
التخلف عن السداد: جريمة يدفع ثمنها المودعون إلى اليوم
كما تُفلس الدول، تفقد الشعوب مدخراتها… فالتخلف عن السداد ليس مجرد قرار مالي، بل زلزال يضرب الثقة ويكسر العمود الفقري لأيّ نظام نقدي حول العالم.
هذا ما حدث في لبنان، حين أعلنت حكومة الرئيس حسان دياب في شهر آذار من العام 2020، التخلّف عن سداد سندات “اليوروبوند”. يومها ظنّ كثيرون أنّ الدولة “تتمرّد” على “نظام مالي جائر”، فإذا بها تدفع بالبلد نحو هاوية بلا قرار.
كانت الليرة تتماسك بشقّ النفس. سعر صرف الدولار في حينه كان يدور حول 2000 ليرة لبنانية لمن يذكر، بينما الشيكات المصرفية كانت تُصرف بما يقارب 80 % من قيمتها بالدولار النقدي. لكن بعد إعلان التخلف، انهار كل شيء: انهارت العملة. تهاوت الشيكات إلى 20 % أو أقل من قيمتها الحقيقية. طارت الثقة. دُفنت السيولة… والخاسر الوحيد؟ المودع.
المودع الذي لم يقرّر. لم يشارك في أيّ سياسة نقدية. لم يصوّت لصالح الإفلاس. لكن وحده مَن تحمّل النتائج، سواء حفظ أمواله بالليرة أو بالدولار، انتهى به المطاف إلى الضياع. الدولة كانت تملك خيارًا آخر . لم يكن من الضروري إعلان الإفلاس. لم يكن الوقت مناسبًا. لم يكن الظرف ملائمًا. لكنّ القرار كان سياسيًا بامتياز.
الجهات التي قادت حكومة دياب، أي “حزب الله”، و”حركة أمل”، و”التيار الوطني الحر”. كلها أصرت على التخلّف عن السداد. وجدت هذه الجهات في قرار الحكومة “لحظة استعراض”، مدعومة من مجموعات تخفي نوايا مبيّتة، مثل جمعية “كلنا إرادة” والإعلام المدعوم من جماعة جورج سوروس.
تجاهلت الحكومة التحذيرات. تجاهلت معارضة الحاكم رياض سلامة في حينه. بل تجاهلت رفض المصارف. قرّرت وسارت… ثم حاولت التبرؤ من النتائج. وحين بدأت العاصفة، بدل أن تواجه الرأي العام بالحقيقة، بحثت عن خصمٍ وهميّ.
صوّبت النار نحو مصرف لبنان، والمصارف. استعانت بالإعلام، كما استعانت بالقضاء. استُخدمت القاضية غادة عون كأداة لتوجيه الشكاوى ورمي التُهم جزافاً بلا أدلة. واليوم بدأت النتائج بالظهور: دعاوى فارغة حملت وعودًا خاوية باستعادة الودائع.
في حينه، وُكّل أحد المحامين في “التيار الوطني الحرّ”، بمهمّة “ضخ” الأخبار والأكاذيب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت الحملة: “الهندسات المالية في 2010 و2015 هي السبب”. “العمولات هي أصل الأزمة”. “تثبيت سعر الصرف هو لبّ المشكلة” حملة محبوكة وشعارات لاقت آذانًا يائسة… فصدّقها الناس.
لكنّ كل شيء بدأ يتفكك اليوم ويظهر، خصوصاً حينما بدأت الحقائق تتكشّف. من رتّب الحملة؟ من خطّط؟ من استفاد؟ من صرف أموال المودعين ثم رفض الاعتراف بها؟ الكل يعرف اليوم: المنظومة السياسية التي رفضت الإصلاح، ورفضت وقف العجز، وأصرّت على عدم تعديل تعرفة الكهرباء، وفضّلت زيادة رواتب القطاع العام في 2017 فقط من أجل كسب انتخابات العام 2018… فما كانت كلفة كل هذا؟
20 مليار دولار كلفة التخلف عن سداد تحمّلها المودعون. وإذا أضفنا الخسائر في قطاع الكهرباء (نحو 20 مليارًا أخرى) والدعم الشعبوي (قرابة 11 مليارًا) الذي قررته حكومة دياب، نصل إلى 50 مليار دولار وربما أكثر. لكن برغم ذلك، لا اعتراف ولا مسؤولية.
المطلوب اليوم واضح. على الدولة أن تسدّد ما عليها لمصرف لبنان. هذا هو الحد الأدنى من العدالة للمودعين. قبل أيّ دفعة لحملة سندات “اليوروبوند”، أو قبل أي تسوية مع الخارج. فالأزمة بدأت منذ ست سنوات، والقرارات الوحيدة التي خفّفت آثارها هي التعاميم خلال وبعد عهد رياض سلامة، التي يُستكمل العمل فيها إلى اليوم وبالأدوات نفسها، أملاً بمنع انهيار ما تبقى من القطاع المصرفي.
صمد النظام النقدي بشق الأنفاس، وبرغم كورونا، وانفجار المرفأ، والحروب، وكذلك برغم الفراغ الحكومي والرئاسي لأكثر من سنتين. عدم إفلاس المصارف إلى اليوم أنقذ ما تبقى من أموال للمودعين.
الصورة باتت أوضح الآن: فقدان السيولة وانهيار العملة سببهما القرار السياسي بالتخلف، لا مصرف لبنان، ولا المصارف. وبفضل عدم إفلاس المصارف استطاع المودعون الوصول إلى جزء من أموالهم. ولو بالحدّ الأدنى اليوم.
لكن المأساة مستمرة. أكثر من 35 مليار دولار تبخّرت من ودائع الناس نتيجة الإصرار على دفع القروض على سعر الصرف الوهمي 1500 ليرة الذي أصرت عليه السلطة (برلمان وحكومات متعاقبة).
اليوم القطاع المصرفي ينتظر خطة حكومية جدّية. ورئيس الحكومة لا يزال يَعِد بألّا تُمسّ الودائع. لكنّ الوعد وحده لا يكفي. المطلوب إقران الكلام بالقرارات.
المطلوب محاسبة من اختار الإفلاس، لا من حاول تفاديه.