ملفّات إبستين: مسلسل “نتفليكس” السّياسيّ الذي لا ينتهي

تخيّل دولة تتباهى بأنّها “منارة الأخلاق العالميّة”، ثمّ تفتح صندوق “باندورا” اسمه جيفري إبستين: تخرج منه أسماء لامعة، صور ابتسامات مشبوهة، ورحلات جوّيّة “بريئة”، ثمّ تسارع إلى إغلاقه بحجّة “حماية الخصوصيّة” أو “الأمن القوميّ”. والنتيجة؟
إنّها فضيحة تُقدَّم على جرعات صغيرة، كأنّها مسلسل انتخابيّ على “نتفليكس”: كلّ حلقة تُثير الضجيج، لكنّ النهاية دائماً مؤجّلة. في أميركا، حيث يُحاكَم السارق العاديّ في أيّام، تبقى ملفّات الملياردير المتورّط في استغلال قاصرين معلّقة لسنوات، وكأنّ العدالة تُصاب بالخجل كلّما اقتربت من “النخبة”. مرحباً بكم في مسرح العبث الأميركيّ، حيث الفضائح ليست للكشف عن الحقيقة، بل للترفيه عن الجمهور السياسيّ!
الخلاصة؟ لا حقيقة كاملة ولا محاسبة كاملة، بل ضجيج دائم يُستثمَر سياسيّاً أكثر ممّا يُفكّك قضائيّاً. القضيّة، في جوهرها، بسيطة إلى حدّ السذاجة: رجل ثريّ، شبكة علاقات واسعة، جرائم استغلال جنسيّ موثّقة وانتحار في زنزانة يُفترض أنّها الأكثر مراقبة في الولايات المتّحدة. لكن في واشنطن لا شيء يُترك على بساطته. كلّ ملفّ يجب أن يتحوّل إلى أداة، وكلّ فضيحة إلى سلاح انتخابيّ.
من كان معه؟
منذ وفاة جيفري إبستين الغامضة عام 2019، لم يعُد السؤال: ماذا فعل؟ بل من كان معه؟
قوائم رحلات الطيران، صور المناسبات والدعوات القديمة كلّها تحوّلت إلى ذخيرة سياسيّة جاهزة. لا يهمّ إن كانت الأدلّة مكتملةً أو السياق واضحاً، المهمّ أنّ الاسم ظهر يوماً ما بالقرب من إبستين أو ابتسم في صورة جماعيّة لا يتذكّر أحد مناسبتها.
على سبيل المثال، تكشف الوثائق عن رحلات جوّية متكرّرة لشخصيّات مثل دونالد ترامب (ثماني مرّات على الأقلّ بين 1993 و1996، بعضها مع غيسلين ماكسويل أو أفراد عائلته)، وبيل كلينتون، من دون دليل دامغ على جرائم، لكن مع إثارة الشكوك.
هنا تدخل السياسة الأميركيّة مرحلة الهزل الجادّ:
الديمقراطيّ يتّهم الجمهوريّ بالتغطية، والجمهوريّ يتّهم الديمقراطيّ بالتورّط، والضحيّة الوحيدة هي الحقيقة. أمّا القضاء فيقف في المنتصف، يتقدّم خطوة ويتراجع خطوتين، كمن يخشى أن يفتح الباب أكثر ممّا يحتمل النظام. مع ذلك، يُثنى على بعض التقدّم بفضل الضغط الإعلاميّ والشعبيّ، الذي أجبر وزارة العدل على إصدار دفعات متتالية، وتضمّن الإفراج الأخير في كانون الأوّل 2025 أكثر من 30,000 صفحة تشمل تفاصيل جديدة عن روابط محتملة مع شخصيّات سياسيّة.
ماذا عن الضحايا؟
وسط هذا الضجيج السياسيّ، يُغفل صوت الضحايا الأساسيّات، مثل فيرجينيا جيوفري وغيرها من النساء اللواتي روين قصص استغلال مرعبة شملت اقتباسات مثل: “كنتُ أشعر بأنّني قطعة في لعبة النخبة وحسب”، كما ورد في شهادات محاكمة غيسلين ماكسويل. هؤلاء الضحايا لسن أرقاماً في الوثائق وحسب، بل هنّ أرواح مكسورة تطالب بالعدالة، لكنّ التركيز السياسيّ يحوّلهنّ إلى خلفيّة للمعارك الانتخابيّة.
السؤال الذي يتكرّر في الإعلام ووسائل التواصل ليس بريئاً: إذا كانت الولايات المتّحدة قادرة على نشر وثائق نوويّة بعد خمسين عاماً، فلماذا تعجز عن نشر ملفّات إبستين كاملة؟
الإجابة غير المعلنة، لكن المفهومة ضمنيّاً:
– حماية الضحايا: التحرير الثقيل للأسماء والتفاصيل لحماية خصوصيّتهن، كما أوضحت وزارة العدل.
– الاعتبارات الأمنيّة: روابط محتملة مع استخبارات أجنبيّة أو شخصيّات دوليّة.
– الضغوط السياسيّة: خوف من تآكل الثقة بالمؤسّسات إذا كشفت الروابط الكاملة بين المال والسلطة.
– التوازن القضائيّ: بعض الادّعاءات غير مثبتة أو “مضلّلة وحسّاسة”، كما وصفتها الوثائق الأخيرة بشأن بعض الإشارات إلى ترامب.
الملفّات لا تهدّد أفراداً فقط، بل منظومة علاقات تربط المال بالسياسة، النفوذ بالإعلام، والدبلوماسيّة بالنوادي المغلقة. يعني كشفها بالكامل الاعتراف بأنّ “النخبة”، التي تروّج للديمقراطيّة والشفافيّة، تعيش وفق قواعد مختلفة تماماً. لذلك يُفضَّل إبقاء الملفّ حيّاً لكن غير مكتمل بحيث يكون حيّاً بما يكفي لتخويف الخصوم ومغلقاً بما يكفي لحماية النظام.
تآكل الثّقة العامّة
سياسيّاً، لم تُسقِط قضيّةُ إبستين إدارة، ولم تُنهِ مسيرة زعيم كبير، لكنّها أحدثت ما هو أخطر: تآكلاً صامتاً في الثقة العامّة. كلّ تأخير في الكشف وكلّ وثيقة منقوصة يعمّقان قناعة شريحة واسعة من الأميركيّين بأنّ العدالة انتقائيّة، وأنّ القانون صار مرناً كلّما اقترب من أصحاب النفوذ.
استثمر اليمين الشعبويّ القضيّة ليقول إنّ “الدولة العميقة” تحمي نفسها، واستخدمها اليسار لإدانة تحالف المال والسلطة. أمّا المؤسّسة فاختارت الصمت المُدار لأنّ الضجيج أقلّ خطورة من الحقيقة الكاملة.
في النهاية، لم تعُد قضيّة إبستين عن إبستين. إنّها مرآة لنظام سياسيّ يعرف كلّ شيء، لكنّه يختار ماذا يعرف الجمهور، متى وبأيّ جرعة. في بلد يُحاكَم فيه مواطن عاديّ خلال أيّام، بينما تبقى ملفّات بحجم إبستين معلّقة لسنوات، يصبح السؤال الساخر مشروعاً: هل كانت جريمة إبستين أخطر من أن تُكشف أم كشفُها أخطر من الجريمة نفسها؟
ملفّات إبستين: مسلسل “نتفليكس” السّياسيّ الذي لا ينتهي

تخيّل دولة تتباهى بأنّها “منارة الأخلاق العالميّة”، ثمّ تفتح صندوق “باندورا” اسمه جيفري إبستين: تخرج منه أسماء لامعة، صور ابتسامات مشبوهة، ورحلات جوّيّة “بريئة”، ثمّ تسارع إلى إغلاقه بحجّة “حماية الخصوصيّة” أو “الأمن القوميّ”. والنتيجة؟
إنّها فضيحة تُقدَّم على جرعات صغيرة، كأنّها مسلسل انتخابيّ على “نتفليكس”: كلّ حلقة تُثير الضجيج، لكنّ النهاية دائماً مؤجّلة. في أميركا، حيث يُحاكَم السارق العاديّ في أيّام، تبقى ملفّات الملياردير المتورّط في استغلال قاصرين معلّقة لسنوات، وكأنّ العدالة تُصاب بالخجل كلّما اقتربت من “النخبة”. مرحباً بكم في مسرح العبث الأميركيّ، حيث الفضائح ليست للكشف عن الحقيقة، بل للترفيه عن الجمهور السياسيّ!
الخلاصة؟ لا حقيقة كاملة ولا محاسبة كاملة، بل ضجيج دائم يُستثمَر سياسيّاً أكثر ممّا يُفكّك قضائيّاً. القضيّة، في جوهرها، بسيطة إلى حدّ السذاجة: رجل ثريّ، شبكة علاقات واسعة، جرائم استغلال جنسيّ موثّقة وانتحار في زنزانة يُفترض أنّها الأكثر مراقبة في الولايات المتّحدة. لكن في واشنطن لا شيء يُترك على بساطته. كلّ ملفّ يجب أن يتحوّل إلى أداة، وكلّ فضيحة إلى سلاح انتخابيّ.
من كان معه؟
منذ وفاة جيفري إبستين الغامضة عام 2019، لم يعُد السؤال: ماذا فعل؟ بل من كان معه؟
قوائم رحلات الطيران، صور المناسبات والدعوات القديمة كلّها تحوّلت إلى ذخيرة سياسيّة جاهزة. لا يهمّ إن كانت الأدلّة مكتملةً أو السياق واضحاً، المهمّ أنّ الاسم ظهر يوماً ما بالقرب من إبستين أو ابتسم في صورة جماعيّة لا يتذكّر أحد مناسبتها.
على سبيل المثال، تكشف الوثائق عن رحلات جوّية متكرّرة لشخصيّات مثل دونالد ترامب (ثماني مرّات على الأقلّ بين 1993 و1996، بعضها مع غيسلين ماكسويل أو أفراد عائلته)، وبيل كلينتون، من دون دليل دامغ على جرائم، لكن مع إثارة الشكوك.
هنا تدخل السياسة الأميركيّة مرحلة الهزل الجادّ:
الديمقراطيّ يتّهم الجمهوريّ بالتغطية، والجمهوريّ يتّهم الديمقراطيّ بالتورّط، والضحيّة الوحيدة هي الحقيقة. أمّا القضاء فيقف في المنتصف، يتقدّم خطوة ويتراجع خطوتين، كمن يخشى أن يفتح الباب أكثر ممّا يحتمل النظام. مع ذلك، يُثنى على بعض التقدّم بفضل الضغط الإعلاميّ والشعبيّ، الذي أجبر وزارة العدل على إصدار دفعات متتالية، وتضمّن الإفراج الأخير في كانون الأوّل 2025 أكثر من 30,000 صفحة تشمل تفاصيل جديدة عن روابط محتملة مع شخصيّات سياسيّة.
ماذا عن الضحايا؟
وسط هذا الضجيج السياسيّ، يُغفل صوت الضحايا الأساسيّات، مثل فيرجينيا جيوفري وغيرها من النساء اللواتي روين قصص استغلال مرعبة شملت اقتباسات مثل: “كنتُ أشعر بأنّني قطعة في لعبة النخبة وحسب”، كما ورد في شهادات محاكمة غيسلين ماكسويل. هؤلاء الضحايا لسن أرقاماً في الوثائق وحسب، بل هنّ أرواح مكسورة تطالب بالعدالة، لكنّ التركيز السياسيّ يحوّلهنّ إلى خلفيّة للمعارك الانتخابيّة.
السؤال الذي يتكرّر في الإعلام ووسائل التواصل ليس بريئاً: إذا كانت الولايات المتّحدة قادرة على نشر وثائق نوويّة بعد خمسين عاماً، فلماذا تعجز عن نشر ملفّات إبستين كاملة؟
الإجابة غير المعلنة، لكن المفهومة ضمنيّاً:
– حماية الضحايا: التحرير الثقيل للأسماء والتفاصيل لحماية خصوصيّتهن، كما أوضحت وزارة العدل.
– الاعتبارات الأمنيّة: روابط محتملة مع استخبارات أجنبيّة أو شخصيّات دوليّة.
– الضغوط السياسيّة: خوف من تآكل الثقة بالمؤسّسات إذا كشفت الروابط الكاملة بين المال والسلطة.
– التوازن القضائيّ: بعض الادّعاءات غير مثبتة أو “مضلّلة وحسّاسة”، كما وصفتها الوثائق الأخيرة بشأن بعض الإشارات إلى ترامب.
الملفّات لا تهدّد أفراداً فقط، بل منظومة علاقات تربط المال بالسياسة، النفوذ بالإعلام، والدبلوماسيّة بالنوادي المغلقة. يعني كشفها بالكامل الاعتراف بأنّ “النخبة”، التي تروّج للديمقراطيّة والشفافيّة، تعيش وفق قواعد مختلفة تماماً. لذلك يُفضَّل إبقاء الملفّ حيّاً لكن غير مكتمل بحيث يكون حيّاً بما يكفي لتخويف الخصوم ومغلقاً بما يكفي لحماية النظام.
تآكل الثّقة العامّة
سياسيّاً، لم تُسقِط قضيّةُ إبستين إدارة، ولم تُنهِ مسيرة زعيم كبير، لكنّها أحدثت ما هو أخطر: تآكلاً صامتاً في الثقة العامّة. كلّ تأخير في الكشف وكلّ وثيقة منقوصة يعمّقان قناعة شريحة واسعة من الأميركيّين بأنّ العدالة انتقائيّة، وأنّ القانون صار مرناً كلّما اقترب من أصحاب النفوذ.
استثمر اليمين الشعبويّ القضيّة ليقول إنّ “الدولة العميقة” تحمي نفسها، واستخدمها اليسار لإدانة تحالف المال والسلطة. أمّا المؤسّسة فاختارت الصمت المُدار لأنّ الضجيج أقلّ خطورة من الحقيقة الكاملة.
في النهاية، لم تعُد قضيّة إبستين عن إبستين. إنّها مرآة لنظام سياسيّ يعرف كلّ شيء، لكنّه يختار ماذا يعرف الجمهور، متى وبأيّ جرعة. في بلد يُحاكَم فيه مواطن عاديّ خلال أيّام، بينما تبقى ملفّات بحجم إبستين معلّقة لسنوات، يصبح السؤال الساخر مشروعاً: هل كانت جريمة إبستين أخطر من أن تُكشف أم كشفُها أخطر من الجريمة نفسها؟















