سيّدنا الراعي: لا تغفروا لهم لأنهم يدرون ماذا يفعلون

سيّدنا الراعي: لا تغفروا لهم لأنهم يدرون ماذا يفعلون

الكاتب: نبيل موسى
21 تشرين الثاني 2023

كما كان متوقعًا، أطلق البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عظة الأحد رسالة واضحة وحاسمة، الى من يعنيهم الأمر في تعطيل مؤسسات البلاد وفي مقدّمها رئاسة الجمهورية. موقف من أُعطي له مجد لبنان لم يكن جديدًا، إنما جديده كان استخدام البطريرك اللغة الواضحة والمباشرة والحاسمة سواء لجهة تحديد المسؤوليات أو لجهة إعادة تصويب البوصلة في اتجاه المطلوب والممنوع مسيحيًا ووطنيًا:

“المجلس النيابي لا يقوم عمدًا بواجبه الأوّل والأساس، وهو انتخاب رئيس للجمهوريّة، ويغيّب السلطة العليا في البلاد منذ سنة. فيتعثّر هذا المجلس ويفقد مسؤوليّته في التشريع والمحاسبة والمساءلة. كذلك في حكومة تصريف الأعمال المنقسمة على ذاتها بسبب المقاطعين الدائمين، وبالتالي تتعثّر في موضوع صلاحيّاتها”.

“لا يحقّ لكم، أيّها المعطّلون الإستمرار في عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة. لا يحقّ لكم أن تخلقوا أزمات وعقدًا جانبيّة بدلًا من المباشرة الفوريّة بانتخاب الرئيس فتحلّ عقدكم، وتكفّوا، إذا سلمت نياتكم عن سياسة المتاجرة الرخيصة”.

“لا يحقّ لكم أن تتلاعبوا باستقرار المؤسّسات وعلى رأسها مؤسّسة الجيش، وبروح الكيديّة والحقد والإنتقام. إذهبوا إلى المجلس النيابي وانتخبوا رئيسًا للجمهوريّة، وأوقفوا المقامرة بالدولة واستقرارها وشعبها وكرامته. وهكذا تنحلّ جميع عقدكم المقصودة لغايات رخيصة. في هذا الظرف الأمني الدقيق، والحرب دائرة على حدودنا الجنوبيّة، من الواجب عدم المسّ بقيادة الجيش العليا حتى انتخاب رئيس للجمهوريّة. ولا يجوز الاعتداد بما جرى في مؤسّسات أخرى تجّنبًا للفراغ فيها. فالموضوع هنا مرتبط بالحاجة إلى حماية شعبنا، وإلى حفظ الأمن على كامل الأراضي اللبنانيّة والحدود، ولا سيما في الجنوب، بموجب قرار مجلس الأمن 1701، فأي تغيير على مستوى القيادة العليا في مؤسّسة الجيش يحتاج إلى الحكمة والتروّي ولا يجب استغلاله لمآرب سياسيّة شخصيّة”.

في السياسة، هذه كانت مواقف البطريرك الراعي. فهل من كلام أوضح من ذلك لمن يريد أن يسمع ويفهم؟ ومن له أذنان سامعتان فليسمع. فالعقدة الأساس ولّادة العقد الأخرى، برأي بكركي وكل عاقل في البلاد، هي الفراغ في الرئاسة الأولى، هذا الفراغ الذي حمّل البطريرك مسؤوليته المباشرة لمجلس النواب، أي تحديدًا للرئيس نبيه بري الذي لا يدعو الى جلسة مفتوحة بدورات متتالية لا تنتهي إلا بانتخاب رئيس للجمهورية. أما أزمة قيادة الجيش فاعتبرها البطريرك نتيجة للأزمة الأم، راسمًا خطًا أحمر حول المساس بها لغايات رخيصة، على حد قوله.

كلام الراعي، الذي جاء بلغة بطريركية راقية، لا تصعب ترجمته الى اللغة الفصحى أو ربما المحكيّة: الرئيس بري الممسك بمفتاح مجلس النواب، ومعه “حزب الله”، مسؤولان عن استمرار الفراغ الرئاسي لغاية في نفس يعقوب، ورئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل مسؤول عن شلل الحكومة بسبب مقاطعة وزرائه لاجتماعاتها، وكذلك هو المسؤول الاوّل والوحيد عن المسّ بقيادة الجيش لمآرب سياسية شخصية رخيصة.

وبما أن الراعي قد اطلق هذه المواقف الحازمة والحاسمة من الازمات المصيرية التي تعصف بالبلاد، راسمًا خارطة الطريق الطبيعية للخروج منها، بات من واجبه امتشاق عصاه لتأديب الخراف الضالّة في قطيعه، بعدما باتت تشكل خطرًا على القطيع بكامله وتهدد بشرذمته وضياعه في كل أصقاع الأرض. فالراعي الصالح يخدم قطيعه لدرجة أنه يكون مستعدًا للتضحية بنفسه دفاعًا عنه عندما تهاجمه الذئاب الكاسرة. لكنه في الوقت نفسه لا يتردد في تأديب الخراف الضالة التي تشكل خطرًا على القطيع. من هنا كانت لعصا الراعي مهمة مزدوجة: الدفاع عن القطيع من اي خطر خارجي يتهدّده، وتأديب الخراف الضالة التي تخرج عن الجماعة وتهدّد وجودها ومستقبلها.

سيّدنا الراعي، امتشقوا عصاكم لمرّة بوجه الضالين بيننا الذين باتت مطامعهم الشخصية وأخطاؤهم، لا بل خطاياهم، تهدّد مصير المسيحيين ومعظم اللبنانيين، بعدما أوصلوا البلاد الى أزمة وجودية غير مسبوقة، وما زالوا مصرّين على ضلالهم وذميّتهم من خلال استمرارهم بالسير وراء سراب المطامع الشخصية والكراسي المخلّعة.

سيّدنا الراعي، أدّبوا بعصاكم المخادعين بيننا، ولا تسمحوا لهم بعد اليوم باستعمال الصرح البطريركي منصّة لتشويه مواقف بكركي بخبثهم وريائهم وتلوّنهم وفقًا لمصالحهم.

سيّدنا الراعي، أطردوا لصوص الهيكل المتاجرين بحقوق المسيحيين قبل أن يهدموه على رؤوس الجميع. لا تفتحوا لهم أبوابكم قبل أن يأتوكم تائبين ليتلوا أمامكم فعل الندامة عما اقترفوه وما زالوا من خطايا بحق المسيحيين ولبنان.

سيّدنا الراعي، من هاجم بكركي وتهجّم على سيّدها في أحلك الظروف، لا يحق له اليوم ادّعاء الصلاة في كنيستها، لا لشيء إلا ليوهم المجتمع المسيحي بأنه يعمل بهديها، وكل ذلك تأمينًا لمصالحه السلطوية الرخيصة، على حد ما قلتم في عظتكم.

سيدنا الراعي، لم تعد الأوضاع تحتمل المواقف الرمادية. فالحق ناصع البياض، والباطل سواده كالح، وما بينهما لا يصلح لهذه الأزمنة.

سيّدنا الراعي، أنتم الحق وأنتم تحدّدون البوصلة لخلاص الرعيّة. هذه هي قناعة المؤمنين في رعيّتكم. بالله عليكم لا تدعوا السفهاء بيننا يواصلون التحكم بمصيرنا ومستقبل أولادنا، بعدما جُرّبوا مرّتين وكان فشلهم كارثيًا، حتى أوصلوا البلاد الى جهنّم.

سيّدنا الراعي، أبناء رعيّتك وجميع اللبنانيين الشرفاء، يشدّون على أيديكم لانتشال لبنان من المستنقع الذي أغرقوه مع محورهم فيه. فمن أعطي له مجد لبنان مسؤول عن انتشاله من أزماته. مهمتكم صعبة لكنها غير مستحيلة، وكما انتشلت بكركي يومًا لبنان من فم الأسد نأمل ان تنجحوا قريبًا في انتشاله من بين مخالب الفرس ومشروعهم الانقضاضي على بيروت وما تمكنوا من عواصم عربية حرّة، لمصلحة ثورتهم المدمّرة التي عممت الحروب والدمار والفقر والجهل على شعوب المنطقة. إنه قدر بطاركة لبنان العظماء، وانتم بالتأكيد واحد منهم.

في الختام: سيّنا الراعي، لا تغفروا لهم مهما ادّعوا التوبة، لأنهم مخادعون يدرون ماذا يفعلون.