تل أبيب ودمشق في ضيافة باريس: من الجنوب السوري تبدأ التحوّلات؟

تل أبيب ودمشق في ضيافة باريس: من الجنوب السوري تبدأ التحوّلات؟

الكاتب: اندريه مهاوج | المصدر: نداء الوطن
26 تموز 2025

في سابقة دبلوماسية هي الأولى من نوعها منذ أكثر من عقدين، احتضنت العاصمة الفرنسية باريس اجتماعًا نادرًا جمع بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، المقرّب من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وذلك برعاية مباشرة من المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم برّاك.

اللقاء الذي استمرّ قرابة أربع ساعات جرى في أجواء وصفتها مصادر مطّلعة بأنها “جدّية وصريحة”، وركّز على التهدئة في جنوب سوريا، خصوصًا في محافظة السويداء التي شهدت في الأسابيع الأخيرة تصعيدًا خطرًا، تخلّلته اشتباكات طائفية وعشائرية، وأعمال عنف دامية أودت بحياة المئات.

الاجتماع جاء تتويجًا لشهور من اللقاءات السرّية التي جرت عبر وسطاء إقليميين، أبرزهم الإمارات وأذربيجان، وهدفت إلى احتواء التدهور الأمني في الجنوب السوري ومنع انزلاق المنطقة إلى صدام شامل قد يتجاوز الحدود السورية. إسرائيل، التي تنظر بقلق إلى تعاظم النفوذ الإيراني وتواجد ميليشيات حليفة لطهران قرب الجولان، أبدت استعدادها للتعاون مع السلطات السورية الجديدة شريطة الحدّ من هذا التمدّد.

من جانبها، تسعى الحكومة السورية برئاسة أحمد الشرع إلى طي صفحة العزلة الإقليمية والدولية، وفتح قنوات اتصال غير مباشرة مع خصوم الأمس، في مقدّمتهم إسرائيل، من خلال وساطات أميركية وفرنسية، تمهيدًا لترتيب داخلي يسمح بإعادة البناء وتخفيف العقوبات الدولية.

ووفق ما تسرّب من فحوى الاجتماع، فإن الأطراف توصّلت إلى تفاهمات أولية مبدئية تتضمّن: تشكيل لجان أمن محلّية في السويداء تحت إشراف أميركي غير مباشر، وانسحاب المجموعات المسلّحة والأجهزة الأمنية من القرى الدرزية، والسماح فقط للوكالات الدولية والإنسانية بالعمل في المحافظة، مع تجميد أي نشاط حكومي مباشر، ومنع انتشار المجموعات المسلّحة المقرّبة من إيران في مناطق الجنوب السوري.

وبحسب تصريحات المبعوث الأميركي برّاك، فإن الطرفين أبديا “التزامًا واضحًا بمواصلة الحوار”، معتبرًا أنه “حققنا اليوم ما كنا نأمل به: وقف للتصعيد، وخطوة نحو تفاهم طويل الأمد”.

أفق سياسي مفتوح… ولكن مشروط

هذا الاجتماع، وإن اقتصر رسميًا على ملفات أمنية، إلّا أنه يُنظر إليه على أنه فاتحة لمسار سياسي جديد قد يغيّر شكل العلاقة بين سوريا وإسرائيل في مرحلة ما بعد الأسد. فحكومة الشرع، التي تسعى إلى إعادة سوريا إلى الحظيرة الدولية، تبدو منفتحة على نقاشات تشمل مستقبل الجولان، وإمكانية الانضمام إلى مبادرات تطبيع إقليمية، شرط انسحاب إسرائيلي تدريجي من المناطق المحتلّة، وضمانات دولية لسيادة سوريا. من ناحيتها، ترى إسرائيل الاجتماع فرصة لإعادة هندسة البيئة الأمنية في خاصرتها الشمالية، من خلال تحييد إيران عسكريًا ودبلوماسيًا، وتثبيت ترتيبات تهدئة طويلة الأمد في الجولان، خصوصًا في ظلّ انشغال العالم بتوازنات جديدة في الشرق الأوسط.

تحدّيات واستحقاقات مقبلة

رغم ما تحمله هذه التطورات من مؤشرات إيجابية، إلّا أن الطريق ما زال طويلاً. فهناك معارضة داخل سوريا ترفض أي شكل من أشكال التقارب مع إسرائيل، وترى في الحوار معها “خيانة وطنية”. كما أن القيادة الإسرائيلية نفسها منقسمة بين من يفضّل استثمار الفرصة، ومن يخشى أن تكون مناورة سورية موَقتة.

مع ذلك، فإن ما حدث في باريس قد يكون بداية نهاية عقود من القطيعة السياسية والتوترات العسكرية بين دمشق وتل أبيب. فالمصالح الأمنية المشتركة، والحاجة إلى الاستقرار، وضغط اللاعبين الدوليين، قد تدفع في اتجاه صياغة واقع جديد، يُكتب على هوامشه: “هنا بدأت أوّل محاولة حقيقية لتجاوز العداء”.

قراءة مستقبلية

يمكن القول إن اجتماع باريس لم يكن نهاية مسار التفاوض، بل بداية مرحلة جديدة من “إدارة التوتر” بوسائل أكثر عقلانية، مدفوعة بتغيّر المعادلات المحلّية والدولية. فبقدر ما يعكس اللقاء رغبة في تهدئة الجبهة الجنوبية، فإنه يؤشر إلى أن الشرق الأوسط ما بعد 2025 يتجه نحو إعادة رسم حدوده السياسية والرمزية، ليس بالحروب، بل بتفاهمات مرنة تستجيب لمصالح القوى الكبرى وضرورات البقاء.

يبقى السؤال: هل تسير سوريا نحو انخراط دبلوماسي يبدّل موقعها التقليدي في معسكر “الممانعة”؟ أم أن الواقعية السياسية التي فرضت لقاء باريس ستصطدم بجدار الداخل السوري والإسرائيلي وتتحوّل إلى هدنة موَقتة سرعان ما تنهار؟ الأسابيع والأشهر المقبلة كفيلة بكشف الاتجاه.