
حين يُصبح السلاح دينًا والدولة بدعة
حين يقرر طرف سياسي أن يكتب رسالته باسم الله، ويُدخل اللاهوت في السجال، يصبح الردّ واجبًا لا على المستوى السياسي فحسب، بل على مستوى الحقيقة الدينية والتاريخية والوطنية. وحين يوضع سلاح “حزب الله” على منبر ديني، ويُلبس قداسة تفوق قداسة الوطن، تصبح المواجهة مع هذا المنطق فعل إيمان بالدولة، لا خصومة مع طائفة.
في بيانه الأخير، يتوجه الشيخ أحمد قبلان إلى البطريرك الراعي، لا بصفته الدينية، بل كمن يرفع إنذارًا للبنان بأكمله، وبمضمون واضح: أن سلاح “حزب الله” هو سلاح الله، وأنه غير قابل للنقاش، وأن الشيعة تعني “حزب الله”، ومن يعارض ذلك، فهو ضد الله، وضد المسيح، وضد المظلومين، وضد كل الأنبياء. بهذا الخطاب، يحشر الوطن في زاوية السلاح، والطائفة في زاوية “الحزب”، والدين في زاوية الأدلجة. ويُختصر لبنان، هذا البلد المتعدد الذي بُني على الميثاق والدستور والمؤسسات، ليصبح ملحقًا بميليشيا ترى في نفسها مصدر شرعية، وفي سلاحها قَسَم وجود، وفي كل من يخالفها خائنًا أو صهيونيًا.
لكن حين يُقال إن قرار الحرب والسلم لا يصدر عن الحكومة، بل عن “مصالح الكيان”، فهذه دعوة صريحة لإلغاء الدولة. حين يُقال إن لا شرعية فوق “شرعية السلاح”، فهذا إسقاط لكل مبدأ دستوري. حين يُقال إن من يعارض السلاح يخون لبنان، فهذه عودة إلى منطق التخوين الذي عانى منه اللبنانيون طويلاً من اتفاق القاهرة مرورًا بالاحتلال السوري وصولًا إلى الهيمنة الإيرانية.
ويستحق التوقف عند الإقحام المتعمد لتاريخ المسيحية والمسيح في تبرير مشروع سياسي – عسكري. يُكثر الشيخ قبلان من الإحالات الدينية، فيستهل خطابه بـ “السلام ذخيرة الأنبياء”، ويختمه بتحويل المقاومة إلى وصية أنبياء، و”سلاح الأنبياء في هذا الزمان”. وفي ذلك خلط مقصود بين ما هو ديني وما هو سياسي، يُفرّغ الرسالات السماوية من جوهرها، ليُلبس مشروعًا عسكريًا غطاءً إلهيًا لا يُمسّ. فالمسيح لم يرفع السلاح يومًا، ولم يدعُ إلى حمله، بل قال: “ردّ سيفك إلى غمده، لأن كل الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون”. وهو نفسه الذي قال “مملكتي ليست من هذا العالم”. لا في الإنجيل ما يبرر تحويل السلاح إلى عقيدة، ولا في أي من كتب الوحي السماوي ما يشرّع قسر الآخر على بيعة دينية سياسية بقوة السلاح.
إن استخدام اسم السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري كرمزين نهائيين للهوية الشيعية هو إلغاء موصوف لكل التنوع داخل هذه الطائفة، ولكل من يعارض من داخلها هذا المشروع، سواء من رجال دين أو مفكرين أو نشطاء أو أهالي ضحايا سقطوا بلا معنى. لم تُخلق طائفة كي يُختزل تاريخها بقيادتين سياسيتين، ولم يولد الشيعة كي يكونوا فقط جنودًا في “جيش المهدي”.
من هنا، لا بد من التذكير بوصايا الإمام محمد مهدي شمس الدين، أحد أبرز أعلام الفكر الشيعي المستنير، الذي دعا الشيعة إلى الاندماج في أوطانهم لا الانعزال عنها، وحذّر من أن تتحول المقاومة إلى مشروع سياسي داخلي للاستئثار أو التخويف أو التخوين. أكد الإمام أن المقاومة لا تختزل ببندقية، ولا تنحصر بطائفة، بل هي فعل وطني مدني جامع، ورفض أن تُستعمل رموز الإسلام – كالحسين وكربلاء – لتبرير العنف والانقسام. وكان يرى أن مذهب أهل البيت قام على الحق والعدل والسلم، وأن الدولة، لا أي جماعة مسلحة، هي التعبير الأعلى عن الشراكة الوطنية. لم يرَ الإمام شمس الدين أي شرعية لعسكرة الطائفة، ولا لأي مشروع سياسي يستخدم السلاح لإلغاء الآخر، أو يصوّر نفسه وكيلًا لله على الأرض.
إن من يعتبر أن “حزب الله” هو الشيعة، وأن الشيعة هم المقاومة، وأن المقاومة وحدها تحفظ الوطن، يُقصي كل من ليس في صفّه من الطائفة، ويُحوّل الانتماء الوطني إلى بيعة دينية، والانتماء الشيعي إلى مبايعة سياسية. وهذا، قبل أن يكون خطأً سياسيًا، هو تحقير للطائفة الشيعية التي قدّمت، كما غيرها، شهداء لبناء الدولة، لا لهدمها.
ثم إن تصوير إسرائيل على أنها العدو التاريخي للمسيح والمسيحية، لا يخدم إلا خطابًا مملوءًا بالكراهية والتحريض الطائفي، ويُسيء للرسالة المسيحية ذاتها التي دعت إلى المحبة والغفران والمصالحة، وليس إلى الاستقواء بالسلاح ولا إلى تأليه العنف. أما القول إن “من يعارض سلاح “حزب الله” يعارض المقاومة، ومن يعارض المقاومة يعارض الله”، فهو أخطر ما في هذا الخطاب. فبهذا المنطق، يُحوَّل أي خلاف سياسي إلى كفر، وأي نقاش إلى خيانة. وكأن اللبنانيين ممنوعون من التفكير، وممنوعون من المحاسبة، وممنوعون من المطالبة بدولة واحدة وجيش واحد وقرار واحد.
على كل حال، ليست هذه المرة الأولى التي تُواجه فيها الأصوات السيادية بسيل من التخوين. نستذكر حين صدر نداء المطارنة الموارنة في 20 أيلول 2000، حيث قيل إنه موجه ضد المقاومة. لكنه لم يكن كذلك. كان دعوة صريحة لاستعادة الدولة. انتهى الاحتلال الإسرائيلي حينها، وكان الوقت مناسبًا لعودة الدولة إلى الجنوب. لكن بقي الاحتلال السوري، وبقي السلاح خارج الشرعية. ثم جاءت 14 آذار، وسقط الاحتلال السوري، وبقي السلاح نفسه. تغيّرت الظروف، وتبدّلت الأحلاف، وتفرّق اللبنانيون، وبقي السلاح نفسه.
اليوم، وبعد جلسة الحكومة في 5 آب وصدور تأكيد رسمي في 7 آب على نزع السلاح وتثبيت وقف إطلاق النار، باتت المعادلة السيادية في لبنان على المحك. فهل يُكتب بيان جديد من رحم المؤسسات، لا من منابر الفتاوى؟ وهل تعود الكلمة إلى الدولة، لا إلى الوكلاء؟ إن جوهر كل الرسالات السماوية، وكل التجارب الديمقراطية، وكل الميثاقيات الوطنية، يبدأ من كلمة واحدة: لا سلاح خارج الدولة.