المنطقة يُعاد تأسيسها بـ “الحديد والنار” حرب بلا حدود

المنطقة يُعاد تأسيسها بـ “الحديد والنار” حرب بلا حدود

الكاتب: جوزيف حبيب | المصدر: نداء الوطن
16 حزيران 2025

إنها حرب بلا حدود تنحَتُ بـ “الحديد والنار” ملامح الشرق الأوسط قيد التشييد. بعدما لامست الأمواج الأولى لـ “طوفان الأقصى” غلاف غزة موجّهة صفعة مؤلمة لإسرائيل بالذراع “الحمساوي”، حوّلت الدولة اليهودية بتخطيطها وتفوّقها التكنولوجي ودعم “العم سام”، تدفق تلك الأمواج بالذات نحو الأذرع الإيرانية ليصل الطوفان في النهاية إلى رأس “محور الممانعة”، فأغرق “العمق الإيراني” وحاصر حكّام طهران. تعلم إسرائيل أن هذه الحرب مكلفة جدّاً على جبهتها الداخلية، وبدأت تتذوّق مرارتها، لكنها اختارت في حساباتها الجيوسياسية الذهاب بعيداً اليوم بدل دفع أكلاف مضاعفة غداً أو التسليم بـ “إيران نووية”.تتهاوى “الخطوط الحمر” بين تل أبيب وطهران شيئاً فشيئاً مع استعار تبادل الضربات، وترتفع معها احتمالات خروج المواجهة المفتوحة عن السيطرة أكثر وتدحرجها إلى حرب شاملة لا أحد يستطيع التكهّن بمدّتها أو نطاقها أو تداعياتها.

يُكرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعث رسائل علانية لقادة طهران، يعرض فيها عليهم “فرصة ثانية” لتسوية نووية بشروطه الصارمة وإلّا استمرار تكبّدهم فاتورة باهظة ستضعف نظامهم الهَرِم وتستنزفه، وعندها سيوقّعون مرغمين مع الوقت على صفقة بشروط أصعب أو سينزلقون بالجمهورية الإسلامية في مسار التفكّك والانهيار. لا يريد ترامب توسّع “المنازلة” المحتدمة نحو حرب شاملة سترفع أسعار النفط عالمياً وقد تفرض تدخلاً أميركياً هو بغنى عنه. ومع ذلك، يبدو أن الرئيس الجمهوري راض بما تحققه إسرائيل. الوسطاء وفاعلو الخير كُثر، من سلطنة عُمان ودول خليجية أخرى إلى قبرص وبلدان طامحة لدخول “نادي صنّاع السلام”. المَخرج متوفّر، بيد أنه مذلّ للغاية لصورة الملالي، المتصدّعة أصلاً، داخلياً وخارجياً على السواء. كان من المفترض أن تنعقد “الجولة السادسة” للمحادثات النووية بين واشنطن وطهران في مسقط أمس الأحد، لكنها أُجّلت حتى إشعار آخر، وربّما ذهبت أدراج الرياح.

تمعِن إسرائيل في ضرب مواقع ومنشآت نووية وعسكرية وأمنية وطاقوية… داخل إيران، حيث أضحت المقاتلات الإسرائيلية تسرح وتمرح في أجواء البلاد بحرّية مطلقة، ووصل مدى ضرباتها إلى مطار مشهد في شمال شرق البلاد، علماً أن خلايا “الموساد” ما زالت فعّالة على الأرض وتؤدّي مهامَّ استخباراتية تخريبية نوعية، تربك مراكز القيادة والسيطرة وتضرب القدرات الدفاعية والهجومية للجيش و”الحرس الثوري” الإيرانيَّيْن. في المقابل، تردّ إيران بإطلاق دفعات من الصواريخ والطائرات المسيّرة، وصل بعضها، خصوصاً الصواريخ، إلى الداخل الإسرائيلي، وتسبّب بأضرار جسيمة لم يشهد الإسرائيليون مثيلاً لها سابقاً. عندما نقارن حجم الخسائر وتأثيرها ونتائجها بين البلدين، يظهر أن إيران تتوجّع أكثر من عدوّتها اللدود إسرائيل.

لكن ماذا لو تمكّن صاروخ إيراني واحد من إصابة منشأة نووية أو كيماوية أو غيرها من المواقع الحساسة في إسرائيل وألحق بها خسائر بشرية فادحة؟ كيف ستردّ تل أبيب المسلّحة نووياً؟ وهل ستدخل الولايات المتحدة الحرب بشكل مباشر في مثل هكذا سيناريو؟ إن التصاعد في حدّة تبادل الضربات في الأيام وربّما الأسابيع المقبلة، وفشل “خراطيم الدبلوماسية” في إطفاء النيران المتوهّجة، سيُشرّعان الأبواب أمام دخول الولايات المتحدة الحرب، الأمر الذي سيُسرّع في حسمها. ستتفادى طهران إعطاء واشنطن حجّة دسمة لدخول الحرب ضدّها، فآخر ما ينقصها أن تُمطرها القاذفات الأميركية العملاقة بقنابل خارقة للتحصينات، إنما التقديرات الخاطئة وسط جنون التطورات الدراماتيكية واردة بقوّة.

رغم أن الأذرع الإيرانية غدت مشلولة أو معطوبة أو ملجومة، إلّا أنها قد تحاول مساعدة “الأخ الأكبر” قدر المستطاع. نسّق الحوثيون مع طهران استهداف إسرائيل بشكل متزامن، لكن تأثيرهم، الذي يعتبر مزعجاً لتل أبيب، على مجريات الحرب، يبقى محدوداً إلى حدّ كبير. تحرّرت سوريا من قبضة إيران وبَترت “الهلال الشيعي” الذي كان يربط طهران ببيروت، فيما أصبح “حزب الله” و”حماس” خارج “المعادلة الاستراتيجية”. تبقى عيون المراقبين شاخصة نحو الفصائل الولائية في العراق وما إذا كانت ستتحرّك ضدّ إسرائيل أو المصالح الأميركية بطلب من إيران. كما قد تلجأ “طهران الجريحة” إلى “خيارات انتحارية” إذا ما شعرت أنها تخسر “الكباش القاتل” على قاعدة “عليّ وعلى أعدائي”.

لم تركّز إسرائيل في استهدافاتها على البرنامجَين النووي والصاروخي الإيرانيَّيْن أو المواقع العسكرية فحسب، إنما وسّعت مروحة أهدافها في سعيها إلى تحريض الرأي العام ضدّ النظام وخلق ثغرات أمنية وحال من الفوضى العارمة وعدم اليقين، لتمهيد الطريق أمام معارضي الملالي للتحرّك ضدّهم متى توفّرت اللحظة المؤاتية، طالما أن هناك “تربة مجتمعية” مناوئة للنظام القائم. العداء بين الجمهورية الإسلامية والدولة اليهودية له أبعاد دينية وعقائدية تعطّل التفكير بمنطق “خيارات الحدّ الأدنى من الخسائر”، ما يدفع “العقل الإسرائيلي” للعمل على إسقاط النظام الذي يطمح إلى “إزالة إسرائيل من الوجود”. لهذا يستقصد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التوجّه إلى الإيرانيين بالقول إن نظامهم “عدوّ مشترك” لهم ولإسرائيل. سقوط النظام الإيراني سيضع حدّاً لحروب ما بعد 7 أكتوبر ويُشيّد دعائم نظام إقليمي تكون إسرائيل في صلبه. “العرض القتالي” على أشدّه والمنطقة تحبس أنفاسها بانتظار الضوء في نهاية النفق الحالِك.