
الشرعيتان اللبنانية والفلسطينية تتقدمان… المخيمات خارج قبضة الفوضى
بعد عقود من هيمنة حركة “حماس” وحلفائها داخل المخيمات الفلسطينية، يشهد لبنان تحولاً استراتيجياً مع بدء خطة مشتركة بين الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية لحصر السلاح بيد الشرعية. البداية جاءت من مخيم برج البراجنة حيث سلمت حركة “فتح” دفعة من السلاح للجيش اللبناني، تنفيذاً لاتفاق القمة بين الرئيسين جوزاف عون ومحمود عباس. المسار واجه عرقلة من قوى “الممانعة” وداخل بعض الأطر الفلسطينية، لكن رام الله تحركت لتفكيك الشبكات المرتبطة بالسفير السابق أشرف دبور وتوقيف شادي الفار.
بعد عقود من تمدد نفوذ حركة “حماس” والفصائل الفلسطينية الحليفة لـ”حزب الله” داخل المخيمات الفلسطينية المنتشرة في لبنان، تعود الشرعية اللبنانية والشرعية الفلسطينية معاً للواجهة، في تنسيق غير مسبوق وتكامل تام وتبادل معلومات مباشر بين بيروت ورام الله، لتكسر معادلة الهيمنة التي فرضت. هذه العودة تعكس تحولاً استراتيجياً وإرادة مشتركة في كسر المعادلة القديمة التي فرضها كل من “حزب الله” و”حماس”، وإرساء معادلة جديدة قوامها أن الدولة اللبنانية هي المرجعية الوحيدة في لبنان، والسلطة الوطنية الفلسطينية هي المرجعية الوحيدة للفلسطينيين.
ومع أول عملية لتسليم أسلحة شهدها مخيم برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت، فتح لبنان صفحة جديدة في تاريخه الأمني والسياسي، إذ أعلن عملياً بدء الخطوة الأولى في خطة مشتركة بين الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية تهدف إلى حصر السلاح بيد الدولة. هذه الخطوة حملت رمزية عميقة باعتبارها الشرارة الأولى في مسار استعادة الشرعيتين اللبنانية والفلسطينية زمام المبادرة، بعد عقود طويلة من الفوضى الأمنية والفراغ القانوني الذي فرضه السلاح غير الشرعي داخل المخيمات.
المرحلة الأولى
بعد أشهر من الاجتماعات والوفود الأمنية، دخل لبنان فعلياً المرحلة الأولى من مسار تسليم السلاح الفلسطيني إلى الدولة، على أن تكون نقطة الانطلاق من مخيمات بيروت، وتحديداً مخيم برج البراجنة. فقد جرى تسليم الدفعة الأولى من السلاح التابع لحركة “فتح” إلى الجيش اللبناني، على أن تتبعها دفعات أخرى خلال الأسابيع المقبلة في برج البراجنة وبقية المخيمات. هذا القرار كان حسم في مايو (أيار) الماضي، تنفيذاً لمقررات القمة اللبنانية – الفلسطينية بين الرئيسين جوزاف عون ومحمود عباس، التي شددت على سيادة لبنان على كامل أراضيه، وبسط سلطة الدولة، وتطبيق مبدأ حصرية السلاح. كما جاء القرار متماهياً مع مخرجات الاجتماع المشترك للجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني برئاسة رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام، وبمشاركة ممثلين عن السلطات اللبنانية والفلسطينية، إذ جرى التوافق على آلية تنفيذية وجدول زمني واضح لمعالجة ملف السلاح الفلسطيني.
وتشير المعلومات إلى أن ياسر عباس نجل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يوجد في لبنان لمتابعة الملف شخصياً. وترافق ذلك مع زيارة وفد أمني فلسطيني إلى بيروت في الأيام الماضية، إذ عقد لقاءات مع مراكز القرار وسط أجواء إيجابية انعكست على مسار الاجتماعات.
تفكيك شبكات العرقلة
في السياق كشف مصدر بارز في الأمن الوطني الفلسطيني، مواكب بصورة مباشرة لخطة تسليم السلاح إلى الدولة اللبنانية، عن أن مسار معالجة هذا الملف لم يكن سهلاً منذ بدايته. وأوضح أنه منذ الزيارة الأخيرة للرئيس الفلسطيني إلى لبنان، وإعلانه قراراً واضحاً بأن تكون المخيمات تحت سقف الدولة اللبنانية وبأن يسلم السلاح لصالح الشرعية اللبنانية، ظهرت مجموعة من “الألغام” السياسية. فبحسب المصدر نفسه، واجه عباس خلال زيارته اعتراضاً مباشراً من مسؤولين لبنانيين، وفي طليعتهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي طلب تأجيل القرار بحجة أن تنفيذه قد يؤدي إلى فتنة أو حتى حرب أهلية. وأضاف المصدر أنه جرى التذكير في الاجتماعات بمجازر صبرا وشاتيلا (عملية قتل جماعي ارتكبت بين الـ16 والـ18 من سبتمبر / أيلول 1982)، في محاولة لتحريض عباس والتخويف من أن الفلسطينيين سيتركون بلا حماية في حال تخلوا عن سلاحهم.
المصدر لفت أيضاً إلى أن “الممانعة” لم تقتصر على أطراف لبنانية، بل انسحبت إلى داخل البيت الفلسطيني. فقد تبين بعد الزيارة أن السفير الفلسطيني في بيروت أشرف دبور كان جزءاً من عملية العرقلة، مما دفع القيادة الفلسطينية إلى فتح ملف السفارة وإجراء تحقيقات داخلية. ووفق المصدر، فإن دبور دعا في إحدى المرات فصائل فلسطينية، بينها حركة “حماس”، إلى اجتماع في السفارة، وحاول تمرير رسالة مفادها بأن “القرار الفلسطيني اليوم يتعلق فقط بالمساعدات الإنسانية وليس بسحب السلاح”، وهو ما اعتبر محاولة مكشوفة للالتفاف على قرار عباس.
أمام هذه المعطيات، قرر الرئيس الفلسطيني إرسال لجان متخصصة أمنية وإعلامية وسياسية، لدراسة الملف الفلسطيني في لبنان بعمق، وقد أجرت هذه اللجان تحقيقات مالية وسياسية وأمنية وإعلامية شاملة. وأكد المصدر أن أولى النتائج تمثلت في ضم قناة “فلسطيننا”، التي كان أنشأها دبور وأدارها بصورة موازية وغامضة للقناة الرسمية الفلسطينية، وبتمويل من السلطة، إلى المنظومة الإعلامية الرسمية، مما أنهى ازدواجية إعلامية استغلت لغايات شخصية.
وأكد المصدر نفسه أن التحقيقات كشفت كذلك عن مخالفات خطرة في أملاك “منظمة التحرير الفلسطينية” في لبنان، إذ وجد أن بعض العقارات سجل بأسماء أفراد بصورة مخالفة، في محاولة للاستيلاء عليها. وجرى التوصل إلى أدلة دامغة تثبت حجم هذه المخالفات، وبالتوازي جرى العمل على تفكيك مراكز القوى التي بناها السفير السابق، ومنها قضية شادي الفار الذي كان يحظى بموقع مميز في السفارة على رغم صدور مذكرات توقيف في حقه في لبنان، وارتكابه مخالفات قانونية واضحة. وبحسب المصدر، فإن قرار إقصاء دبور وتعيين سفير جديد مثل نقطة تحول، إذ بدأت السلطة الوطنية الفلسطينية عملية تفكيك شبكة النفوذ التي أقامها الأخير لمصالح خاصة. وجاءت خطوة اعتقال شادي الفار، بعد محاولته التحريض على اضطرابات في مخيم برج البراجنة، على يد القوى الأمنية اللبنانية وبعلم السلطة الوطنية، لتؤكد جدية هذا التوجه.
اليوم تابع المصدر أصبح الوضع أكثر انضباطاً، فالسفير أشرف دبور خارج لبنان، مقيم في الأردن، فيما تستكمل السلطة الوطنية الفلسطينية خطواتها لضبط الساحة الداخلية الفلسطينية في لبنان، تمهيداً لبدء المسار العملي لبسط سلطة الدولة اللبنانية على المخيمات، ابتداء من بيروت. وشدد المصدر على أن ما جرى هو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، وختم المصدر بالإشارة إلى أن هذه العملية تجري بإشراف مباشر من ياسر عباس، نجل الرئيس الفلسطيني، إلى جانب قيادات الأمن الوطني الفلسطيني والكوادر الفتحاوية في لبنان، مما يضفي على المسار ثقلاً سياسياً وأمنياً كبيراً ويعزز فرص نجاحه.
شبكة فادي الفار
ومن أبرز تطورات هذا المسار، عملية القبض على القيادي الفتحاوي المنشق فادي (أو شادي) الفار داخل فندق فينيسيا في بيروت. العملية نفذتها مخابرات الجيش اللبناني بالتنسيق مع الأمن الوطني الفلسطيني، وأسفرت عن توقيف الفار الذي كان يعتبر أحد أبرز أذرع دبور. التحقيقات كشفت عن أنه يملك مخازن أسلحة، وأنه متورط في إدخالها إلى المخيمات. الأخطر أن خيوط هذه الشبكة تداخلت مع قنوات مرتبطة بـ”حزب الله”، عبر دعم لوجستي وتسليح من فصائل فلسطينية ثانوية مثل “قوات الفجر”. الهدف، وفق المعطيات، كان واضحاً، وهو تحويل هذه الأسلحة إلى أداة لمواجهة الجيش اللبناني داخل المخيمات، وتعطيل خطة الجيش المرتقبة بسحب سلاح “حزب الله”.
خط دفاعي متقدم
المعطيات الأمنية تشير إلى أن “حزب الله” غطى إدخال سلاح إلى مخيم برج البراجنة بالتنسيق مع الموقوف شادي الفار، في محاولة لدفع المخيمات لتكون واجهة صمود في وجه الدولة اللبنانية، أي أن المخيمات تتحول إلى خط دفاع متقدم عن سلاحه وورقة إضافية بيده للمساومة، غير أن التنسيق المحكم بين الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية، والقبض على الفار وتفكيك مخازن السلاح، شكل ضربة موجعة لهذا المخطط، وأعاد المبادرة ليد الدولة.
ما جرى في برج البراجنة لم يكن خطوة معزولة ولا ظرفية، بل انطلاقة لمسار متكامل يتوقع أن يعلنه الجيش اللبناني رسمياً في الثاني من سبتمبر المقبل، الخطة المزمعة ذات الطابع الأمني – السياسي تقضي بما يلي:
– حصر السلاح بيد الجيش اللبناني والأمن الوطني الفلسطيني.
– تفكيك البؤر المسلحة داخل المخيمات.
– تنظيم وجود السلطة الفلسطينية كذراع شرعية داخل المخيمات.
القمة الفلسطينية – اللبنانية
من ناحيته أوضح عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني هيثم زعيتر أن ما جرى لم يكن وليد الصدفة أو ابن ساعته، بل هو تنفيذ لاتفاق وقع قبل ثلاثة أشهر في القمة الفلسطينية – اللبنانية، وكان تأجل من الـ15 من يونيو (حزيران) بسبب المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية، وبالتالي نحن اليوم أمام خطوة مرتبطة بقرار سياسي رفيع، أقر بين دولتين: الدولة اللبنانية والدولة الفلسطينية. وأشار إلى أن النقطة الجوهرية التي أكدت في القمة هي أن التعامل يكون على مستوى الدولتين، ومن خلال قرار رسمي يقضي بتسليم السلاح إلى الجيش اللبناني. وجرى الاتفاق مسبقاً على أن تكون الخطوة الأولى من مخيمات بيروت، وتحديداً برج البراجنة، إذ سلمت قوات الأمن الوطني الفلسطيني أسلحة متوسطة، باعتبار أن الأسلحة الثقيلة نادراً ما كانت موجودة داخل المخيمات أصلاً. وذكر بأن “منظمة التحرير الفلسطينية” وقوات الأمن الوطني لا تمتلك هذه الأسلحة الثقيلة، التي كانت بحوزة تنظيمات أخرى خارج المخيمات، كـ”القيادة العامة” والمنشقين عن “فتح – الانتفاضة”، وقد أزيلت تلك الترسانات وأعلن رسمياً من لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني في الـ14 من يناير (كانون الثاني) من هذا العام أن هذا الملف أقفل.
وأوضح زعيتر أن هذه الأسلحة لم تستخدم يوماً لخدمة الأجندة الفلسطينية، بل استغلت من بعض الأطراف لضرب المخيمات ومحاولة السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني المستقل، ودفع الفلسطينيون تضحيات جسيمة نتيجة ذلك. من هنا، أسف لكون بعض الأصوات ما زالت تصر على التشكيك في الخطوة، أو الادعاء بأن السلاح الذي سلم ليس سوى أسلحة مهربة صودرت في وقت سابق. وقال “السلاح الذي سلم هو سلاح قوات الأمن الوطني الفلسطيني، وبقرار رسمي صادر عن الرئيس الأعلى للقوات المسلحة الفلسطينية محمود عباس، وسلم إلى جهة رسمية لبنانية هي الجيش اللبناني، الذي باتت هذه الأسلحة في عهدته”. وشدد زعيتر على أن هذه الخطوة يجب أن ينظر إليها في أهميتها السياسية والتوقيتية، لا أن تقابل بالمزايدات، وأضاف “المطلوب الالتزام بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل، وعدم استخدام السلاح لأجندات عربية أو إقليمية أو دولية، لأن السلاح الفلسطيني يجب أن يكون حصرياً في خدمة القضية الفلسطينية”. واستشهد بأحداث الأشهر الماضية، عندما أطلقت صواريخ عبثية من بعض المجموعات في الـ22 والـ28 من مارس (آذار)، ثم ضبطت كميات كبيرة في الـ20 من أبريل (نيسان)، وهي حوادث نفت حركة “حماس” مسؤوليتها عنها ووصفتها بمبادرات فردية. وختم بالتشديد على أن من يريد ضبط الأمن داخل المخيمات عليه أن يلتزم بسقف القرار الفلسطيني المستقل، “فالتسليم جرى من قوات الأمن الوطني الفلسطيني التي تضم حركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وأي إطار آخر يرفض الالتزام سيضع نفسه خارج هذا المسار”، وأكد أن عملية التسليم ستتم وفق مراحل متفق عليها مسبقاً، وبآلية واضحة، وصولاً إلى الهدف النهائي: نزع السلاح الفلسطيني من المخيمات، وبسط سلطة الدولة اللبنانية بالتعاون الكامل مع الشرعية الفلسطينية.
بين التعقيد والفرص
في هذا الوقت، رأى مدير مركز تطوير للدراسات الاستراتيجية والتنمية البشرية الباحث الفلسطيني هشام دبسي أن مسألة تسليم السلاح الفلسطيني في لبنان لا يمكن فصلها عن مسألة السلاح اللبناني الخارج عن سلطة الدولة، مؤكداً أن المدماك الأساس لمعالجة هذا الملف وضع في البيان الوزاري الأخير للحكومة اللبنانية، كما في البيان المشترك بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس والرئيس اللبناني جوزاف عون خلال زيارة الأول إلى بيروت. واعتبر دبسي أن هذه المرجعيات السياسية أرست إطاراً جدياً لمعالجة قضية متشابكة عمرها أكثر من نصف قرن، منذ لحظة تسليح المخيمات الفلسطينية وتحولها إلى كيانات ذات أوضاع خاصة ظلت قائمة حتى اليوم. وحذر دبسي من أن الملف لا يقتصر على بعده السياسي، بل يتعداه إلى شبكة مصالح متشابكة، “فالسلاح المنتشر بكثافة في المخيمات، لا يستخدم فقط للدفاع السياسي أو العسكري، بل يغطي أيضاً منظومة اقتصادية سوداء تشمل تجارة السلاح والذخيرة والمخدرات والممنوعات. من هنا، نجاح أية مبادرة يتطلب تفكيك هذه الشبكات المنتفعة وإعادة بناء سياسة أكثر واقعية لمقاربة مسألة نزع السلاح، بما يحقق نتائج ملموسة تخدم المصلحة اللبنانية والفلسطينية في آن واحد”.
أضاف أن الفترة الفاصلة بين زيارة عباس الأخيرة إلى لبنان، والبدء بعمليات تسليم السلاح في مخيمات بيروت، سواء في برج البراجنة أم شاتيلا وغيرها، شهدت بالفعل خطوات عملية على طريق إعادة هيكلة الوضع الفلسطيني الداخلي. فقد جرت إعادة ترتيب بعض المنظومات، بما يتيح للمبادرة أن تتقدم ويجعلها قادرة على مواجهة العقبات التي تطرحها قوى الممانعة من جهة، أو تلك الناتجة من استمرار تجارة السلاح والمخدرات في المخيمات اللبنانية من جهة ثانية. وشدد دبسي على أن هذه الإجراءات لم تقتصر على الجانب السياسي، “بل شملت عملاً فلسطينياً داخلياً متكاملاً، من خلال دور السفارة الفلسطينية في بيروت، وقيادة فصائل منظمة التحرير، وأجهزة الأمن الوطني الفلسطيني التي تولت التنفيذ الميداني بالتعاون الوثيق مع الجيش اللبناني. هذه المنظومة المشتركة، نجحت أولاً في إجهاض أي تعطيل فلسطيني داخلي قد يعرقل العملية، وثانياً في مواجهة محاولات التعطيل الخارجي من القوى الرافضة لتسليم السلاح للدولة اللبنانية. وبناء عليه، المسار الحالي بات يبنى عليه بصورة جدية، وسيفضي في النهاية إلى نتيجته الطبيعية: حصرية السلاح في يد الشرعية اللبنانية”، وختم بالتأكيد أن نجاح هذا المسار يبقى مرتبطاً بصدور خطة العمل اللبنانية المنتظرة، التي ستتجاوب معها القيادة الفلسطينية على قاعدة التعاون العميق مع الدولة اللبنانية، بما يضمن استكمال الخطوات التنفيذية وتحقيق الهدف المنشود خطوة بعد أخرى.
متراس أمامي
وسط هذه الأجواء، رأى الصحافي أسعد بشارة أن ما يجري اليوم على الساحة الفلسطينية في لبنان يشكل تطورات نوعية على درجة عالية من الأهمية، وهي تسير في مسار مواز ومكمل لملف بسط سلطة الدولة اللبنانية وحصر السلاح في يدها. وذكر بأن قرار وضع السلاح الفلسطيني تحت سلطة الدولة لم يكن خطوة ارتجالية، بل قرار استراتيجي اتخذ أثناء زيارة الرئيس الفلسطيني إلى بيروت، حين جرى الإعلان بوضوح أن أمن المخيمات من أمن الدولة اللبنانية، وأكد أن القرار لم يكن للمناورة أو للاستهلاك، بل كان قراراً جدياً وحاسماً طال انتظاره. وأشار إلى أن هذا القرار كان متخذاً مسبقاً منذ سنوات، لكنه لم ينفذ بسبب العرقلة التي يعرفها الجميع في لبنان، “فبعد لقاء الرئيسين، بدا واضحاً أن هناك من يسعى إلى عرقلة التنفيذ، والسبب هو أن بعض القوى أرادت أن تبقي المخيمات الفلسطينية متراساً أمامياً يحتمي خلفه سلاح حزب الله. وهكذا، روج لمقولة أنه لا يمكن المساس بسلاح حماس باعتباره سلاح مقاومة، وبالتالي لا يمكن المساس بالسلاح الفلسطيني في لبنان. غير أن الحقيقة، هي أن جزءاً كبيراً من هذا السلاح ليس فلسطينياً بالمعنى الفعلي، بل تحمله مجموعات لبنانية منضوية داخل المخيمات تمارس التخريب والفساد، وتنفذ مهمات إرهابية بالإيجار، وأعطى بشارة مثالاً حياً على ذلك في معركة عين الحلوة الأخيرة، قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، إذ تبين أن المجموعات المسلحة كانت تتلقى التسليح والتدريب والتوجيه من قوى ’الممانعة‘، بل إن السلاح كان يدخل إليها بكثافة في اللحظات الأخيرة من المواجهة لتمكينها من الصمود، مما حول المخيم إلى قاعدة لتنفيذ مهمات أمنية ورسائل سياسية بالوكالة”. وأضاف أن قرار الرئيس عباس واجه تعطيلاً مباشراً برسائل وتحذيرات وصلت إلى القيادة الفلسطينية، فحواها “هذه الخطوة ستؤدي إلى فتنة وحرب أهلية، وليست في وقتها”، وهو الخطاب ذاته الذي يكرره “حزب الله” اليوم لتبرير بقاء سلاحه، والأكثر خطورة، بحسب بشارة، أن التعطيل لم يأت فقط من الخارج، بل أيضاً من داخل بعض الأطر القيادية الفلسطينية، التي تلاقت موضوعياً مع مواقف قوى الممانعة.
أمام هذه الوقائع، قررت السلطة الوطنية الفلسطينية إرسال وفود من أعلى المستويات، أمنية وسياسية وعسكرية وإعلامية، لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني في لبنان. وما نشهده الآن هو المراحل شبه النهائية من هذه العملية، التي ستقود حتماً إلى انطلاق مسار بسط سلطة الدولة اللبنانية على المخيمات، وحماية الفلسطينيين بقوة القانون اللبناني والدولة اللبنانية فقط، بعيداً من أي تدخل خارجي أو توظيف سياسي للفلسطينيين كمتاريس، وشدد بشارة على أن المصلحة الفلسطينية واضحة: أن يعيش اللاجئ الفلسطيني في لبنان كـ”ضيف عزيز” محمي بالقانون اللبناني ريثما تتبلور تسوية شاملة لقضيته، وختم بالإشارة إلى أن إعادة ترتيب البيت الفلسطيني في لبنان ستتكامل مع مسار حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، سواء كان السلاح بحوزة فلسطينيين أم لبنانيين، وذلك عبر خطة يشترك فيها الأمن الوطني الفلسطيني والجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، وهذه الأطر الشرعية تعرف كيف تتعاون، وتضع آليات واضحة لسحب هذا الفتيل الذي طال انتظاره، ليصبح ملف الوجود الفلسطيني في لبنان محكوماً حصرياً بالأطر الشرعية، بعيداً من التفجير أو التوظيف السياسي، وهو ما يرجح أن يتحقق في المرحلة المقبلة.