لماذا تحاول “الدولة العميقة” تقييد صوت المغترب اللبناني؟

لماذا تحاول “الدولة العميقة” تقييد صوت المغترب اللبناني؟

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
6 تموز 2025

المعركة مفتوحة بين قوى تخشى الحرية خارج نفوذها وكتل تتمسك بحق هؤلاء في إعادة التوازن داخل برلمان مأزوم

يواجه حق اقتراع المغتربين اللبنانيين محاولة تقييد واضحة من قبل بعض القوى السياسية التي تخشى من تأثير أصوات الخارج في التوازنات النيابية. فمنذ إقرار ستة مقاعد خاصة بالمغتربين، تحولت الدائرة 16 إلى أداة لضبط الصوت الحر ومنعه من قلب النتائج، خصوصاً بعدما أثبتت انتخابات عام 2022 أن الاغتراب رافعة حقيقية للتغيير. اليوم، مع اقتراب الاستحقاق النيابي، تتجدد محاولات فرض قيود قانونية وإجرائية أو التلويح بتطيير الاقتراع برمته، بينما يصر المؤيدون على ضمان تصويت المغتربين في دوائرهم الأصلية كسلاح لكسر القبضة الداخلية.

مع اقتراب كل استحقاق انتخابي في لبنان تعود قضية اقتراع المغتربين إلى الواجهة، لا كمجرد تفصيل انتخابي أو تقني، بل كعنوان سياسي يعكس جوهر معركة اللبنانيين مع “منظومة” تحارب للبقاء عبر التحكم بنتائج الانتخابات والحفاظ على “ستاتيكو” التوازنات السياسية، إذ تخشى بعض الأحزاب من فعالية أصوات المغتربين التي قد تلاقي التغيرات الإقليمية، بالتالي انعكاسها على أحجام وتوازنات الكتل النيابية.

مسألة اقتراع المغتربين في أماكن إقامتهم ليست قديمة في لبنان، فقد لحظت، للمرة الأولى عام 2008، عندما نص قانون الانتخاب رقم 25/2008 على حق كل لبناني غير مقيم على الأراضي اللبنانية بالاقتراع في السفارات والقنصليات اللبنانية حول العالم، على أن تبدأ هذه الممارسة “في الانتخابات النيابية العامة التي تلي انتخابات عام 2009”. لم تحصل انتخابات عام 2013، فقد مدد مجلس النواب لنفسه ثلاث مرات، حتى عام 2018، والانتخابات التي أجريت في ذلك العام لم تجر على أساس القانون المذكور بل على أساس قانون جديد يحمل الرقم 44/2017، ينظم اقتراع المغتربين حيث يوجدون، للمرة الأولى في تاريخ لبنان.

ومنذ إقرار قانون الانتخاب رقم 44/2017 الذي تبنى النسبية وتقسيم لبنان إلى 15 دائرة انتخابية، وضعت مادة “الدائرة الـ16” التي خصصت ستة مقاعد للمغتربين. بدت الخطوة آنذاك “مكسباً” للاغتراب، لكن تبين لاحقاً أنها أداة لتقزيم قدرته وتحجيم تأثيره الفعلي في مسار صناديق الاقتراع. فوفق المادة 122 من القانون، يضاف ستة نواب للاغتراب على أن يخفض لاحقاً عدد مقاعد الداخل بنسبة مساوية. غير أن التطبيق بقي ملتبساً وغامضاً، حتى تحولت هذه المقاعد إلى سلاح تشريعي بيد أحزاب تريد تجيير الصوت الخارجي لصالحها أو تجميده متى اقتضت مصالحها.

الأرقام تكشف الأحجام

حين صوت اللبنانيون غير المقيمين للمرة الأولى عام 2018، بدا المشهد متواضعاً، ونحو 90 ألفاً سجلوا أسماءهم، اقترع نصفهم فحسب، وحاز “التيار الوطني الحر” برئاسة جبران باسيل (صهر رئيس الجمهورية السابق ميشال عون) والقوى الطائفية التقليدية على الغالبية الساحقة من أصواتهم. بدا الأمر وكأن الخارج نسخة طبق الأصل عن الداخل.

لكن ما لم تنتبه إليه القوى التقليدية تغير جذرياً عام 2022. فقد سجل أكثر من 225 ألف مغترب أسماءهم، صوت منهم نحو 142 ألفاً، أي ثلاثة أضعاف النسبة السابقة. هذه الأرقام لم تكن تفصيلاً: بحسب دراسات عدة، صوت غير المقيمين بنسبة 34 في المئة للوائح التغييريين، بينما لم يحصل هؤلاء على أكثر من 11 في المئة داخل لبنان، كذلك ارتفع دعم حزب “القوات اللبنانية” برئاسة سمير جعجع، إلى 20 في المئة مقابل 10 في المئة في الداخل، وتراجع “حزب الله” إلى ثمانية في المئة مقابل 19 في المئة محلياً. وهذه الأرقام، وحدها، تشرح لماذا تحول المغترب من “رافد رمزي” إلى تهديد فعلي لمعادلات سيطرة القوى “الممانعة”.

يخافون صوت المغترب

ووفق الأحزاب المؤيدة لتصويت المغتربين في دوائرهم (أي القوات اللبنانية، وحزب الكتائب، والتغييريون) فإن جذور مشروع النواب الستة الذي يقف خلفه “الثنائي الشيعي” (حزب الله وحركة أمل)، تعود إلى عهد نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد الذي كان يمنع المغترب من المشاركة في الاقتراع داخل لبنان، لما يملكه الأخير من حرية التعبير والتصويت، ولم يكن يملك النظام السوري حينها قدرة التأثير فيه وممارسة الضغوط ترهيباً وترغيباً، إذ إن الاغتراب اللبناني لا يمكن ترويضه أو تهديده أو تدجينه أو ترغيبه أو شراء صوته.

ويعتبر هؤلاء أن “حزب الله” وحلفاءه يتقنون لعبة الداخل: الخدمات، النفوذ المباشر، الزبائنية، الضغوط، الترهيب أحياناً، لكنها أوراق محروقة في كندا وفرنسا وأستراليا وغيرها من دول العالم. فهناك يصوت اللبناني بحرية كاملة من دون رهبة أو تبعية، صوت حر، متفلت من قبضة “الزعيم” والحزب والسلاح، وهذا تحديداً ما تخشاه هذه القوى.

وبرأيهم، يدرك “الثنائي الشيعي” أن كتلة ناخبيه في الخارج أضعف من قدرته على تجييش الداخل. أكثر من ذلك، الدوائر الحساسة شيعياً مثل دائرة الجنوب الثانية، ودائرة الجنوب الثالثة، شهدت تسجيل أعداد من المغتربين توازي حواصل انتخابية كاملة. ففي الجنوب الثالثة وحدها، سجل نحو 22 ألف ناخب مغترب، والحاصل هناك بحدود 21 ألفاً. هذه الأرقام كفيلة بتغيير نتائج اللائحة كلها إذا ما صوت المغترب بحرية كاملة خارج سيطرة ماكينة الحزب. لهذا، صارت معركة تصويت المغتربين معركة بقاء رمزية لـ”الثنائي” وحلفائه.

العودة مستحيلة

في المقابل يرد خصوم التصويت في الخارج، أي “حزب الله” و”حركة أمل” و”التيار الوطني الحر”، بأن على المغتربين “العودة إلى الوطن” والتفاعل مع اللبنانيين أو البقاء في الخارج وإعطائهم نائباً لكل قارة. لكن أي منطق يقبل بأن يسافر مليون ونصف المليون مغترب خلال أسبوع؟ كيف سيتحمل مطار رفيق الحريري الدولي – بيروت وتسهيلات الإقامة والحركة هذا الضغط الهائل؟ وكيف يتوقع من مغترب في أستراليا أو كندا أن ينفق آلاف الدولارات ليقترع؟ الرد العملي قدمه لبنان نفسه: في عامي 2018 و2022 انتخب غير المقيمين في قنصلياتهم وسفاراتهم من دون عقبات تذكر.

حجة أخرى روج لها هؤلاء “لنؤمن تمثيل المغترب الخاص بقضايا الانتشار”، لكن السؤال المنطقي: من يحتاج إلى نائب قارة ليطالب باسمه بحقوقه في دولة مضيفة تحترم قوانين الإقامة والعمل؟ كيف سيحاسب ناخب في البرازيل نائباً ينتخب بدعم من بضعة آلاف من المقيمين في أميركا أو أفريقيا؟ كيف يراقب الإنفاق الإعلاني والانتخابي؟ أين هي رقابة هيئة الإشراف على انتخابات خارجية منقسمة على ست قارات؟ أسئلة بلا أجوبة، لأن صياغة الدائرة الـ16 ولدت أصلاً معطوبة.

مناشدة الرئيس

في هذا السياق أشارت رئيسة مؤسسة “بيت لبنان العالم” بيتي الهندي إلى أن هذا الحق تحول إلى ورقة ضغط يتقاسمها اللاعبون السياسيون، إذ يرى بعضهم فيه فرصة حقيقية لإعادة التوازن داخل البرلمان، بينما يتمسك آخرون بتحجيمه لمصلحة بقاء ميزان القوى على حاله. وبرأيها “فإن فكرة حشر مئات آلاف اللبنانيين المنتشرين حول العالم في دائرة مقفلة من ستة مقاعد هو إهانة مباشرة للاغتراب الذي أبقى هذا البلد واقفاً على قدميه حين تخلت عنه الدولة. نحن لسنا ديكوراً انتخابياً ولا غطاء عددياً لتلميع قانون مشوه. إذا كان هناك من يريد تمثيلاً حقيقياً للاغتراب، فليثبت ذلك عبر احترام حقنا في انتخاب كل مجلس النواب، من دون قيود ولا مقايضة”، وأضافت “القوى التي تملك القدرة على الترهيب والضغط داخل لبنان، تعلم جيداً أن هذه القدرة تسقط أمام حرية صوت المغترب، لذا يسعون إلى حصرنا وتقييدنا”، وشددت على ضرورة رفض دائرة المقاعد الستة، وضرورة تصويت المغترب في بلدته وبيئته وناخبيه الأصليين، لافتة إلى أن “هذه معركة هوية لا أرقام فقط”.

وناشدت رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي برأيها وصل إلى موقعه بأكبر “إنزال عربي – دولي” بسبب ضغط “لوبيات” الاغتراب لإيصال، منع إقصاء الصوت الاغترابي، كاشفة عن أن صوت الاغتراب غير معادلات في أكثر من دائرة عام 2022، حين أفرز كتلة من النواب التغييريين وأربك اصطفافات تقليدية، ومع احتمال ارتفاع أعداد المسجلين عام 2026 إلى أكثر من 300 ألف ناخب، تتحول مسألة مشاركة المغتربين من هامش تفصيلي إلى رافعة حقيقية تملك القدرة على خلط أوراق التوازنات وإدخال دم جديد إلى برلمان يسعى بعض الزعماء إلى إبقائه ملكية مغلقة.

ازدواجية موقف “الاشتراكي”

وفي وقت حسمت القوى السياسية موقفها حول “دائرة المغتربين”، لا يزال الموقف ضبابياً عند “الحزب التقدمي الاشتراكي”.

وشرح عالم الإحصاء اللبناني ومؤسس ومدير إحدى الشركات المتخصصة في استفتاء الآراء والبحوث ربيع الهبر أن “الحزب التقدمي الاشتراكي” غير مستفيد من تصويت الاغتراب “وأنه لن يصوت لمصلحة تصويت المغتربين، وإن وقف ظرفياً في موقع المؤيد، لكنه ينسق مع حليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري لتأمين النصاب القانوني للجلسات، لذا موقف الاشتراكي لن يخرج عن تأمين الغطاء الضمني لمعادلات الثنائي الشيعي”، وبرأي الهبر “هناك قوى كالقوات اللبنانية وحزب الكتائب ونواب التغيير يطالبون بوضوح بإلغاء المقاعد الستة المخصصة لغير المقيمين، معتبرين أن هذه المقاعد لا معنى حقيقياً لها أمام حق اللبناني بأن ينتخب كامل أعضاء المجلس النيابي وعددهم 128 نائباً، وهم سيستفيدون من تصويت الاغتراب لتعزيز حضورهم في الداخل”، ولفت إلى أن فكرة إضافة ستة مقاعد طائفية موزعة بين ماروني وكاثوليكي وأرثوذكسي وسني وشيعي ودرزي، مع ضمان المناصفة، تبدو نظرياً محاولة لضبط التوازن، لكنها عملياً تزيد التعقيد ولا تقدم حلاً جدياً، وأشار إلى أن الإشكال الأعمق يكمن في تفاصيل توزيع هؤلاء النواب على القارات وآليات تصويت كل جالية لأي طائفة، وهي تفاصيل بقيت حتى اللحظة مبهمة وقد يحاط بها بـ”فتاوى” تقنية لا تلغي الفوضى في الجوهر.

ثغرات خطرة

إلى جانب التجاذب السياسي الحاد حول حق اقتراع غير المقيمين، تبرز جوانب قانونية وإجرائية تهدد بتحويل هذا الحق إلى مادة تعطيل أو ورقة ضغط. وفي هذا الإطار، أكد الإعلامي جان نخول، المتخصص في متابعة ملف الانتخابات، أن خلفية السجال القائم هي سياسية بامتياز، مشيراً إلى أن القوانين والتشريعات في لبنان غالباً ما تستخدم لتأمين غايات القوى السياسية حين تشتد معارك النفوذ. ولفت إلى أن المادة 112 من قانون الانتخاب الحالي تنص بوضوح على تخصيص ستة مقاعد نيابية لغير المقيمين، تقسم بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، موزعة طائفياً بين ماروني وأرثوذكسي وكاثوليكي وسني وشيعي ودرزي، وبالتساوي بين القارات الست، إلا أن الإشكال الأكبر، كما أشار، يكمن في أن القانون لم يحدد آلية واضحة لتطبيق هذا البند على أرض الواقع.

وبيَّن نخول أنه لا إجابة حتى اللحظة عن تساؤلات جوهرية تتعلق بكيفية توزيع هذه المقاعد بين دول القارات، وهل يلتزم النواب الستة الإقامة في لبنان أم يمثلون الاغتراب من الخارج؟ وفي هذه الحال كيف سيتاح لهم المشاركة في الجلسات النيابية ولجانها؟ والأخطر، وفق ما لفت إليه، أن التصويت الإلكتروني داخل مجلس النواب غير مفعل أصلاً، إذ إن القانون الحالي لا يزال يشترط التصويت برفع الأيدي، مما يطرح معضلة عملية حقيقية أمام حضور النواب المغتربين من الخارج إذا لم يقيموا في الداخل. وأشار إلى أن هذه المقاعد الستة تضاف إلى عدد نواب المجلس ليصبح 134 نائباً في الدورة التالية، ثم يعود العدد إلى 128 نائباً بحذف ستة مقاعد من المقاعد الأصلية بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، بحسب المادة 122 من القانون. وهنا يطرح السؤال نفسه: ما المقاعد التي ستلغى؟ وأي معايير ستعتمد لتحديدها من دون الإخلال بالتوازن الطائفي القائم؟

وأوضح نخول أن القانون لم يضع أي نص حول تحديد الحواصل الانتخابية في الخارج، محذراً من أن ضعف الإقبال على التسجيل قد يسمح بربح مقعد بأصوات ضئيلة جداً مقارنة بمتوسط الحواصل في الدوائر الداخلية، “وهو ما يعد عنصراً إضافياً لعدم العدالة. وأمام مجلس النواب فترة زمنية محدودة لا تتجاوز ثلاثة أشهر لتعديل هذه المواد ووضع آلية تطبيقية واضحة للدائرة الـ16″، مشيراً إلى أن غياب الإرادة السياسية الكافية سيجعل من الصعب التوصل إلى حل متوازن وفعال. وحذر من أن استمرار التعثر قد يستخدم ذريعة من بعض القوى لتطيير الانتخابات النيابية برمتها أو تأجيلها، على رغم تأكيد العهد الجديد التزام الاستحقاقات في مواعيدها كما حصل في الانتخابات البلدية.

وكشف نخول عن “أن من بين السيناريوهات المطروحة داخل بعض اللجان النيابية، فكرة تعليق العمل بالبند الخاص باقتراع غير المقيمين بالكامل، بحيث يمنع على المغتربين التصويت ما لم يسافروا إلى لبنان بأنفسهم، وهو ما يخلق تفاوتاً فاضحاً بين الأحزاب القادرة على تأمين سفر ناخبيها والأحزاب أو المرشحين المستقلين العاجزين عن ذلك”، وختم نخول مؤكداً أن “المزاج العام للمغتربين يعتبر بطبيعته مناقضاً للخط السياسي الذي يمثله التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي”، مرجحاً ألا يتبدل هذا التوجه في ظل الظروف الحالية، غير أنه شدد على أن نتائج التصويت تبقى رهينة الجو العام الذي يسبق الانتخابات بأشهر قليلة، معتبراً أن من المستحيل حسم مدى تغير الكتل وتوازناتها قبل اتضاح الصورة الميدانية والسياسية بالكامل.