خطة تدريجيّة لحصر السلاح بدعم خبراتٍ أجنبية: امتحانُ السيادة

خطة تدريجيّة لحصر السلاح بدعم خبراتٍ أجنبية: امتحانُ السيادة

الكاتب: بتول يزبك | المصدر: المدن
17 آب 2025

في 5 من آب الجاري، اتّخذت الحكومة اللّبنانيّة قرارًا غير اعتياديٍّ: كلّفت قيادة الجيش وضع تصوّرٍ عمليٍّ لحصر السّلاح بيد الدّولة ونزع سلاح جميع التّشكيلات المسلّحة غير الحكوميّة، وفي مقدّمها “حزب الله”. القرار، وإن بدا تقنيًّا، يحمل في طيّاته اختبارًا سياسيًّا وسياديًّا هو الأبرز منذ نهاية الحرب الأهليّة. فبين مقاربةٍ أميركيّةٍ تطلب الحسم السّريع قبل نهاية العام، ومقاربةٍ لبنانيّةٍ “تدرّجيّةٍ” تشترط المعاملة بالمثل وتجنّب الصّدام الدّاخليّ، يمضي الجيش لصياغة مسارٍ يعرض مطلع أيلول، فيما تعهّد “حزب الله” صراحةً برفض القرار واعتباره “رضوخًا لإملاءاتٍ خارجيّةٍ”.
التّكليف الحكوميّ يمنح الجيش مهمّة إعداد خطّة انتشارٍ تدريجيٍّ تضبط كلّ سلاحٍ خارج إطار الدّولة، على أن تبقى المصادقة السّياسيّة شرطًا مسبقًا للتّنفيذ. وأفادت مصادر مطّلعةٌ في حديث إلى “المدن” أنّ “سلطة التّنفيذ تقع على عاتق الجيش: إعداد الخطّة، والانتشار، ومراقبة الحواجز، وتسلم الأسلحة وتفكيكها، ورفع تقاريرٍ دوريّةٍ؛ أمّا القرار النّهائيّ فيظلّ لدى مجلس الوزراء، ويدار بحوارٍ تقوده رئاسة المجلس والرّئيس جوزاف عون مع مختلف الأطراف، بينها “حزب الله”، لتأمين سقفٍ توافقيٍّ يمنع الصّدام”. بهذه المعادلة، يراد للجيش أن يكون الذّراع المهنيّة لخيارٍ سياسيٍّ قيد التّشكّل، لا طرفًا في نزاعٍ داخليٍّ.

الصّيغة اللّبنانيّة” في مواجهة المقترح الأميركيّ
تنطلق الحكومة من “مقاربةٍ لبنانيّةٍ” تميّز نفسها عن طرح المبعوث الأميركيّ توم باراك، الدّاعي إلى نزعٍ فوريٍّ وكاملٍ لسلاح “حزب الله” وفق أربع مراحل تنتهي بحلول 31 كانون 2025، مقابل التزاماتٍ إسرائيليّةٍ واضحةٍ. في المقابل، تربط الخطّة اللّبنانيّة أيّ تقدّمٍ بإجراءاتٍ متبادلةٍ لضمان الاستقرار جنوبًا، وتتمسّك بتدرّجٍ جغرافيٍّ وزمنيٍّ يقلّص كلفة الاحتكاك الدّاخليّ. وأضافت المصادر أنّ “الفارق بين المسارين يتعلّق بالإيقاع والتّسلسل لا بالهدف؛ الصّيغة اللّبنانيّة تدار بجرعاتٍ محسوبةٍ وتحت سقف تفاهماتٍ محلّيّةٍ، مع إبقاء مسار المعاملة بالمثل على الحدود عاملًا حاسمًا”.

مراحل التّنفيذ: من النّهر إلى العاصمة فالبقاع
تشي المعلومات المتداولة بأنّ الخطّة توزّع العمل على ثلاث مراحل متتابعةٍ:
• الأولى: توسيع الانتشار شمال اللّيطانيّ حتّى نهر الأوّليّ (شمال صيدا) لإقامة عازلٍ إضافيٍّ بين الحدود والضّاحية. تستكمل إزالة المواقع غير الشّرعيّة وتنشأ نقاط مراقبةٍ وحواجز ثابتةٌ.

• الثّانية: بيروت الكبرى وجبل لبنان. وهي الأكثر حساسيّةً: ضبط حمل السّلاح داخل العاصمة ومخيّماتها عبر تفتيش مخازن محتملةٍ ومصادرة الأسلحة الثّقيلة والخطرة، بالاستناد إلى ترتيباتٍ قانونيّةٍ استثنائيّةٍ بالتّنسيق مع القضاء.

• الثّالثة: البقاع والشّمال حتّى الحدود الشرقيّة. هنا يتقدّم ملفّ ضبط التّهريب وإقفال خطوط الإمداد بالتّوازي مع حوارٍ أمنيٍّ–دبلوماسيٍّ مع دمشق واستكمال ترسيم الحدود.

ولكي لا تبقى العناوين عامّةً، تحدّد الخطّة مؤشّرات أداءٍ (KPIs) لكلّ مرحلةٍ: عدد المخازن المصادرة، كميّة الأسلحة المسلّمة طوعًا أو المضبوطة قسرًا، اتّساع رقعة المناطق الخالية من المظاهر المسلّحة، عدد الدّوريات والنّقاط المستحدثة، وانخفاض الحوادث المرتبطة بالسّلاح غير الشّرعيّ. وأشارت المصادر إلى أنّ “هذه المؤشّرات ليست تجميليّةً؛ ستستخدم لقياس التّقدّم ميدانيًّا، ولإقناع المجتمع الدّوليّ بأنّ المسار جدّيٌّ ويستحقّ التّمويل المستدام”.

الزّمن السّياسيّ والزّمن الميدانيّ
نظريًّا، تعرض الخطّة بحلول 31 آب، وتتحرّك على جدولٍ سريعٍ يمتدّ من إقرارٍ وزاريٍّ خلال النّصف الأوّل من أيلول، إلى بدء نزع السّلاح الثّقيل وتوسيع مواقع الجيش في تشرين الأوّل، ثمّ الانتقال شمال اللّيطانيّ في تشرين الثّاني، فاستكمال النّزع قبل نهاية كانون الأوّل. وتضيف المصادر أنّ “هذه روزنامةٌ معياريّةٌ منصوصٌ عليها في المذكّرات، لكنّ التّنفيذ الفعليّ سيتحدّد بمدى توافر الغطاء السّياسيّ والإمكانات اللّوجستيّة وسرعة التّمويل”.

فاتورة الدّولة… و”اقتصاد” الأمن
تقدّر رئاسة الجمهوريّة وقيادة الجيش الحاجة إلى مليار دولارٍ سنويًّا لمدّة عشر سنين: تطوير عتادٍ، وتمويل الانتشار والعمليّات، ودعم رواتب العسكريّين، ورفع جهوزيّة القوى الأمنيّة. وتدفع الولايات المتّحدة – المموّل العسكريّ الأكبر – نحو مراكمة مساعداتها السّنويّة (نحو 150 مليون دولارٍ أخيرًا)، فيما تنتظر بيروت مؤتمرًا دوليًّا في خريف 2025 لحشد تمويلٍ أوسع يتقدّمه خليجيًّا كلٌّ من السّعوديّة وقطر وأوروبيًّا فرنسا. وأشارت المصادر إلى أنّ “التّعهّدات المؤكّدة حتّى الآن لا ترقى إلى سقف المليار سنويًّا؛ والرّقم أقرب إلى تقديرٍ احتياجيٍّ تبنى عليه سلال تمويلٍ متعدّدةٌ”.

الخبرات الأجنبيّة والدّروس المستفادة: دعمٌ تقنيٌّ ونماذج دوليّةٌ
لم يخترع لبنان العجلة في هذا النّوع من الخطط، فقد شهدت دولٌ أخرى تجارب مشابهةً لنزع سلاح جماعاتٍ مسلّحةٍ ودمجها في كنف الدّولة. وتتحدّث الأوساط السّياسيّة أحيانًا عن نماذج مثل إيرلندا الشّماليّة (اتّفاق الجمعة العظيمة ونزع سلاح الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ تدريجاً)، أو تجربة الميليشيات في البلقان بعد حروب يوغوسلافيا، أو اتّفاق السّلام في كولومبيا مع حركة “فارك”. بيد أنّ خصوصيّة الحالة اللّبنانيّة – بتشابك البعدين الدّاخليّ والإقليميّ (إيران وإسرائيل وسوريا) – تجعلها حالةً فريدةً لا تستعير نموذجًا جاهزًا بالكامل. مع ذلك، استفاد المخطّطون من دروس تلك التّجارب، وأهمّها أنّ نزع السّلاح المستدام لا يتمّ بالقوّة وحدها، بل عبر مسارٍ سياسيٍّ توافقيٍّ وإجراءات بناء ثقةٍ تسبق وتسند التّحرّك الميدانيّ. ففي إيرلندا مثلًا، جاء تسليم سلاح الـIRA نتيجة اتّفاقٍ سياسيٍّ شاملٍ تضمّن ترتيباتٍ لتقاسم السّلطة وضماناتٍ ثقافيّةٍ للطّرف المهزوم، واستغرقت عمليّة تسليم السّلاح والتّحقّق منه سنواتٍ عدّةً. وفي البلقان، اقترن نزع سلاح الميليشيات بدمج بعضها في جيوشٍ نظاميّةٍ ومنح حوافز اقتصاديّةٍ لمقاتليها السّابقين. 

وأفادت المصادر في حديثها إلى “المدن” أنّه “إلى جانب التّمويل، يجري الاعتماد على خبراتٍ استشاريّةٍ أميركيّةٍ وفرنسيّةٍ مباشرةٍ في التّخطيط ووضع السّيناريوهات، وغرفتي عمليّاتٍ – محلّيّةٍ ودوليّةٍ – لمواكبة التّنفيذ والاستفادة من صور الأقمار الصّناعيّة وفرق التّدريب المتخصّصة”. ومع الأميركيّين والفرنسيّين، من المتوقّع أن يستفيد الجيش اللّبنانيّ من خبراتٍ تقنيّةٍ تركها البريطانيّون في مجال ضبط الحدود الشرقيّة (حيث سبق للمملكة المتّحدة أن ساعدت في إقامة أبراج مراقبةٍ حدوديّةٍ حديثةٍ مع سوريا خلال العقد الماضي). كما لدى الجيش تعاونٌ طويلٌ مع ألمانيا في مجال ضبط الأمن البحريّ عبر أجهزة كشف متفجّراتٍ في المرافئ. كلّ هذه الخبرات سيتمّ توظيفها وتكاملها تحت المظلّة الأميركيّة–الفرنسيّة التي تقود الدّعم الدّوليّ حاليًّا.

أساس القانون: بين القضاء و”المناطق الأمنيّة
أمّا خارج الجنوب، فلا يملك الجيش سلطة تفتيش الممتلكات الخاصّة من دون مذكّراتٍ قضائيّةٍ. وأضافت المصادر أنّ “الأساس القانونيّ سيبنى على مزجٍ بين مراسيم حكوميّةٍ لإعلان مناطق أمنيّةٍ محدودةٍ زمنيًّا وجغرافيًّا، وتعاونٍ وثيقٍ مع النّيابات والقضاء العسكريّ لاستصدار أوامر التّفتيش والمصادرة؛ أي لا تفويض مفتوحًا خارج القانون، بل إطارًا تنفيذيًّا واضحًا يبدأ مع موافقة مجلس الوزراء على الخطّة”.

ما الذي سيقاس ويعلن؟
إلى جانب مؤشّرات المصادرة والانتشار، تذكر المصادر سلّمًا من المؤشّرات القياسيّة: انخفاض خروق وقف النّار الموثّقة (برًّا وبحرًا وجوًّا)، وتيرة الدّوريّات وحدود نطاقها، عدد المواقع الحدوديّة والحواجز (من 15 جنوبًا إلى 33 نقطةً و15 حاجزًا لاحقًا)، حجم الأسلحة النّوعيّة المضبوطة (صواريخ بعيدة المدى، مسيّراتٍ، أنظمة إطلاقٍ)، التّقدّم في انسحاب إسرائيل من “النّقاط الخمس”، ومحطّات ترسيم الحدود مع إسرائيل وسوريا، إضافةً إلى تقارير التزامٍ أسبوعيّةٍ، وعودة المدنيّين إلى القرى الحدوديّة، والتّعهّدات الماليّة المنفّذة. وأشارت المصادر إلى أنّ “التّرتيب من اللّيطاني إلى الأوّليّ فبيروت فالبقاع تحكمه اعتباراتٌ عمليّةٌ: إبعاد أيّ احتكاكٍ مباشرٍ عن الحدود ريثما تستكمل التّرتيبات مع اليونيفيل، ثمّ معالجة العاصمة حيث الكثافة الأمنيّة والسّياسيّة، وأخيرًا الانتقال إلى الشرق حيث تلزم شراكاتٌ حدوديّةٌ مع دمشق”.

رهان الدّولة الأخير؟
لا يعد اللّبنانيّون هذه المرّة بـ”معجزةٍ” أمنيّةٍ. وما يُطرح هو مسارٌ واقعيٌّ طويلٌ، يقاس بالمتر لا بالكيلومتر، وبالمؤشّر لا بالشّعار. فالجيش لا يذهب إلى مواجهةٍ داخليّةٍ، بل إلى استردادٍ تدريجيٍّ للاحتكار الشّرعيّ للعنف، محمولًا على توافقٍ داخليٍّ ودعمٍ خارجيٍّ وخبراتٍ تراكمت في عواصم العالم. إن نجح، سيكون لبنان قد أنجز أكبر تعديلٍ في معادلته منذ عقودٍ: سلاحٌ واحدٌ فوق الأرض. وهنا ختمت المصادر حديثها إلى “المدن” بالتّأكيد أنّ “النّجاح رهن قرارٍ سياسيٍّ لا يزال قيد التّشكّل، وتمويلٍ موثوقٍ، وإدارة مخاطر دقيقةٍ تمنع الانزلاق إلى صدامٍ داخليٍّ. ومن دون ذلك، ستبقى الخطّة إطارًا نظريًّا مهما حسنت صياغته”.