حروب الظل تعود للداخل اللبناني: من خطف أحمد شكر؟

لا تعتبر إسرائيل أن ملف الطيار رون آراد مغلقاً، ولا تعترف بمرور الزمن كعامل إسقاط. وإذا صح أن عملية اختفاء شكر جاءت ضمن هذا السياق، فنحن أمام إعادة تفعيل لمنهج “الاستحصال القسري على المعلومات”، حيث يُخطف الفرد لا لأنه يملك الحقيقة الكاملة، بل لأنه قد يملك تفصيلاً ناقصاً، أو اسماً منسياً، أو رابطاً يمكن البناء عليه لاحقاً. هذا النوع من العمليات لا يحتاج إلى أدلة دامغة مسبقة، بل إلى ترجيح استخباراتي فقط.
أثارت تقارير إعلامية متقاطعة نشرت عبر الإعلام اللبناني والعربي والإسرائيلي، الشكوك والبلبلة بعدما ربطت اختطاف الضابط في الأمن العام اللبناني المتقاعد، أحمد شكر، بعملية سرية معقدة يقف خلفها جهاز الموساد الإسرائيلي.
ونقلت قنوات عربية أن الدولة اللبنانية تشك في أن مجموعة دخلت مطار بيروت قبل يومين من حادثة الخطف، فيما يُفسر على أنه تحضير لوجستي مسبق للعملية.
وذكرت صحيفة “الشرق الأوسط”، أن التحقيقات تشير إلى أن إسرائيل تقف خلف خطف الضابط المذكور، ويُعتقد أنه مرتبط بملف رون آراد، ما يعيد إلى الواجهة واحداً من أكثر الملفات غموضاً في تاريخ الصراع بين لبنان وإسرائيل.
وفي السياق نفسه، كشفت مصادر أمنية لـ “اندبندنت عربية” أنه جرى التقاط إشارة هاتفه لمدة 37 ثانية في منطقة الصويري البقاعية، ما يعزز فرضية ضلوع جهة إسرائيلية في العملية، واحتمال نقله إلى إسرائيل عبر منطقة جبل الشيخ الحدودية بين لبنان وسوريا. وأضافت أن ملف أحمد شكر هو حالياً لدى فرع المعلومات في لبنان، وهو وحدة استخباراتية تابعة للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وهناك تعتيم كبير على تفاصيل هذا الملف نظراً لحساسيته.
وتأتي هذه التطورات في ظل تكتم رسمي، فيما تتواصل التحقيقات وسط تصاعد الأسئلة حول طبيعة العملية وأبعادها الأمنية والسياسية. وتشير التقارير إلى أن أحمد شكر، هو شقيق الرجل الملقب بحسن، والذي كان عنصراً في جماعة مصطفى الديراني التي اعتقلت الطيار الإسرائيلي رون آراد عام 1986، وجرى استدراجه من مسقط رأسه على يد سويديين إثنين وسط تكهنات بأنه اختطف من قبل عملاء إسرائيليين.
ما علاقة القيادي في “حزب الله” فؤاد شكر؟
لا يمكن اعتبار اختفاء أحمد علي شكر حدثاً أمنياً عابراً، ولا يمكن فصله عن السياق السياسي والأمني الذي يتحرك فيه اسمه وعائلته، فاللغة التي تسللت إلى التحقيقات منذ الساعات الأولى، تشير إلى أن الرجل ليس مواطناً عادياً، ولا ضابطاً متقاعداً خرج نهائياً من مدار الصراع، بل ينتمي إلى عائلة تُعد من العائلات الثقيلة في بيئة “حزب الله”، وهو قريب القيادي البارز فؤاد شكر، الرجل الثاني في الحزب، الذي اغتالته إسرائيل في 30 يوليو (تموز) عام 2024 بغارة جوية استهدفت مبنى في حارة حريك في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. هذا المعطى وحده كافٍ لإسقاط أي محاولة لتقديم القضية كحادثة فردية أو كملف إنساني صرف.
منذ اللحظة الأولى لاختفاء شكر، بدا واضحاً أن الإعلام اللبناني يتعامل مع القضية بحذر شديد، بل بتردد محسوب. فالرجل ضابط سابق في الأمن العام، لكنه في الوقت نفسه ابن بيئة أمنية وتنظيمية معقدة، تتقاطع فيها مؤسسات الدولة مع شبكات “حزب الله” الأمنية والاجتماعية. هذا التداخل جعل مقاربة الملف انتقائية، إذ جرى التركيز على رواية “الوسيط العقاري” و”الموعد المدني” وتجاهل الخلفية الأثقل، أي الانتماء العائلي والسياسي، والذاكرة الأمنية التي يحملها الاسم.
وما تداوله الإعلام اللبناني لاحقاً عن اعتماد التحقيقات على كاميرات المراقبة وبيانات الاتصالات، أظهر أن اختفاء شكر لم يكن وليد لحظة فوضى أو صدفة، بل إن كل ما رشح من معطيات يوحي بعملية مدروسة، سواء كانت خطفاً، أو استدراجاً، أو تصفية تلاها إخفاء أثر. النقطة المفصلية هنا ليست فقط “كيف” اختفى، بل “لماذا الآن”؟. فالتوقيت يأتي بعد أكثر من عام على اغتيال فؤاد شكر، وفي ذروة مواجهة مفتوحة بين إسرائيل و”حزب الله”، إذ لم تعد الحسابات الإسرائيلية محكومة فقط بقواعد الاشتباك التقليدية، بل بمنطق تفكيك الشبكات والذاكرة والرموز.
إسرائيل لا تنسى ولو بعد حين
في هذا السياق، عاد اسم الطيار الإسرائيلي رون آراد إلى الواجهة، فالإعلام العبري لم يذكر أحمد شكر كهدف بحد ذاته، لكنه أعاد ربط القضية بملف آراد، الطيار الذي فُقد في لبنان عام 1986. هذا الربط ليس تفصيلاً عاطفياً أو إعلامياً، بل جزء من سردية أمنية ثابتة لدى إسرائيل، كل من يقع ضمن دائرة البيئة التي احتضنت، أو مرت عبرها، قضية آراد، يبقى قابلاً لإعادة الإدراج في بنك الأهداف، مهما طال الزمن. وعندما يكون الشخص المعني قريباً من قيادي بحجم فؤاد شكر، فإن قيمة “الاشتباه” تتضاعف، حتى لو لم يكن يمتلك معلومة مباشرة أو حاسمة.
هنا، لا يمكن تجاهل سؤال مزعج يفرض نفسه، هل كان أحمد شكر مجرد حلقة هامشية أُعيد تفعيلها ضمن حرب الذاكرة؟ أم أنه يحمل فعلاً معطيات أو أدواراً لم تُكشف للرأي العام، سواء بحكم موقعه السابق في الأمن العام أو بحكم علاقته العائلية والتنظيمية؟.
ضغط نفسي على “حزب الله” وبيئته
الصمت المطبق من قبل “حزب الله” حيال مصيره لا يقل دلالة عن الصمت الرسمي للدولة اللبنانية. فلا بيانات تصعيدية، ولا اتهامات مباشرة، ولا حتى محاولة استثمار القضية سياسياً، كما يفعل الحزب عادة عند استهداف كوادره أو بيئته. هذا الصمت قد يكون بحد ذاته اعترافاً ضمنياً بأن الملف أكثر تعقيداً مما يُقال.
في المقابل، لا يبدو أن إسرائيل معنية بتقديم إجابات. الإعلام الإسرائيلي اكتفى بالتلميح، وترك الباب مفتوحاً أمام التأويل. فسياسة الغموض هنا تخدم هدفين، أولاً، إبقاء الضغط النفسي على “حزب الله” وبيئته عبر الإيحاء بأن لا أحد خارج بنك المتابعة، وثانياً، إرسال رسالة واضحة مفادها أن اغتيال فؤاد شكر لم يكن نهاية الملف، بل بداية مرحلة أوسع من تفكيك الدوائر المحيطة به، سواء كانت دوائر عائلية، لوجستية، أو تاريخية.
كذلك لا تعد إسرائيل ملف آراد مغلقاً، ولا تعترف بمرور الزمن كعامل إسقاط. وإذا صح أن عملية اختفاء شكر جاءت ضمن هذا السياق، فنحن أمام إعادة تفعيل لمنهج “الاستحصال القسري على المعلومات”، حيث يُخطف الفرد لا لأنه يملك الحقيقة الكاملة، بل لأنه قد يملك تفصيلاً ناقصاً، أو اسماً منسياً، أو رابطاً يمكن البناء عليه لاحقاً. هذا النوع من العمليات لا يحتاج إلى أدلة دامغة مسبقة، بل إلى ترجيح استخباراتي فقط.
الأخطر في هذه القضية أنها تكشف مرة جديدة هشاشة الدولة اللبنانية أمام صراعات تتجاوزها. فاختفاء شخصية بهذا الوزن، سواء اعتُبرت ضحية أو مشتبهاً فيها، من دون قدرة الدولة على تقديم رواية رسمية واضحة، يعني أن لبنان ما زال ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الاستخباراتية. هنا لا يعود السؤال محصوراً بمصير أحمد شكر، بل يتسع ليشمل طبيعة المرحلة، مرحلة تُستعاد فيها ملفات الثمانينيات لتُستخدم في حروب ما بعد عام 2023، ومرحلة لا يُسأل فيها عن البراءة بقدر ما يُسأل عن الفائدة الأمنية.
أين الدولة؟
يروي مختار بلدة “النبي شيت” البقاعية، عباس علي شكر، وهو أخ الضابط المفقود أحمد شكر، تفاصيل يوم الخطف، ويجيب عن سؤال لماذا خطف هو تحديداً، “أن هذا سؤال كبير جداً، ونتساءل جميعاً لماذا خطف أخي بهذه الطريقة”. ويتابع “أن أخيه هو نقيب متقاعد من الأمن العام، وتطوع في السلك عام 1982، يملك شقة في منطقة الشويفات غرب بيروت، اتصل به أحدهم يدعى علي محمد مراد، من بلدة قانا الجنوبية، منذ سبعة أشهر يريد استئجار تلك الشقة، وجرى تأجير الشقة بمبلغ 500 دولار شهرياً، وهذا الشخص هو مغترب في أبيدجان في أفريقيا. ولكن منذ شهرين اتصل هذا الشخص نفسه وقال للنقيب شكر إن هناك شخصاً متمولاً من عائلة كسّاب، يريد شراء قطعة أرض في منطقة الفرزل البقاعية المجاورة لمدينة زحلة”، وجرى التواصل بين النقيب وهذا الشخص، نهار الأربعاء 17 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أي نهار عملية الاختطاف.
يتابع المختار عباس شكر، ويقول إنه “في ذلك النهار، اتصل الشخص من عائلة مراد، وقال للنقيب إنه في هذا اليوم سيأتي المتمول ليعاين قطعة الأرض، ولكن مراد عاود الاتصال وقال للنقيب إنه تعرض لحادثة وكسر رجله، ولا يستطيع القدوم إلى لبنان، وعليه سيأتي كساب وحده، وستلتقي معه بجانب تمثال العذراء في بلدة تل شيحا، أعالي زحلة، واتفقا على أن يلتقيا بعد ظهر ذلك اليوم، وخرج النقيب الساعة الرابعة عصراً من منزل المختار”. هنا يشير المختار إلى أنه وبحسب الكاميرات التي نقلت عملية الاختطاف خرج رجل من سيارة دفع رباعي، يلبس قبعة، سأل النقيب، “هل أنت أحمد شكر؟”، فأجابه بنعم، فطلب منه الصعود إلى السيارة، أقفل النقيب سيارته، وصعد إلى السيارة، وهناك اختفى.
ونفى شقيق الضابط أحمد ما تردّد عن مشاركة شقيقه حسن شكر في المجموعة التي كان يقودها مصطفى الديراني خلال أسر رون آراد، مؤكداً أن هذه المعلومات غير صحيحة.
وبعد ذلك وعندما تأخر النقيب في العودة إلى المنزل، اتصل المختار أكثر من مرة، وكان الهاتف يرن وطبعاً من دون رد. وكانت التقارير الإعلامية تحدثت ونقلاً عن مصادر، أن شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي كثفت تحرياتها منذ تسجيل فقدان شكر في منطقة البقاع، وتمكنت من تتبع كاميرات المراقبة وتحليل الاتصالات، ما أظهر مؤشرات أولية على استدراجه من بلدته النبي شيت قبل فقدان أثره قرب زحلة. ولفتت التحقيقات، إلى احتمال تورط شخصين يحملان الجنسية السويدية، أحدهما من أصل لبناني، وصلا إلى لبنان قبل يومين من عملية الخطف وغادرا بعد التنفيذ، في وقت لم يُعثر حتى الآن على أي دليل مادي يؤكد وجود شكر داخل الأراضي اللبنانية، الأمر الذي يدعم فرضية أنه أصبح خارج لبنان.
وعند سؤال المختار هل جرى التواصل مع الشخص من آل مراد؟، يقول المختار، إنهم حاولوا التواصل معه أو مع أحد من عائلته، ولكن اتضح أنه “كاذب واختفى هو أيضاً”. وبرأي المختار فإن هذا الشخص هو وراء كل عملية الخطف وهو من كان يخطط منذ قام باستئجار شقة النقيب الكائنة في الشويفات.
وأوضح المختار أنهم حتى هذه اللحظة لا يملكون أية معلومات لأن الأجهزة الأمنية اللبنانية لم تطلعهم على شيء، علماً أنهم لجأوا إلى السلطات منذ اللحظة الأولى، وأنهم أوصلوا الموضوع إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، واتصلوا بوزير الداخلية، وأن موضوع ربط اختطاف النقيب بعملية يقف خلفها الموساد، علموا بشأنها من الإعلام والصحافة، وأن الأمن اللبناني لم يبلغهم بشيء.
وعن القرابة التي تربط العائلة بالقيادي في “حزب الله”، فؤاد شكر، يشدد المختار أن “السيد فؤاد هو من العائلة، ولم يكن هناك تواصل بينهم بشكل نهائي، وأنه لم يكن يزور بلدة النبي شيت”.
وناشد المختار عباس شكر الدولة اللبنانية من رئيس الجمهورية إلى كل المسؤولين العمل لكشف حيثيات خطف النقيب أحمد شكر(70 سنة)، لأن الأخير قضى شبابه وهو بخدمة الوطن وعلى مدى 40 سنة، ولم تكن له صلات بكل الأحزاب اللبنانية، وخدم الدولة بكل إخلاص، وأنهم من عائلة معروفة إذ إن الأب كان أيضاً مختار بلدة النبي شيت على مدى 40 عاماً، وهم يريدون الكشف عن مصير أخيهم، إذ لم يؤكد حتى هذه اللحظة أي جهاز أمني لبناني أن عملية الخطف جرت على يد الموساد”. وحمل المسؤولية إلى الأمن الفالت، والحدود السائبة، فكيف يدخل الموساد إلى الأراضي اللبنانية، ويختطف شخصاً لا علاقة له بأي موضوع أثير في الصحف اللبنانية، ويختفي، ولا أحد يعلم عنه شيء حتى هذه اللحظة؟!.
من هو رون آراد؟
رون آراد ليس مجرد اسم في سجل المفقودين الإسرائيليين، بل عقدة نفسية وأمنية مفتوحة منذ عام 1986. ففي ذلك العام، كان آراد طياراً في سلاح الجو الإسرائيلي عندما أُسقطت طائرته فوق جنوب لبنان، شرق مدينة صيدا تحديداً. نجا من التحطم، لكنه أسر من قبل عناصر من “حركة أمل”، ثم “حزب الله”، في لحظة كانت فيها الدولة اللبنانية غائبة، والجنوب ساحة مفتوحة للفصائل والتنظيمات المسلحة. منذ تلك اللحظة، دخل آراد في مسار اختفاء معقد، لا يشبه أسرى الحروب التقليديين، بل يشبه ما تسميه إسرائيل “الأسير الذي بلا قبر”.
وفي الأيام الأولى بعد أسره، توافرت مؤشرات على أنه كان حياً، وأنه نُقل بين أكثر من جهة ومكان داخل لبنان. وظهرت رسائل وصور تثبت وجوده، ما رسخ في الوعي الإسرائيلي قناعة بأن استعادته ممكنة، وأن الوقت يعمل لمصلحتهم. لكن ما حصل لاحقاً كان العكس تماماً. انقطعت أخباره، وأثيرت معلومات عن أكثر من جهة، يُعتقد أنها احتجزته، وتحول آراد من أسير قابل للتفاوض إلى لغز أمني. هذا التحول هو ما جعل قضيته مختلفة، لأن لا معلومات مؤكدة أنه مات، ولم تستعده إسرائيل، بالتالي ملفه لا يزال مفتوحاً. وفي شهر أبريل (نيسان) عام 2024 ذكر الناطق باسم “كتائب القسام” أبو عبيدة، أهالي الأسرى بـ”رون آراد” مُلوحاً بمصير مشابه لأبنائهم ما لم يتحركوا ضد حكومة بنيامين نتنياهو.
قضية حية في الذاكرة الإسرائيلية
بالنسبة لإسرائيل، رون آراد لم يكن جندياً عادياً، كان طياراً، أي جزءاً من النخبة العسكرية، وسقوطه في الأسر شكل صدمة مضاعفة. وفي العقيدة الأمنية الإسرائيلية، هناك قاعدة شبه مقدسة، لا يُترك الجندي خلف الخطوط. هذه القاعدة ليست أخلاقية فقط، بل استراتيجية. فالتخلي عن أسير يعني ضرب الثقة بين الدولة وجيشها، وبين الجندي والمهمة التي يُكلف بها. ومن هنا، تحول آراد إلى رمز لفشل لا يمكن الاعتراف به. وعلى مدى عقود، استثمرت إسرائيل سياسياً وأمنياً وعاطفياً في هذا الملف. وأُبرمت صفقات، ونُفذت عمليات، وجُند عملاء، وخُطف أشخاص، كل ذلك تحت شعار واحد، “إعادة رون آراد، حياً أو ميتاً”. ومع مرور الزمن، لم يعد الهدف معرفة مصيره فقط، بل إغلاق الملف، لأن الغموض أبقى القضية حية في الوعي الجماعي الإسرائيلي.
وما ميز قضية آراد أن إسرائيل لم تتعامل معها كملف تاريخي يُقفل، بل على العكس، انتقلت القضية من جيل إلى جيل داخل المؤسستين العسكرية والأمنية.
في هذا الإطار، يصبح ملف رون آراد أداة أكثر منه مجرد قضية. وأصبح أداة تبرر عمليات خارج الحدود، وتمنح الغطاء الأخلاقي لخرق سيادات دول، وتُستخدم لتذكير الخصوم بأن الزمن لا يحمي أحداً. فإسرائيل، في تعاملها مع هذا الملف، أسقطت عامل الزمن من الحساب. من تعامل مع آراد، ومن اقترب من قضيته، وأو من ينتمي إلى البيئة التي مر عبرها، يبقى قابلاً للاستدعاء الأمني، ولو بعد 40 عاماً.
السيادة المخروقة
تكشف قضية اختفاء الضابط المتقاعد في الأمن العام أحمد شكر، مرة جديدة هشاشة الدولة اللبنانية أمام حروب الظل التي تُدار على أراضيها. فالرجل اختفى في ظروف غير طبيعية، وسط معطيات تشير إلى استدراج منظم، ومن دون أن تتمكن الدولة من تقديم رواية رسمية واضحة أو حاسمة حول ما جرى، ما فتح الباب أمام تسريبات وشبهات خطرة، في مقدمها احتمال تورط جهاز الموساد الإسرائيلي.
ولم يصدر بيان يحدد طبيعة الحادثة، حتى الآن، ولا إعلان يطمئن الرأي العام إلى مسار التحقيق، ولا موقف سيادي يوازي خطورة ما يُتداول. هذا الفراغ الرسمي حوّل القضية من ملف أمني إلى مادة مفتوحة للتأويل، وأضعف موقع الدولة في لحظة كان يُفترض أن تُظهر فيها قدرتها على حماية أراضيها ومواطنيها، سواء كانوا أبرياء أو موضع شبهة.
الأخطر أن فرضية تورط الموساد، إن ثبتت، تعني أن لبنان ما زال ساحة مفتوحة لعمليات استخباراتية إسرائيلية دقيقة، قادرة على تنفيذ استدراج أو خطف أو تصفية، ثم المغادرة بلا أي مساءلة. وهذا لا يشكل فقط خرقاً فاضحاً للسيادة، بل يكرس واقعاً أكثر خطورة، وهو أن الصراع مع إسرائيل لم يعد محصوراً بالحدود أو الجبهات العسكرية، بل انتقل إلى استهداف الأفراد، والذاكرة، والبيئات، مستفيداً من ضعف الدولة وتداخل السلطات والسلاح.
لا تكمن خطورة قضية أحمد شكر فقط في مصير شخص اختفى، بل في ما تعكسه من عجز رسمي، وتواطؤ بالصمت، وواقع أمني يسمح لإسرائيل، أو لأي جهاز خارجي، بإدارة حساباته على الأرض اللبنانية. فحين تعجز الدولة عن فرض روايتها، تصبح كل رواية ممكنة، ويصبح لبنان مرة أخرى ساحة لا دولة.
حروب الظل تعود للداخل اللبناني: من خطف أحمد شكر؟

لا تعتبر إسرائيل أن ملف الطيار رون آراد مغلقاً، ولا تعترف بمرور الزمن كعامل إسقاط. وإذا صح أن عملية اختفاء شكر جاءت ضمن هذا السياق، فنحن أمام إعادة تفعيل لمنهج “الاستحصال القسري على المعلومات”، حيث يُخطف الفرد لا لأنه يملك الحقيقة الكاملة، بل لأنه قد يملك تفصيلاً ناقصاً، أو اسماً منسياً، أو رابطاً يمكن البناء عليه لاحقاً. هذا النوع من العمليات لا يحتاج إلى أدلة دامغة مسبقة، بل إلى ترجيح استخباراتي فقط.
أثارت تقارير إعلامية متقاطعة نشرت عبر الإعلام اللبناني والعربي والإسرائيلي، الشكوك والبلبلة بعدما ربطت اختطاف الضابط في الأمن العام اللبناني المتقاعد، أحمد شكر، بعملية سرية معقدة يقف خلفها جهاز الموساد الإسرائيلي.
ونقلت قنوات عربية أن الدولة اللبنانية تشك في أن مجموعة دخلت مطار بيروت قبل يومين من حادثة الخطف، فيما يُفسر على أنه تحضير لوجستي مسبق للعملية.
وذكرت صحيفة “الشرق الأوسط”، أن التحقيقات تشير إلى أن إسرائيل تقف خلف خطف الضابط المذكور، ويُعتقد أنه مرتبط بملف رون آراد، ما يعيد إلى الواجهة واحداً من أكثر الملفات غموضاً في تاريخ الصراع بين لبنان وإسرائيل.
وفي السياق نفسه، كشفت مصادر أمنية لـ “اندبندنت عربية” أنه جرى التقاط إشارة هاتفه لمدة 37 ثانية في منطقة الصويري البقاعية، ما يعزز فرضية ضلوع جهة إسرائيلية في العملية، واحتمال نقله إلى إسرائيل عبر منطقة جبل الشيخ الحدودية بين لبنان وسوريا. وأضافت أن ملف أحمد شكر هو حالياً لدى فرع المعلومات في لبنان، وهو وحدة استخباراتية تابعة للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وهناك تعتيم كبير على تفاصيل هذا الملف نظراً لحساسيته.
وتأتي هذه التطورات في ظل تكتم رسمي، فيما تتواصل التحقيقات وسط تصاعد الأسئلة حول طبيعة العملية وأبعادها الأمنية والسياسية. وتشير التقارير إلى أن أحمد شكر، هو شقيق الرجل الملقب بحسن، والذي كان عنصراً في جماعة مصطفى الديراني التي اعتقلت الطيار الإسرائيلي رون آراد عام 1986، وجرى استدراجه من مسقط رأسه على يد سويديين إثنين وسط تكهنات بأنه اختطف من قبل عملاء إسرائيليين.
ما علاقة القيادي في “حزب الله” فؤاد شكر؟
لا يمكن اعتبار اختفاء أحمد علي شكر حدثاً أمنياً عابراً، ولا يمكن فصله عن السياق السياسي والأمني الذي يتحرك فيه اسمه وعائلته، فاللغة التي تسللت إلى التحقيقات منذ الساعات الأولى، تشير إلى أن الرجل ليس مواطناً عادياً، ولا ضابطاً متقاعداً خرج نهائياً من مدار الصراع، بل ينتمي إلى عائلة تُعد من العائلات الثقيلة في بيئة “حزب الله”، وهو قريب القيادي البارز فؤاد شكر، الرجل الثاني في الحزب، الذي اغتالته إسرائيل في 30 يوليو (تموز) عام 2024 بغارة جوية استهدفت مبنى في حارة حريك في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. هذا المعطى وحده كافٍ لإسقاط أي محاولة لتقديم القضية كحادثة فردية أو كملف إنساني صرف.
منذ اللحظة الأولى لاختفاء شكر، بدا واضحاً أن الإعلام اللبناني يتعامل مع القضية بحذر شديد، بل بتردد محسوب. فالرجل ضابط سابق في الأمن العام، لكنه في الوقت نفسه ابن بيئة أمنية وتنظيمية معقدة، تتقاطع فيها مؤسسات الدولة مع شبكات “حزب الله” الأمنية والاجتماعية. هذا التداخل جعل مقاربة الملف انتقائية، إذ جرى التركيز على رواية “الوسيط العقاري” و”الموعد المدني” وتجاهل الخلفية الأثقل، أي الانتماء العائلي والسياسي، والذاكرة الأمنية التي يحملها الاسم.
وما تداوله الإعلام اللبناني لاحقاً عن اعتماد التحقيقات على كاميرات المراقبة وبيانات الاتصالات، أظهر أن اختفاء شكر لم يكن وليد لحظة فوضى أو صدفة، بل إن كل ما رشح من معطيات يوحي بعملية مدروسة، سواء كانت خطفاً، أو استدراجاً، أو تصفية تلاها إخفاء أثر. النقطة المفصلية هنا ليست فقط “كيف” اختفى، بل “لماذا الآن”؟. فالتوقيت يأتي بعد أكثر من عام على اغتيال فؤاد شكر، وفي ذروة مواجهة مفتوحة بين إسرائيل و”حزب الله”، إذ لم تعد الحسابات الإسرائيلية محكومة فقط بقواعد الاشتباك التقليدية، بل بمنطق تفكيك الشبكات والذاكرة والرموز.
إسرائيل لا تنسى ولو بعد حين
في هذا السياق، عاد اسم الطيار الإسرائيلي رون آراد إلى الواجهة، فالإعلام العبري لم يذكر أحمد شكر كهدف بحد ذاته، لكنه أعاد ربط القضية بملف آراد، الطيار الذي فُقد في لبنان عام 1986. هذا الربط ليس تفصيلاً عاطفياً أو إعلامياً، بل جزء من سردية أمنية ثابتة لدى إسرائيل، كل من يقع ضمن دائرة البيئة التي احتضنت، أو مرت عبرها، قضية آراد، يبقى قابلاً لإعادة الإدراج في بنك الأهداف، مهما طال الزمن. وعندما يكون الشخص المعني قريباً من قيادي بحجم فؤاد شكر، فإن قيمة “الاشتباه” تتضاعف، حتى لو لم يكن يمتلك معلومة مباشرة أو حاسمة.
هنا، لا يمكن تجاهل سؤال مزعج يفرض نفسه، هل كان أحمد شكر مجرد حلقة هامشية أُعيد تفعيلها ضمن حرب الذاكرة؟ أم أنه يحمل فعلاً معطيات أو أدواراً لم تُكشف للرأي العام، سواء بحكم موقعه السابق في الأمن العام أو بحكم علاقته العائلية والتنظيمية؟.
ضغط نفسي على “حزب الله” وبيئته
الصمت المطبق من قبل “حزب الله” حيال مصيره لا يقل دلالة عن الصمت الرسمي للدولة اللبنانية. فلا بيانات تصعيدية، ولا اتهامات مباشرة، ولا حتى محاولة استثمار القضية سياسياً، كما يفعل الحزب عادة عند استهداف كوادره أو بيئته. هذا الصمت قد يكون بحد ذاته اعترافاً ضمنياً بأن الملف أكثر تعقيداً مما يُقال.
في المقابل، لا يبدو أن إسرائيل معنية بتقديم إجابات. الإعلام الإسرائيلي اكتفى بالتلميح، وترك الباب مفتوحاً أمام التأويل. فسياسة الغموض هنا تخدم هدفين، أولاً، إبقاء الضغط النفسي على “حزب الله” وبيئته عبر الإيحاء بأن لا أحد خارج بنك المتابعة، وثانياً، إرسال رسالة واضحة مفادها أن اغتيال فؤاد شكر لم يكن نهاية الملف، بل بداية مرحلة أوسع من تفكيك الدوائر المحيطة به، سواء كانت دوائر عائلية، لوجستية، أو تاريخية.
كذلك لا تعد إسرائيل ملف آراد مغلقاً، ولا تعترف بمرور الزمن كعامل إسقاط. وإذا صح أن عملية اختفاء شكر جاءت ضمن هذا السياق، فنحن أمام إعادة تفعيل لمنهج “الاستحصال القسري على المعلومات”، حيث يُخطف الفرد لا لأنه يملك الحقيقة الكاملة، بل لأنه قد يملك تفصيلاً ناقصاً، أو اسماً منسياً، أو رابطاً يمكن البناء عليه لاحقاً. هذا النوع من العمليات لا يحتاج إلى أدلة دامغة مسبقة، بل إلى ترجيح استخباراتي فقط.
الأخطر في هذه القضية أنها تكشف مرة جديدة هشاشة الدولة اللبنانية أمام صراعات تتجاوزها. فاختفاء شخصية بهذا الوزن، سواء اعتُبرت ضحية أو مشتبهاً فيها، من دون قدرة الدولة على تقديم رواية رسمية واضحة، يعني أن لبنان ما زال ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الاستخباراتية. هنا لا يعود السؤال محصوراً بمصير أحمد شكر، بل يتسع ليشمل طبيعة المرحلة، مرحلة تُستعاد فيها ملفات الثمانينيات لتُستخدم في حروب ما بعد عام 2023، ومرحلة لا يُسأل فيها عن البراءة بقدر ما يُسأل عن الفائدة الأمنية.
أين الدولة؟
يروي مختار بلدة “النبي شيت” البقاعية، عباس علي شكر، وهو أخ الضابط المفقود أحمد شكر، تفاصيل يوم الخطف، ويجيب عن سؤال لماذا خطف هو تحديداً، “أن هذا سؤال كبير جداً، ونتساءل جميعاً لماذا خطف أخي بهذه الطريقة”. ويتابع “أن أخيه هو نقيب متقاعد من الأمن العام، وتطوع في السلك عام 1982، يملك شقة في منطقة الشويفات غرب بيروت، اتصل به أحدهم يدعى علي محمد مراد، من بلدة قانا الجنوبية، منذ سبعة أشهر يريد استئجار تلك الشقة، وجرى تأجير الشقة بمبلغ 500 دولار شهرياً، وهذا الشخص هو مغترب في أبيدجان في أفريقيا. ولكن منذ شهرين اتصل هذا الشخص نفسه وقال للنقيب شكر إن هناك شخصاً متمولاً من عائلة كسّاب، يريد شراء قطعة أرض في منطقة الفرزل البقاعية المجاورة لمدينة زحلة”، وجرى التواصل بين النقيب وهذا الشخص، نهار الأربعاء 17 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أي نهار عملية الاختطاف.
يتابع المختار عباس شكر، ويقول إنه “في ذلك النهار، اتصل الشخص من عائلة مراد، وقال للنقيب إنه في هذا اليوم سيأتي المتمول ليعاين قطعة الأرض، ولكن مراد عاود الاتصال وقال للنقيب إنه تعرض لحادثة وكسر رجله، ولا يستطيع القدوم إلى لبنان، وعليه سيأتي كساب وحده، وستلتقي معه بجانب تمثال العذراء في بلدة تل شيحا، أعالي زحلة، واتفقا على أن يلتقيا بعد ظهر ذلك اليوم، وخرج النقيب الساعة الرابعة عصراً من منزل المختار”. هنا يشير المختار إلى أنه وبحسب الكاميرات التي نقلت عملية الاختطاف خرج رجل من سيارة دفع رباعي، يلبس قبعة، سأل النقيب، “هل أنت أحمد شكر؟”، فأجابه بنعم، فطلب منه الصعود إلى السيارة، أقفل النقيب سيارته، وصعد إلى السيارة، وهناك اختفى.
ونفى شقيق الضابط أحمد ما تردّد عن مشاركة شقيقه حسن شكر في المجموعة التي كان يقودها مصطفى الديراني خلال أسر رون آراد، مؤكداً أن هذه المعلومات غير صحيحة.
وبعد ذلك وعندما تأخر النقيب في العودة إلى المنزل، اتصل المختار أكثر من مرة، وكان الهاتف يرن وطبعاً من دون رد. وكانت التقارير الإعلامية تحدثت ونقلاً عن مصادر، أن شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي كثفت تحرياتها منذ تسجيل فقدان شكر في منطقة البقاع، وتمكنت من تتبع كاميرات المراقبة وتحليل الاتصالات، ما أظهر مؤشرات أولية على استدراجه من بلدته النبي شيت قبل فقدان أثره قرب زحلة. ولفتت التحقيقات، إلى احتمال تورط شخصين يحملان الجنسية السويدية، أحدهما من أصل لبناني، وصلا إلى لبنان قبل يومين من عملية الخطف وغادرا بعد التنفيذ، في وقت لم يُعثر حتى الآن على أي دليل مادي يؤكد وجود شكر داخل الأراضي اللبنانية، الأمر الذي يدعم فرضية أنه أصبح خارج لبنان.
وعند سؤال المختار هل جرى التواصل مع الشخص من آل مراد؟، يقول المختار، إنهم حاولوا التواصل معه أو مع أحد من عائلته، ولكن اتضح أنه “كاذب واختفى هو أيضاً”. وبرأي المختار فإن هذا الشخص هو وراء كل عملية الخطف وهو من كان يخطط منذ قام باستئجار شقة النقيب الكائنة في الشويفات.
وأوضح المختار أنهم حتى هذه اللحظة لا يملكون أية معلومات لأن الأجهزة الأمنية اللبنانية لم تطلعهم على شيء، علماً أنهم لجأوا إلى السلطات منذ اللحظة الأولى، وأنهم أوصلوا الموضوع إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، واتصلوا بوزير الداخلية، وأن موضوع ربط اختطاف النقيب بعملية يقف خلفها الموساد، علموا بشأنها من الإعلام والصحافة، وأن الأمن اللبناني لم يبلغهم بشيء.
وعن القرابة التي تربط العائلة بالقيادي في “حزب الله”، فؤاد شكر، يشدد المختار أن “السيد فؤاد هو من العائلة، ولم يكن هناك تواصل بينهم بشكل نهائي، وأنه لم يكن يزور بلدة النبي شيت”.
وناشد المختار عباس شكر الدولة اللبنانية من رئيس الجمهورية إلى كل المسؤولين العمل لكشف حيثيات خطف النقيب أحمد شكر(70 سنة)، لأن الأخير قضى شبابه وهو بخدمة الوطن وعلى مدى 40 سنة، ولم تكن له صلات بكل الأحزاب اللبنانية، وخدم الدولة بكل إخلاص، وأنهم من عائلة معروفة إذ إن الأب كان أيضاً مختار بلدة النبي شيت على مدى 40 عاماً، وهم يريدون الكشف عن مصير أخيهم، إذ لم يؤكد حتى هذه اللحظة أي جهاز أمني لبناني أن عملية الخطف جرت على يد الموساد”. وحمل المسؤولية إلى الأمن الفالت، والحدود السائبة، فكيف يدخل الموساد إلى الأراضي اللبنانية، ويختطف شخصاً لا علاقة له بأي موضوع أثير في الصحف اللبنانية، ويختفي، ولا أحد يعلم عنه شيء حتى هذه اللحظة؟!.
من هو رون آراد؟
رون آراد ليس مجرد اسم في سجل المفقودين الإسرائيليين، بل عقدة نفسية وأمنية مفتوحة منذ عام 1986. ففي ذلك العام، كان آراد طياراً في سلاح الجو الإسرائيلي عندما أُسقطت طائرته فوق جنوب لبنان، شرق مدينة صيدا تحديداً. نجا من التحطم، لكنه أسر من قبل عناصر من “حركة أمل”، ثم “حزب الله”، في لحظة كانت فيها الدولة اللبنانية غائبة، والجنوب ساحة مفتوحة للفصائل والتنظيمات المسلحة. منذ تلك اللحظة، دخل آراد في مسار اختفاء معقد، لا يشبه أسرى الحروب التقليديين، بل يشبه ما تسميه إسرائيل “الأسير الذي بلا قبر”.
وفي الأيام الأولى بعد أسره، توافرت مؤشرات على أنه كان حياً، وأنه نُقل بين أكثر من جهة ومكان داخل لبنان. وظهرت رسائل وصور تثبت وجوده، ما رسخ في الوعي الإسرائيلي قناعة بأن استعادته ممكنة، وأن الوقت يعمل لمصلحتهم. لكن ما حصل لاحقاً كان العكس تماماً. انقطعت أخباره، وأثيرت معلومات عن أكثر من جهة، يُعتقد أنها احتجزته، وتحول آراد من أسير قابل للتفاوض إلى لغز أمني. هذا التحول هو ما جعل قضيته مختلفة، لأن لا معلومات مؤكدة أنه مات، ولم تستعده إسرائيل، بالتالي ملفه لا يزال مفتوحاً. وفي شهر أبريل (نيسان) عام 2024 ذكر الناطق باسم “كتائب القسام” أبو عبيدة، أهالي الأسرى بـ”رون آراد” مُلوحاً بمصير مشابه لأبنائهم ما لم يتحركوا ضد حكومة بنيامين نتنياهو.
قضية حية في الذاكرة الإسرائيلية
بالنسبة لإسرائيل، رون آراد لم يكن جندياً عادياً، كان طياراً، أي جزءاً من النخبة العسكرية، وسقوطه في الأسر شكل صدمة مضاعفة. وفي العقيدة الأمنية الإسرائيلية، هناك قاعدة شبه مقدسة، لا يُترك الجندي خلف الخطوط. هذه القاعدة ليست أخلاقية فقط، بل استراتيجية. فالتخلي عن أسير يعني ضرب الثقة بين الدولة وجيشها، وبين الجندي والمهمة التي يُكلف بها. ومن هنا، تحول آراد إلى رمز لفشل لا يمكن الاعتراف به. وعلى مدى عقود، استثمرت إسرائيل سياسياً وأمنياً وعاطفياً في هذا الملف. وأُبرمت صفقات، ونُفذت عمليات، وجُند عملاء، وخُطف أشخاص، كل ذلك تحت شعار واحد، “إعادة رون آراد، حياً أو ميتاً”. ومع مرور الزمن، لم يعد الهدف معرفة مصيره فقط، بل إغلاق الملف، لأن الغموض أبقى القضية حية في الوعي الجماعي الإسرائيلي.
وما ميز قضية آراد أن إسرائيل لم تتعامل معها كملف تاريخي يُقفل، بل على العكس، انتقلت القضية من جيل إلى جيل داخل المؤسستين العسكرية والأمنية.
في هذا الإطار، يصبح ملف رون آراد أداة أكثر منه مجرد قضية. وأصبح أداة تبرر عمليات خارج الحدود، وتمنح الغطاء الأخلاقي لخرق سيادات دول، وتُستخدم لتذكير الخصوم بأن الزمن لا يحمي أحداً. فإسرائيل، في تعاملها مع هذا الملف، أسقطت عامل الزمن من الحساب. من تعامل مع آراد، ومن اقترب من قضيته، وأو من ينتمي إلى البيئة التي مر عبرها، يبقى قابلاً للاستدعاء الأمني، ولو بعد 40 عاماً.
السيادة المخروقة
تكشف قضية اختفاء الضابط المتقاعد في الأمن العام أحمد شكر، مرة جديدة هشاشة الدولة اللبنانية أمام حروب الظل التي تُدار على أراضيها. فالرجل اختفى في ظروف غير طبيعية، وسط معطيات تشير إلى استدراج منظم، ومن دون أن تتمكن الدولة من تقديم رواية رسمية واضحة أو حاسمة حول ما جرى، ما فتح الباب أمام تسريبات وشبهات خطرة، في مقدمها احتمال تورط جهاز الموساد الإسرائيلي.
ولم يصدر بيان يحدد طبيعة الحادثة، حتى الآن، ولا إعلان يطمئن الرأي العام إلى مسار التحقيق، ولا موقف سيادي يوازي خطورة ما يُتداول. هذا الفراغ الرسمي حوّل القضية من ملف أمني إلى مادة مفتوحة للتأويل، وأضعف موقع الدولة في لحظة كان يُفترض أن تُظهر فيها قدرتها على حماية أراضيها ومواطنيها، سواء كانوا أبرياء أو موضع شبهة.
الأخطر أن فرضية تورط الموساد، إن ثبتت، تعني أن لبنان ما زال ساحة مفتوحة لعمليات استخباراتية إسرائيلية دقيقة، قادرة على تنفيذ استدراج أو خطف أو تصفية، ثم المغادرة بلا أي مساءلة. وهذا لا يشكل فقط خرقاً فاضحاً للسيادة، بل يكرس واقعاً أكثر خطورة، وهو أن الصراع مع إسرائيل لم يعد محصوراً بالحدود أو الجبهات العسكرية، بل انتقل إلى استهداف الأفراد، والذاكرة، والبيئات، مستفيداً من ضعف الدولة وتداخل السلطات والسلاح.
لا تكمن خطورة قضية أحمد شكر فقط في مصير شخص اختفى، بل في ما تعكسه من عجز رسمي، وتواطؤ بالصمت، وواقع أمني يسمح لإسرائيل، أو لأي جهاز خارجي، بإدارة حساباته على الأرض اللبنانية. فحين تعجز الدولة عن فرض روايتها، تصبح كل رواية ممكنة، ويصبح لبنان مرة أخرى ساحة لا دولة.
















