية بخطة مرحلية، لا بقفزة سياسية غير محسوبة.
في هذا الإطار، تبرز الفدرالية لا بوصفها حلًا أيديولوجيًا بديلًا عن العلمنة، ولا نقيضًا لها، بل كآلية تنظيم واقعية للاختلاف. فهي لا تسعى إلى تغيير قناعات المجتمعات، ولا إلى إعادة هندسة هوياتها، بل إلى الاعتراف بها وتنظيمها ضمن إطار دستوري جامع. وتسمح لكل مجتمع محلي بإدارة شؤونه الثقافية والاجتماعية والتربوية وفق خصوصياته، من دون تحويل هذه الخصوصيات إلى أدوات صراع على مستوى الدولة ككل.
وتكمن قوة الفدرالية في قدرتها على الفصل بين وحدة الكيان وتعدّد أنماط العيش داخله. فهي تحافظ على دولة واحدة، وسيادة واحدة، وحدود واحدة، وفي الوقت نفسه تتيح تنوّعًا مؤسسيًا في إدارة القيم والتعليم والأحوال الشخصية والشؤون المحلية. وبذلك، تنتقل الدولة من محاولة صهر الاختلاف إلى تنظيمه، ومن فرض الانسجام القسري إلى إدارة التباين المنتج.
في المقابل، أثبت خطاب “لبنان الرسالة” محدوديته العملية. فقد قدّم صورة أخلاقية جذّابة عن التعايش، لكنه أخفق في ترجمتها إلى بنية حكم قادرة على إدارة التناقضات. فالتعايش لا يُدار بالنوايا ولا بالرموز، بل بالمؤسسات والقواعد الواضحة. وعندما يغيب هذا المستوى التنظيمي، يتحوّل الخطاب الرسالي إلى غطاء للعجز بدل أن يكون حلًا له.
وعليه، لا تأتي الفدرالية نقيضًا للتنوّع اللبناني، ولا التفافًا على الدستور، بل استجابة واقعية لروحه. فهي لا تطلب من البيئات الدينية أن تصبح علمانية، ولا من البيئات العلمانية أن تتديّن، بل تطلب من الدولة أن تتخلّى
عن وهم الصهر القسري، وأن تبدأ بلعب دور المنظّم العادل للاختلاف. وفي بلد فشل مرارًا في إدارة تنوّعه عبر المركز، تبدو هذه المقاربة أقلّ مثالية وأكثر قابلية للحياة.
فالسؤال الحقيقي لم يعد كيف ننزع السلاح، بل كيف نعيد بناء الدولة بحيث لا يعود السلاح ولا استغلال التفوّق العددي ممكنًا أصلًا.











