سوريا الّتي تغيّرت… ولبنان الّذي لم ينسَ

الكاتب: أيمن جزيني | المصدر: اساس ميديا
25 كانون الأول 2025

لا يواجه لبنان، في علاقته بسوريا ما بعد الانهيار والحرب، سؤال السياسة فقط، بل سؤال الذاكرة. الدولة السوريّة، حتّى وهي تعلن خروجها من طور النظام السابق ودخولها في مرحلة انتقاليّة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لا تُقرأ من الأقليّات في بيروت بوصفها “دولة جديدة” تماماً، بل بوصفها كياناً سياسيّاً يحاول إعادة تعريف نفسه فوق ركام تاريخ ثقيل من التدخّل والهيمنة والالتباس.

 

ارتياب الأقليّات اللبنانيّة، المارونيّة والشيعيّة والدرزيّة، من سوريا لا ينطلق من موقف واحد ولا من ذاكرة واحدة، بل من طبقات متراكبة من الخوف السياسيّ، القلق الوجوديّ والحذر الثقافيّ في بلد صُنع توازنه الداخليّ تاريخيّاً من الخوف المتبادل أكثر ممّا صُنع من الثقة.

الموارنة… الدّولة خُذلت مرّتين

بالنسبة إلى الموارنة، سوريا ليست جاراً فحسب، بل تجربة سياسيّة جارحة. منذ خمسينيّات القرن الماضي، ارتبطت المخيّلة السياسيّة المارونيّة بسؤال الكيان اللبنانيّ في مواجهة المشروع القوميّ السوريّ، ثمّ في مواجهة وصاية آل الأسد العسكريّة ـ الأمنيّة التي حكمت لبنان عمليّاً بعد اتّفاق الطائف.

لا يتعلّق الارتياب المارونيّ من سوريا الجديدة بشخص أحمد الشرع أو بخطابه الانتقاليّ فقط، بل بقلق أعمق: هل تغيّرت الدولة السوريّة فعلاً أم تغيّر وجهها؟ هل انتهت فكرة “لبنان الخاصرة الرخوة” أم أُعيدت صياغتها بلغة تعاون إقليميّ ناعمة؟

ثمّة خوف مارونيّ بنيويّ من أن تُختزل العلاقة اللبنانيّةـ السوريّة مجدّداً في منطق “الشقيقة الكبرى”، ولو تحت عناوين اقتصاديّة أو أمنيّة. الدولة اللبنانيّة الضعيفة اليوم والمؤسّسات المنهكة تعيد إلى الذاكرة المارونيّة كابوس الدولة المستباحة لا الدولة المتعاونة.

عليه، لا يُقرأ أيّ حديث عن تعاون اقتصاديّ أو فتح ممرّات أو تكامل بنيويّ إلّا إذا سُبق بضمانات سياسيّة صلبة: اعتراف غير ملتبس باستقلال لبنان، حدود غير قابلة للتأويل وعلاقة ندّيّة لا تستبطن وصاية مؤجّلة.

الشّيعة… من التّحالف الاستراتيجيّ إلى القلق

يبدو الارتياب الشيعيّ من سوريا للوهلة الأولى أقلّ حدّة، لكنّه في العمق أكثر تعقيداً. شكّلت سوريا لعقود الرافعة الإقليميّة الأساسيّة للدور الشيعيّ السياسيّ في لبنان، سواء عبر “حركة أمل” أو من خلال تحالفها مع “الحزب” أو عبر موقعها في محور إقليميّ أوسع.

غير أنّ سوريا ما بعد النظام السابق ليست سوريا ما قبله، والقيادة الانتقاليّة، مهما أعلنت من براغماتيّة وانفتاح، تطرح سؤالاً مقلقاً في البيئة الشيعيّة اللبنانيّة: هل تظلّ سوريا صديقاً موثوقاً أم تعيد تموضعها بما يقلّص هذا الدور؟

لا يأتي الارتياب هنا من خوف ثقافيّ أو تاريخيّ بقدر ما يأتي من خوف استراتيجيّ، فالتحوّل السوريّ المحتمل نحو علاقات إقليميّة أقلّ تصادميّة أو نحو مقاربة أكثر “دولتيّة” للسلاح والحدود قد يُضعف معادلات اعتُبرت ثابتة.

إلى ذلك يرتبط جزء من القلق الشيعيّ بإمكان أن تُستخدم العلاقة الاقتصاديّة المتمثّلة في المعابر، الترانزيت والطاقة، أداة ضغط سياسيّة جديدة لا مساحة تعاون متكافئ.

الدّروز… ذاكرة الجبل وحذر الأقلّيّات

أمّا الدروز فيقفون تاريخيّاً في موقع أكثر حذراً وبراغماتيّة. هم أقليّة صغيرة تعرف هشاشتها وتجيد قراءة التحوّلات قبل وقوعها. لطالما كانت العلاقة الدرزيّة بسوريا مزدوجة: تغلب الحماية عليها حيناً، والتهديد حيناً آخر. من جبل العرب إلى جبل لبنان، ظلّ السؤال واحداً: كيف نضمن البقاء من دون الارتهان؟ وزادت من وطأة السؤال وحدّته أحداث السويداء.

ينبع الارتياب الدرزيّ من سوريا الجديدة من الخوف من الفوضى أكثر ممّا ينبع من الخوف من الدولة، لكنّ أيّ دولة؟ يعرف الدروز أنّ دولة سوريّة قويّة وقابلة للتنبّؤ أفضل من فراغ سوريّ مفتوح على صراعات داخليّة أو إقليميّة. لكنّهم في الوقت نفسه يخشون أن تُعاد صياغة النفوذ السوريّ بأدوات أكثر نعومة وأقلّ وضوحاً، فتصعب مواجهته أو ضبطه.

بوّابة لا بدّ منها

على الرغم من كلّ هذا الارتياب، ثمّة حقيقة جغرافيّة لا يمكن إنكارها: لبنان محاصَر جنوباً بإسرائيل، وبحره محدود القدرة، ولا يملك أيّ ممرّ اقتصاديّ برّي إلى عمقه العربيّ إلّا عبر سوريا. وعليه، ليست القطيعة مع سوريا خياراً واقعيّاً، وليس الاندماج غير المشروط خياراً سياديّاً، ويكمن التحدّي الحقيقيّ في بناء علاقة اقتصاديّة واضحة القواعد:

ـ ترانزيت لا يتحوّل إلى ابتزاز.

ـ تعاون طاقيّ لا يُستخدَم سياسيّاً.

ـ إعادة إعمار وتبادل تجاريّ لا يعيدان إنتاج التبعيّة.

يحتاج لبنان إلى سوريا بوصفها ممرّاً، وتحتاج سوريا إلى لبنان بوصفه شريكاً ماليّاً وتجاريّاً وخدماتيّاً. لكنّ هذه العلاقة لا يمكن أن تُبنى إلّا على اعتراف متبادَل بأنّ الاقتصاد لا يُدار بمنطق الأجهزة، ولا تُحمى المصالح عبر الغموض.

شراكة بالعقل لا بالذاكرة..

يكاد يكون موقفاً عدائيّاً ارتيابُ الأقليّات اللبنانيّة من سوريا في ظلّ قيادتها الانتقاليّة، وهو ردّ فعل سياسيّ متوتّر على “تاريخ مضطرب”. وهو ارتياب يمكن تفكيكه، لا إنكاره، عبر ثلاث ركائز أساسيّة:

ـ أوّلاً، استقلال لبنانيّ مُعلن وغير قابل للتأويل، وذلك ليس في الخطاب فقط بل وفي الممارسة.

ـ ثانياً، دولة سوريّة تُثبت أنّها خرجت من منطق الساحة إلى منطق الدولة، ومن منطق الأمن إلى منطق السياسة.

ـ ثالثاً، تعاون اقتصاديّ شفّاف، يخضع للقانون والمؤسّسات، لا للتفاهمات الغامضة التي كانت ذات حكم بعثيّ ـ أسديّ.

في علم السياسة والعلاقات الدوليّة، لا تعيش الدول على النوايا الحسنة وحدها، ولا على الذكريات وحدها. ترتاب الأقليّات اللبنانيّة لأنّ الذاكرة علّمتها أنّ الحذر شكل من أشكال البقاء. لكنّ هذا الارتياب، إذا أُحسن استثماره سياسيّاً، قد يتحوّل من عقدة تاريخيّة إلى فرصة لبناء علاقة لبنانيّة ـ سوريّة أكثر نضجاً: علاقة تقوم على أوضح صور الاستقلال وأفضل أشكال التعاون، لا على إنكار الماضي ولا على الارتهان له. فسوريا تغيّرت، وجزء من لبنان الأقلّويّ لم ينسَ بعدُ الماضي المقيت الذي كرّسه آل الأسد في الذاكرة والسياسة.

لا يستطيع لبنان الهرب من جغرافيته، ولا تستطيع سوريا تجاهل جيرانها. بين هذين الواقعين، وحدها الدولة في البلدين قادرة على تحويل الخوف إلى سياسة، والارتياب إلى شراكة مشروطة بالعقل لا بالذاكرة وحدها.

سوريا الّتي تغيّرت… ولبنان الّذي لم ينسَ

الكاتب: أيمن جزيني | المصدر: اساس ميديا
25 كانون الأول 2025

لا يواجه لبنان، في علاقته بسوريا ما بعد الانهيار والحرب، سؤال السياسة فقط، بل سؤال الذاكرة. الدولة السوريّة، حتّى وهي تعلن خروجها من طور النظام السابق ودخولها في مرحلة انتقاليّة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لا تُقرأ من الأقليّات في بيروت بوصفها “دولة جديدة” تماماً، بل بوصفها كياناً سياسيّاً يحاول إعادة تعريف نفسه فوق ركام تاريخ ثقيل من التدخّل والهيمنة والالتباس.

 

ارتياب الأقليّات اللبنانيّة، المارونيّة والشيعيّة والدرزيّة، من سوريا لا ينطلق من موقف واحد ولا من ذاكرة واحدة، بل من طبقات متراكبة من الخوف السياسيّ، القلق الوجوديّ والحذر الثقافيّ في بلد صُنع توازنه الداخليّ تاريخيّاً من الخوف المتبادل أكثر ممّا صُنع من الثقة.

الموارنة… الدّولة خُذلت مرّتين

بالنسبة إلى الموارنة، سوريا ليست جاراً فحسب، بل تجربة سياسيّة جارحة. منذ خمسينيّات القرن الماضي، ارتبطت المخيّلة السياسيّة المارونيّة بسؤال الكيان اللبنانيّ في مواجهة المشروع القوميّ السوريّ، ثمّ في مواجهة وصاية آل الأسد العسكريّة ـ الأمنيّة التي حكمت لبنان عمليّاً بعد اتّفاق الطائف.

لا يتعلّق الارتياب المارونيّ من سوريا الجديدة بشخص أحمد الشرع أو بخطابه الانتقاليّ فقط، بل بقلق أعمق: هل تغيّرت الدولة السوريّة فعلاً أم تغيّر وجهها؟ هل انتهت فكرة “لبنان الخاصرة الرخوة” أم أُعيدت صياغتها بلغة تعاون إقليميّ ناعمة؟

ثمّة خوف مارونيّ بنيويّ من أن تُختزل العلاقة اللبنانيّةـ السوريّة مجدّداً في منطق “الشقيقة الكبرى”، ولو تحت عناوين اقتصاديّة أو أمنيّة. الدولة اللبنانيّة الضعيفة اليوم والمؤسّسات المنهكة تعيد إلى الذاكرة المارونيّة كابوس الدولة المستباحة لا الدولة المتعاونة.

عليه، لا يُقرأ أيّ حديث عن تعاون اقتصاديّ أو فتح ممرّات أو تكامل بنيويّ إلّا إذا سُبق بضمانات سياسيّة صلبة: اعتراف غير ملتبس باستقلال لبنان، حدود غير قابلة للتأويل وعلاقة ندّيّة لا تستبطن وصاية مؤجّلة.

الشّيعة… من التّحالف الاستراتيجيّ إلى القلق

يبدو الارتياب الشيعيّ من سوريا للوهلة الأولى أقلّ حدّة، لكنّه في العمق أكثر تعقيداً. شكّلت سوريا لعقود الرافعة الإقليميّة الأساسيّة للدور الشيعيّ السياسيّ في لبنان، سواء عبر “حركة أمل” أو من خلال تحالفها مع “الحزب” أو عبر موقعها في محور إقليميّ أوسع.

غير أنّ سوريا ما بعد النظام السابق ليست سوريا ما قبله، والقيادة الانتقاليّة، مهما أعلنت من براغماتيّة وانفتاح، تطرح سؤالاً مقلقاً في البيئة الشيعيّة اللبنانيّة: هل تظلّ سوريا صديقاً موثوقاً أم تعيد تموضعها بما يقلّص هذا الدور؟

لا يأتي الارتياب هنا من خوف ثقافيّ أو تاريخيّ بقدر ما يأتي من خوف استراتيجيّ، فالتحوّل السوريّ المحتمل نحو علاقات إقليميّة أقلّ تصادميّة أو نحو مقاربة أكثر “دولتيّة” للسلاح والحدود قد يُضعف معادلات اعتُبرت ثابتة.

إلى ذلك يرتبط جزء من القلق الشيعيّ بإمكان أن تُستخدم العلاقة الاقتصاديّة المتمثّلة في المعابر، الترانزيت والطاقة، أداة ضغط سياسيّة جديدة لا مساحة تعاون متكافئ.

الدّروز… ذاكرة الجبل وحذر الأقلّيّات

أمّا الدروز فيقفون تاريخيّاً في موقع أكثر حذراً وبراغماتيّة. هم أقليّة صغيرة تعرف هشاشتها وتجيد قراءة التحوّلات قبل وقوعها. لطالما كانت العلاقة الدرزيّة بسوريا مزدوجة: تغلب الحماية عليها حيناً، والتهديد حيناً آخر. من جبل العرب إلى جبل لبنان، ظلّ السؤال واحداً: كيف نضمن البقاء من دون الارتهان؟ وزادت من وطأة السؤال وحدّته أحداث السويداء.

ينبع الارتياب الدرزيّ من سوريا الجديدة من الخوف من الفوضى أكثر ممّا ينبع من الخوف من الدولة، لكنّ أيّ دولة؟ يعرف الدروز أنّ دولة سوريّة قويّة وقابلة للتنبّؤ أفضل من فراغ سوريّ مفتوح على صراعات داخليّة أو إقليميّة. لكنّهم في الوقت نفسه يخشون أن تُعاد صياغة النفوذ السوريّ بأدوات أكثر نعومة وأقلّ وضوحاً، فتصعب مواجهته أو ضبطه.

بوّابة لا بدّ منها

على الرغم من كلّ هذا الارتياب، ثمّة حقيقة جغرافيّة لا يمكن إنكارها: لبنان محاصَر جنوباً بإسرائيل، وبحره محدود القدرة، ولا يملك أيّ ممرّ اقتصاديّ برّي إلى عمقه العربيّ إلّا عبر سوريا. وعليه، ليست القطيعة مع سوريا خياراً واقعيّاً، وليس الاندماج غير المشروط خياراً سياديّاً، ويكمن التحدّي الحقيقيّ في بناء علاقة اقتصاديّة واضحة القواعد:

ـ ترانزيت لا يتحوّل إلى ابتزاز.

ـ تعاون طاقيّ لا يُستخدَم سياسيّاً.

ـ إعادة إعمار وتبادل تجاريّ لا يعيدان إنتاج التبعيّة.

يحتاج لبنان إلى سوريا بوصفها ممرّاً، وتحتاج سوريا إلى لبنان بوصفه شريكاً ماليّاً وتجاريّاً وخدماتيّاً. لكنّ هذه العلاقة لا يمكن أن تُبنى إلّا على اعتراف متبادَل بأنّ الاقتصاد لا يُدار بمنطق الأجهزة، ولا تُحمى المصالح عبر الغموض.

شراكة بالعقل لا بالذاكرة..

يكاد يكون موقفاً عدائيّاً ارتيابُ الأقليّات اللبنانيّة من سوريا في ظلّ قيادتها الانتقاليّة، وهو ردّ فعل سياسيّ متوتّر على “تاريخ مضطرب”. وهو ارتياب يمكن تفكيكه، لا إنكاره، عبر ثلاث ركائز أساسيّة:

ـ أوّلاً، استقلال لبنانيّ مُعلن وغير قابل للتأويل، وذلك ليس في الخطاب فقط بل وفي الممارسة.

ـ ثانياً، دولة سوريّة تُثبت أنّها خرجت من منطق الساحة إلى منطق الدولة، ومن منطق الأمن إلى منطق السياسة.

ـ ثالثاً، تعاون اقتصاديّ شفّاف، يخضع للقانون والمؤسّسات، لا للتفاهمات الغامضة التي كانت ذات حكم بعثيّ ـ أسديّ.

في علم السياسة والعلاقات الدوليّة، لا تعيش الدول على النوايا الحسنة وحدها، ولا على الذكريات وحدها. ترتاب الأقليّات اللبنانيّة لأنّ الذاكرة علّمتها أنّ الحذر شكل من أشكال البقاء. لكنّ هذا الارتياب، إذا أُحسن استثماره سياسيّاً، قد يتحوّل من عقدة تاريخيّة إلى فرصة لبناء علاقة لبنانيّة ـ سوريّة أكثر نضجاً: علاقة تقوم على أوضح صور الاستقلال وأفضل أشكال التعاون، لا على إنكار الماضي ولا على الارتهان له. فسوريا تغيّرت، وجزء من لبنان الأقلّويّ لم ينسَ بعدُ الماضي المقيت الذي كرّسه آل الأسد في الذاكرة والسياسة.

لا يستطيع لبنان الهرب من جغرافيته، ولا تستطيع سوريا تجاهل جيرانها. بين هذين الواقعين، وحدها الدولة في البلدين قادرة على تحويل الخوف إلى سياسة، والارتياب إلى شراكة مشروطة بالعقل لا بالذاكرة وحدها.

مزيد من الأخبار

مزيد من الأخبار