عصا الرّاعي تهزّ عَصَب قبلان وتُفقده توازنه السياسي والديني

عصا الرّاعي تهزّ عَصَب قبلان وتُفقده توازنه السياسي والديني

الكاتب: طوني عطية | المصدر: نداء الوطن
21 آب 2025

الاسم: الشيخ أحمد قبلان. الوظيفة: عاطل عن شؤون العباد ومتفرّغ للردّ على بطريرك لبنان. تخطّى بنشاطه وديناميكيته، رؤوس الجيوش الإلكترونية الحامية التابعة لـ”محور الممانعة”. لا يُفوّت تصريحًا أو عظة أو كلمة للكاردينال الماروني مار بشارة بطرس الراعي من دون ردّ سريعٍ، بما يفيض إناؤه من عبارات ومفردات مشمئزّة لا تليق برجل دين ولا برجل دنيا. كأنه يغفو ويصحو على هاجس متلازمٍ: ماذا سيقول البطرك؟

تحوّل “المفتي الممتاز” إلى ما يُشبه “الردّاد” في فرق الزّجل، بدل الارتقاء إلى مستوى القيادة الدينية التي من المفترض أن تتصف بالحكمة والتروّي ورجاجة العقل. أسقط هيبة الموقع الذي يمثّله. لم يقتدِ أقلّه بوالده الراحل الشيخ عبد الأمير قبلان، الذي حفظ شيئًا من الوقار والرصانة، وعرف كيف يبني مسافة أخلاقية، ورزانة خطابية، وعلاقة محترمة، مع بطريرك صلب، كالراحل نصرالله بطرس صفير، صاحب المواجهة الشرسة والعنيدة في وجه الاحتلال الأسدي و”حزب الله”.

يسعى قبلان، من خلال خطابه الموتور والمشحون، أن يُخضع بكركي لمنطق الذمية. إلى تطويعها ضمن منطقٍ سياسي يفرض الإذعان والتسويات المُلزمة بقوة السلاح والأيديولوجية والعقيدة. كأن عليها الالتزام بسقوفٍ مرسومة في مكتب “الولي الفقيه”، أو تصدر عنها مواقف تتماشى مع مقاييس ومفاهيم “المقاومة الإسلامية في لبنان” للسلام والسيادة والحرية.

يغفل المفتي – أو يتغافل، أن البطريرك ليس موظّفًا دينيًّا، لا يُعيّن ولا يُفرَض. بل مرجعية كيانية وروحية منتخبة. صوته يعلو في وجه الاحتلالات والتبعية والوصايات، كما في وجه الداخل حين يتحوّل إلى خطر على الدولة والتعددية. لا يمكن فرض السلام على بكركي وفق التعريف الإيراني، ولا إخضاع دعوتها إلى السيادة بما يرضي “حزب الله” أو من يدور في فلكه. لا تحتاج البطريركية المارونية إلى دروس في المصلحة الوطنية، والسلام الذي تنادي به منذ قرون.

يحاول الشيخ قبلان، عمدًا أو جهلًا، العزف على وتر “الثأر الديني”، حين يُكثر من استخدام تعبير “قتلة الأنبياء”. هذا اللعب “غير الممتاز” للمفتي الجعفري الممتاز، يناقض جوهر وعمق الإيمان المسيحي الذي تحمله الكنيسة منذ تكوينها. كأنه يريد إلباسها إرثًا دمويًّا تحرّرت منه في مهدها. لماذا؟ لأن السيّد المسيح هو الذي حرّرها بدمه من دمه، عندما غفر لقاتليه في عزّ المواجهة معهم على الصليب. لا ثأر ولا ثارات. لذا، فات قبلان عن جهلٍ أو عن قصدٍ، أن الكنيسة لا تنطلق في مقاربتها الوطنية والسياسية والدينية من أحقاد التاريخ. هي ليست حفيدة الثأر، بل وليدة الحياة.

الكنيسة المارونية، كما سائر الكنائس، تدعو إلى السلام لا كخيار سياسي ظرفي، بل كجوهر من صلب إيمانها. فالسلام في فكرها ليس فقط غاية، بل هو طريق تسلكه انطلاقًا من تعاليم المسيح: ” طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْن”. ((مت 5: 9)، لا “أبناء حزب الله”.

الخطير في لغة الشيخ أحمد قبلان التخوينية، أنها تمثّل انحرافًا صارخًا عن إرث المرجعيات الروحية الشيعية الأصيلة في لبنان، من أمثال الإمام موسى الصدر والإمام محمد مهدي شمس الدين. إذ لم يكن في قواميسهما لا تخوين ولا تهديد، بل دعوات دائمة للحوار والاحتكام إلى منطق الدولة، لا إلى السلاح والخطابات النارية، المُسيئة إلى هذا التراث.

إزاء هذا الواقع، من المفيد تسليط الضوء على فكر الإمام الصدر، ومقارنة نهجه بمن يدّعون تمثيله اليوم، عندما كانت المدافع وخطوط التماس تُقسّم المدن وتُفكّك القرى.

في “موسوعة مسيرة الإمام السيد موسى الصدر الجزء الثامن (يوميات ووثائق 1977)” للمؤلف يعقوب ضاهر، حول مواقف الصدر من اجتماعات وخلوات “الجبهة اللبنانية” في حمأة الإنقسام العمودي السياسي والعسكري والفكري والديني بين اللبنانيين. يقول: “علينا قبل التحليل أو التعليق على القرارات، الوقوف أمام الشكل الرائع للاجتماع – الخلوة، فلو أن قادة لبنان عمدوا إلى أسلوب التأمل والتفكير والتخطيط لما وصل لبنان إلى ما وصل إليه، بل كان الأسلوب السائد غالبًا هو أسلوب ردود الفعل والارتجال والتهرب من مواجهة المشاكل الحقيقية، وبالتالي إعطاء فلسفة لعدم البت بالقضايا الأساسية”. وفي تعليقه على كلام بيار الجميل (مؤسس حزب الكتائب وعضو الجبهة اللبنانية) حول “التعددية الحضارية والاجتماعية في لبنان”، اعتبر “أننا معه في أن اللبنانيين ينتظرون منذ فترة طويلة هذا الأمر. ولكن الكلمة التي أنتظر إيضاحها من الشيخ بشير الشاب الشجاع هي كلمة التعددية الاجتماعية في لبنان”.

وفي خروج قبلان الصارخ عن مدرسة الإمام محمد مهدي شمس الدين، الذي نادى بالسيادة والدولة، لا يدافع عن الطائفة الشيعية، بل يسجنها داخل المشروع الإيراني، محوِّلًا منبره إلى محطة بثّ أيديولوجية لا تختلف عن بيانات الحرس الثوري في طهران. هو انقلاب على وصايا الإمام شمس الدين التي تُشكّل درسًا عميقًا في الالتزام بلبنان الدولة والكيان. فقد دعا إلى انخراط الشيعة في مشروع الدولة، ونبذ منطق الغلبة، ورفض التبعية للخارج، مشدّدًا على أن الشيعة لبنانيون أولًا، وأن خلاصهم لا يكون إلا في ظل دولة عادلة، سيدة، مستقلة. أوصى الشيعة بعدم تشكيل كيان خاص بهم، وعدم الارتهان لمحاور إقليمية، قائلاً: “لا يجوز للشيعة أن يكونوا دولة داخل الدولة”، كما دعاهم إلى أن يكونوا “دُعاة وحدة وطنية لا مثيري فتنة”، وأن يحفظوا لبنان كـ “وطن نهائي لجميع أبنائه”.