
أبقار مهرّبة ولحوم هندية: ماذا نأكل في غياب الرقابة؟
يتنقّل اللبنانيون بين أزمات متنوّعة. وكلّما اشتدّ الخناق، ازداد التفلّت من الرقابة. وما يدعو للقلق هو حالة الاعتياد التي يعيشها الجميع، حتّى العارفين بخفايا اللعبة وتفاصيل الغشّ الذي بات، على كثرته، سبباً إضافياً للاعتياد.
مواد غذائية، محروقات، ألبسة، خضار، فواكه، أدوات منزلية، مواد بناء… وغيرها الكثير من السلع والخدمات التي لم يعد المستهلك يعرف الصالح من الطالح فيها. ووحدها التجربة هي المقياس، لكن ثمنها يكون في أغلب الأحيان على حساب الصحّة والمال. وإحدى حلقات الغش التي تطفو على السطح راهناً، هي اللحوم. علماً أنّ الحديث عن الغشّ في هذا القطاع ليس مستجداً. فأي لحوم يأكلها اللبنانيون في السوق؟.
سوق مشرّع بكل الاتجاهات
باتت عمليات ضبط اللحوم الفاسدة أو المغشوشة أو المذبوحة بعيداً عن شروط السلامة الغذائية أمراً شبه دوريّ واعتيادي، تقوم به وزارتا الصحة والاقتصاد بالتعاون مع القوى الأمنية. والمثير للسخرية أنّ بعض عمليات الضبط طالت مسالخ لذبح الأبقار، معتمدة رسمياً في المناطق، إذ كان يتم الذبح فيها بخلاف شروط السلامة.
بالتوازي، يمكن بسهولة استعادة مشاهد استغلال دعم الدولة لاستيراد المواشي مع بداية الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر صرف الليرة، إذ كان التجّار يحصلون على دولارات الاستيراد على سعر 1500 ليرة، فيما كان سعر الدولار في السوق السوداء يرتفع. على أنّ تلك المواشي لم تكن تدخل جميعها إلى السوق اللبناني، خصوصاً في العام 2021، بل كان معظمها يذهب باتجاه سوريا حيث كان يُباع بأسعار أعلى مما كان يمكن الحصول عليها فيما لو بيعت في لبنان.
ولأنّ استغلال الأزمات أمر يتقنه أصحاب النفوذ، فإنّ عدم الاستقرار الراهن وسط التحوّلات السياسية الكبيرة في المنطقة، خصوصاً بين سوريا ولبنان، شجّع على إدخال “آلاف الأبقار من سوريا إلى لبنان من دون رقابة أو فحوصات، ومن دون أن تُذبح تحت إشراف رسمي”، وفق ما أكّده أمين سرّ نقابة تجار المواشي الحيّة ماجد عيد الذي لفت إلى أنّ لحوم تلك الأبقار “تُباع بأسعار زهيدة في السوق المحلية”.
الأبقار الآتية من سوريا ليست وحدها مشكلة السوق اللبناني، فبحسب عيد “طغت اللحوم المستوردة المثلّجة، مقابل تراجع استيراد اللحوم الحية بنسبة تتراوح بين 70 إلى 80 بالمئة”. وفي ظل غياب الرقابة الفاعلة، فإنّ أحداً لا يمكنه ضمان ما يحتويه السوق من تلك اللحوم. علماً أنّ عيد لفت في حديث لـ”المدن”، إلى أنّه ليس ضدّ استيراد اللحوم “لكن يجب أن تتّضح الصورة للمواطن ليعرف ماذا يأكل بالتحديد. فاللحوم المستوردة تشبه أي سلعة أخرى، وبالتالي، يتمّ استيراد بعضها على أنّها بجودة مرتفعة، وتباع على هذا الأساس، فيما هي ليست كذلك”.
وأيّدَ رئيس الهيئة الوطنية الصحية، إسماعيل سكرية، القول إنّ مشكلة غياب الرقابة على اللحوم الحية أو المثلّجة المستوردة، ليست مستجدّة بل مزمنة. فأكّد في حديث لـ”المدن”، أنّ “اللحم المثلّج يدخل لبنان بلا رقابة فعلية منذ التسعينيات”. لافتاً إلى أن “دخول لحم مثلّج آتٍ من الهند، عبارة عن لحم أبقار مذبوحة بعد موتها”. وأضاف أنّ “حال هذا اللحم كحال الأدوية التي تأتي من الهند وغيرها من دون رقابة”. وأوضح سكرية أنّ “وجود هذه اللحوم في السوق لا يعني أنّ كل ما يأتي من الهند، غير مطابق للمواصفات، السماسرة موجودون في كل مكان، ولذلك، يجب تفعيل الرقابة في لبنان وإعادة تفعيل المختبر المركزي”.
الرقابة موجودة؟
رغم عمليات التهريب المشرّعة بالاتجاهين بين سوريا ولبنان، والكثير من عمليات الضبط للملاحم والمطاعم والمحال التجارية، أكّد رئيس نقابة تجار ومستوردي اللحوم غابي دكرمنجيان، أنّ “لا أحد يمكنه مراقبة ما يأتي من سوريا بشكل واضح، بسبب تفاقم الأوضاع”، لكن رغم ذلك، نفى دكرمنجيان في حديث لـ”المدن” أن يكون هناك أبقار تأتي من سوريا إلى لبنان خلسة “فسوريا ليس لديها أبقار بكميات كبيرة معدّة للتصدير، بل تعتمد على تصدير الأغنام”.
وقلّل دكرمنجيان من أهمية الحديث عن لحوم غير خاضعة للرقابة، وأوضح أنّ “البقر الحيّ معفى من الجمارك، ما ينفي الحاجة لأي تهريب. كما أنّ اللحوم المثلّجة المستوردة، لا تدخل من المرفأ إلى السوق ما لم تخضع للفحوص لمعرفة ما إذا كانت صالحة أم لا، وهذا الأمر ينطبق على كل المواد الغذائية المستوردة”.
منعاً لأي التباس، أوضح عيد أنّه “يجب الفصل بين اللحم الذي يدخل إلى لبنان بصورة قانونية والخاضع للفحوص والرقابة، وبين الذي يدخل بصورة غير قانونية. وكذلك بين اللحم الذي يباع بشكل علني على أنّه مثلّج، وبين ما يباع على أنّه طازج بعض مزجه باللحم الطازج الحقيقي، وهذا ما تفعله الكثير من الملاحم والمطاعم”.
وكذلك، أكّد عيد أنّ “هناك فرق كبير بين البقر الذي يدخل من سوريا إلى لبنان بصورة قانونية، وبين ما يدخل بشكل غير قانوني. فبموجب البروتوكول الموقّع بين وزارتيّ الزراعة اللبنانية والسورية، تدخل كميات كبيرة من الأبقار من سوريا إلى لبنان، لكن سعرها في لبنان مرتفع، الأمر الذي يفتح المجال أمام التهريب”. ويستغرب عيد كيف يمكن إدخال شاحنات محمّلة بالأبقار عبر الحدود “فإذا كان بالإمكان إخفاء عملية تهريب هاتف خليوي، أو سلعة صغيرة، فكيف يمكن دخول شاحنات محمّلة بالأبقار من دون أن يلحظها أحد؟”. ودخول هذه الأبقار خلسة “يعني ارتفاع احتمال أن يكون بينها أبقار مريضة، وتذبح وتباع في السوق على أنّها سليمة. ولا يوجد مَن يضمن صحّة تلك اللحوم حينها، وهذا هو جوهر تحذيرنا في هذا المجال”.
وتزداد الحاجة لتكثيف الرقابة، ليس فقط لمنع تهريب البقر الحيّ عبر الحدود، بل أيضاً “لضبط اللحم الموجود في السوق. فهناك بين 20 إلى 25 ألف طن من اللحم الهندي المثلّج في السوق اللبناني، ولا يوجد أي نقطة بيع تعترف بأنّ ما تبيعه هو لحم هندي. علماً أنّ اللحم الهندي هو لحم الجاموس وليس البقر، وهناك فرق كبير بينهما لناحية القيمة الغذائية، فضلاً عن جانب الغشّ لجهة عدم الإعلان عن حقيقة هذا اللحم، أو بيعه على أنّه لحم طازج”.
لا يعرف اللبنانيون حقيقة ما يأكلونه، نظراً لانكشاف السوق وغياب الرقابة. أمّا الإعلان عن حالات تسمّم هنا أو هناك، وإقفال ملحمة أو مطعم في هذه المنطقة أو تلك، فيمرّ مرور الكرام، ذلك أنّ المواطن بات يدرك تخلّي الدولة عن مهامها، ويدرك حجم الحماية التي يحظى بها النافذون في مختلف المجالات.