
خاص- مئة يوم الأشرفية… ذاكرة من نار لا تنطفئ
ليست الأشرفية مجرّد منطقة في بيروت، بل هي قلب نابض بتاريخ طويل من الشهادة والمقاومة، منذ أيام المجازر في جبل لبنان أواخر القرن التاسع عشر، مرورًا بثورة ١٩٣٦ ومآسي مجازر ١٨٦٠، حتى صارت في وجدان المسيحيين في لبنان رمزًا للكرامة المصلوبة على خشبة هذا الشرق المضطرب.
في مثل هذا اليوم، ١ تمّوز ١٩٧٨، كُتب فصل جديد من فصول العذاب المجيد: “حرب المئة يوم”. مئة يوم من الحصار والقصف، من الموت المقيم في كل زقاق، والدم الذي لم يجفّ عن الأرصفة. مئة يوم صمدت فيها الأشرفية، ليس لأنها أقوى من الحديد، بل لأنها أوفى من النسيان، أصدق من كل خطب السياسيين، وأنبل من كل صفقات الطاولات المغلقة.
حين بدأت المدافع السورية تدكّ بيوت الآمنين، لم يكن في الأحياء سوى الأهالي وبعض المقاتلين من أبناء الأرض. لم تكن معهم دولة، ولا طيران، ولا دبابات. كانت كل قوتهم تكمن في يقينهم بأنهم يدافعون عن وجودهم، عن حقهم بأن يكون لهم بيت لا يدخله جندي غريب، وكنيسة لا يُطفأ قنديلها.
على مدى قرن ونيّف، حملت الأشرفية أوجاع الموارنة في الشرق، كما حملتهم زحلة وعيون السيمان وبشري والحدث. لكنّ الحرب في صيف ١٩٧٨، حملت معنى جديدًا للبطولة: كان الأطفال يُدفنون تحت الردم، والكنائس تُقصف، والمستشفيات تُضرب عمدًا، ومع ذلك… بقي الناس في أرضهم.
من شرفات الأشرفية، في ذلك الصيف المجنون، كان الأطفال يراقبون السماء الحمراء، لا يعرفون إن كانت نارًا أم فجرًا قريبًا. وكانت الأمهات يحضنّ أبناءهنّ ويمشين نحو الملاجئ، وهنّ يصلّين للعذراء، لا للنجاة، بل للشهادة بكرامة.
تلك الحرب لم تكن معركة عسكرية فقط، بل محاولة سحق لهوية بأكملها. قيل إن دمشق أرادت “كسر رأس” المقاومة المسيحية. لكنها لم تفهم أن رأس الأشرفية ليس في السياسة، بل في تاريخها، في عناد جدّاتها، وفي صلوات قداديسها الفجرية.
وقف رجالٌ بسطاء، صيدليّون، معلّمون، شبّانٌ لم يبلغوا العشرين، على الجبهات، وكتبوا فصولًا من الشرف، سقطوا شهداء، لا لأنهم كانوا يطلبون الموت، بل لأنهم كانوا يدافعون عن الحياة.
وعندما انتهت حرب المئة يوم، لم تكن الأشرفية قد انتصرت عسكريًا فحسب، بل أخلاقيًا ووطنيًا، كتبت بدمها ما عجز عنه كثيرون بالكلام. خرجت القوات السورية من شوارعها، لكن آثار الجراح بقيت. وبقي صوت الركام يروي للأجيال كيف أن هذه المنطقة الصغيرة كانت وحدها جدارًا بوجه العاصفة.
اليوم، حين يمشي المرء في شوارعها الضيقة، يسمع تحت خطواته أنين الشهداء. الأشرفية ليست مجرد منطقة، إنها نشيدٌ معلّق على جدران الذاكرة اللبنانية. هي درسٌ في الصمود، في وقت خان فيه الكل، ووقفت وحدها تقول: “لن نغادر، ولن نستسلم”.
وهكذا، كما كانت في كل لحظة مفصلية من تاريخ لبنان، كانت الأشرفية مرّة أخرى، في ١٩٧٨، قديسة من لحم ودم، تحمل صليبها وتتابع السير، لا لأن النهاية قريبة، بل لأن الإيمان أقوى من الموت.