العجز التجاري سيرتفع… وكذلك الحاجة إلى الدولارات: الاستيراد يتجه إلى رقم قياسي في 2025

العجز التجاري سيرتفع… وكذلك الحاجة إلى الدولارات: الاستيراد يتجه إلى رقم قياسي في 2025

الكاتب: باتريسيا جلاد | المصدر: نداء الوطن
27 آب 2025

على أنقاض أزمة مالية ونقدية قاتلة للاقتصاد، لم تنجح الحكومة في الحدّ من الاستيراد بشكل مستدام، أو في إحداث قفزة نوعية على مستوى الصادرات، كما كان متوقَّعًا ومأمولًا. فقد أثبتت الصناعة اللبنانية خلال تلك المرحلة، ولا سيّما مع تفشّي جائحة كورونا، جودتها وقدرتها على تلبية حاجات السوق المحلية ومنافسة علامات أجنبية. ومع ذلك، ظلّت الواردات متفوّقة بفارق شاسع  على الصادرات. فما هي الأسباب التي حالت دون ترجمة هذه القدرات إلى نموّ فعليّ في الصادرات وتوازنٍ أكبر في الميزان التجاري؟

قبل الخوض في مندرجات الأسباب التي تحول دون ارتفاع قيمة الصادرات اللبنانية إلى مختلف الدول، وضعف قدرة الصناعة الوطنية على المنافسة في السوق المحليّة، لا بدّ من التوقّف عند أرقام الواردات والصادرات قبل الأزمة المالية وخلالها، وصولًا إلى مرحلة استقرار سعر الصرف عند حدود 89,500 ليرة لبنانية.

تاريخيًا، لطالما فاقت الواردات حجم الصادرات بفارق كبير. ففي العام 2018، بلغت قيمة الواردات نحو 20 مليار دولار، وهو الرقم الأعلى المسجّل، في حين لم تتخطَّ الصادرات 3 مليارات دولار، ما انعكس عجزًا تجاريًا بحدود 17 مليار دولار. وفي العام 2019، وصلت الصادرات إلى 3.7 مليارات دولار كحدّ أقصى، مقابل واردات بقيمة 19.2 مليار دولار. أما في العام 2024، فقد بلغ العجز التجاري نحو 14.2 مليار دولار.

وخلال النصف الأول من عام 2025، سجّلت الواردات 9.6 مليارات دولار (أي ما معدله 1.6 مليار دولار شهريًا)، مقارنة بـ 8.4 مليارات دولار في الفترة نفسها من العام 2024، أي بزيادة قيمتها 1.2 مليار دولار.

هذه النتائج تؤشر على ارتفاع حجم الاستيراد هذا العام بنسبة كبيرة، من دون أن تتّضح الأسباب والخلفيات التي أدّت إلى هذا الارتفاع مقارنة بالعام الماضي، بما يوحي أن العام 2025 سوف يشهد رقمًا قياسيًا في حجم العجز التجاري، سيكون الأعلى منذ الانهيار في أواخر العام 2019. وبالتالي، ستزداد الحاجة إلى الدولارات، وهو مؤشر سلبيّ لا يطمئن. إذ إنّ هيمنة الاستيراد على التصدير تبدو بمثابة مسار مستدام، يطرح إشكالية معقدة على مستوى تحقيق توازن اقتصادي في المستقبل.

في هذا الإطار، يوضح نائب رئيس جمعية الصناعيين في لبنان جورج نصراوي لـ “نداء الوطن” أنّ “خفض الاستيراد وزيادة الصادرات لا يمكن أن يتحقّقا إلّا عبر توفير الدولة حماية حقيقية للصناعة الوطنية”. لافتًا إلى أنّ قطاعات صناعية أساسية كالألبسة والأحذية والمفروشات اندثرت بفعل المنافسة الأجنبية. ويرى أنّ إعادة إحياء هذه القطاعات ممكنة في حال فرضت الدولة رسومًا جمركية على السلع المستوردة دعمًا للصناعة المحلية، مستشهدًا بتجربة الولايات المتحدة التي رفعت الرسوم الجمركية لحماية إنتاجها، وهي خطوة تتبعها أيضًا دول عديدة أخرى.

إعادة النظر بالاتفاقيات التجارية

ويشدّد نصراوي على ضرورة إعادة النظر بالاتفاقيات التجارية المبرمة مع بعض الدول، إذ تدخل منتجات مثل تلك القادمة من مصر إلى السوق اللبنانية من دون رسوم جمركية، في حين تواجه السلع اللبنانية عراقيل جمّة عند محاولة تصديرها إلى تلك الدول. ويبرز هذا الخلل بوضوح في قطاع الأدوية، حيث لا تزال الطلبات اللبنانية لتصديرها إلى مصر تصطدم بعقبات، مقابل حضور واسع للأدوية المصرية في السوق المحلية. الأمر نفسه يسري على الصناعات الغذائية وغيرها، ما يستدعي إعادة تصحيح لمسار هذه الاتفاقيات على أساس المعاملة بالمثل.

كما يلفت نصراوي إلى أنّ بعض الدول كالجزائر مثلًا تفرض رسومًا جمركية مرتفعة على الواردات بهدف تشجيع استهلاك الإنتاج المحلّي. وعليه، يدعو الدولة اللبنانية إلى اعتماد خطوات مماثلة، بحيث تُضاف رسوم على السلع المستوردة المشابهة للإنتاج الوطني، بما يؤدّي إلى تقليص حجم الواردات وزيادة الطلب على المنتجات اللبنانية.

إنّ تبنّي هذه الإجراءات من شأنه خلق فرص عمل جديدة أمام اليد العاملة اللبنانية، والحدّ من البطالة وهجرة الكفاءات، فضلًا عن رفع مداخيل الدولة عبر تعزيز الجباية الجمركية.

وبرأي نصراوي، تسبّب الكلفة المرتفعة للكهرباء “زيادة في كلفة الإنتاج وفي سعر المنتج، لذلك هناك إجراءات عدّة مطلوبة من الدولة اللبنانية لدعم الصناعيين، ما يثمر بعضًا من التقارب في الميزان التجاري بين الصادرات والواردات”، علمًا أنّ صفر عجز أمر صعب لأن الاستيراد سيبقى دائمًا أعلى من التصدير. لماذا؟

لأنه يتمّ في لبنان استقدام المواد الأوّلية من الخارج لغرض تصنيع المواد الغذائية وغيرها من الصناعات الوطنية البلاستيكية والورقية والدوائية والمفروشات… مقابل ذلك هناك منتجات لا يمكن تصنيعها في لبنان مثل السيارات والمستلزمات الكهربائية… التي قد تبقى العامل المحفّز لإبقاء الاستيراد أعلى من التصدير، ولكنّ الإجراءات المطلوبة من الدولة من شأنها أن تقلّص الفارق بين الاستيراد والتصدير، بحيث يتمّ الحدّ من الهوّة الكبيرة في الميزان التجاري بينهما. في تلك الحالة تزيد مداخيل الدولة اللبنانية من جرّاء الرسوم الجمركية التي تفرضها على بعض المنتوجات حمايةً للأسواق المحلية.

كلفة الإنتاج والمنافسة

لكن المعالجة لا تقتصر على الرسوم وحدها، بل تستوجب خفض كلفة الإنتاج، وفي طليعتها كلفة الكهرباء التي تصل حاليًا إلى نحو 35 سنتًا لكل كيلواط/ساعة، مقابل 3 إلى 5 سنتات فقط في دول الخليج. هذه الفجوة ترفع أسعار المنتجات المحلية وتضعف قدرتها التنافسية.

وبرأي نصراوي، تسبّب الكلفة المرتفعة للكهرباء “زيادة في كلفة الإنتاج وفي سعر المنتج”، لذلك يشدّد على ضرورة دعم الدولة القطاع الصناعي بخطوات عملية تؤدي إلى تقليص الهوّة في الميزان التجاري، حتى وإن كان من الصعب الوصول إلى “صفر عجز”، إلّا أنّ الإجراءات الإصلاحية المقترحة قادرة على تضييق الفارق بين الاستيراد والتصدير، وتخفيف العجز التجاري الذي بلغ في العام الماضي 14.2 مليار دولار. فهذا العجز، وإن كان أقلّ من مستوى الأعوام السابقة التي سجّلت فيها الواردات 19.9 مليار دولار على سبيل المثال في 2018 وهو الرقم الأعلى من العام 2016 إلى اليوم، يبقى مؤشرًا خطيرًا على غياب السياسات الحمائية والداعمة للصناعة الوطنية.

صفر استيراد ليس خيارًا مطروحًا في لبنان، لكن المطلوب هو الحدّ من المنافسة غير المتكافئة للمنتجات الأجنبية، وخفض كلفة الإنتاج، وإعادة النظر بالاتفاقيات التجارية بما يحمي الصناعة المحلّية ويعزّز فرص نموّها، وصولًا إلى تقليص العجز التجاري وتحقيق أكبر قدر من التوازن الاقتصادي.