
ما لم يرد في نص موازنة 2026: إيرادات مخالفات الشاطئ؟ الإعفاءات؟ الإعمار والجيش؟
يكشف مشروع قانون الموازنة العامة 2026 المحال من وزارة المال إلى رئاسة مجلس الوزراء، لتبدأ مناقشته في الأيام المقبلة، عن رؤية شاملة لكنّها مربكة أحياناً للطريق المالي للبلاد. ويُبرِز مشروع الموازنة تحوّلات كبيرة في مجالات الإنفاق، لا سيما في خدمة الدين العام، الرعاية الاجتماعية، والتكاليف الإدارية، بالإضافة إلى خجل في الاستثمار العام بالبنية التحتية، ملحقة بسلاسل هائلة من الضرائب غير المباشرة وسط تراجع للضرائب المباشرة. وقد برّر ذلك وزير المال ياسين جابر في ردّه على أسئلة لـ«الجمهورية».
طفرة نوعية للإيرادات وتأجيل العدالة بالجباية
يشهد مشروع موازنة العام 2026 توقعات بزيادة الجباية بحوالى 850 مليون دولار (450 مليوناً من الجمارك)، مرشّحة للزيادة بنحو 50 مليوناً (بحسب ما سنفصّل لاحقاً) أو أكثر، أي بحوالى 15% إيرادات إجمالية عن موازنة العام 2025.
هذه الزيادة، بحسب ما ورد بالأرقام مقارنةً بموازنة العام السابق، لم تكن بسبب إقرار ضرائب أو رسوم جديدة، أو حتى بسبب إصلاح أي قوانين أو سياسات ضريبية، إنّما يكمن مفتاحها بتوسيع الجباية والالتزام المالي للمواطنين تجاه الدولة.
بيد أنّ أصابع النقد تُوجّه إلى الحكومة بسبب صحنها الضريبي غير المباشر، الذي يشكّل الباب الأكبر من إيراداتها، متجاوزاً ثلاثة أرباع جبايتها. فأوضّح وزير المال ياسين جابر لـ«الجمهورية»، أنّه «لا يمكننا وضع ضرائب مباشرة على شركات لا تحقق أرباحاً. البلد خرج من حرب، ولم تدخل إليه بَعد موجة استثمارات لتحقق الشركات أرباحاً. كما أنّه لا يمكننا الاستغناء عن إيراداتنا الأساسية في هذا الوقت، فاضطرّينا إلى الابقاء على الضرائب غير المباشرة من دون الزيادات، إنّما بتطبيقها».
بينما كانت جمعية «نحن» قد كشفت في تقرير لها عن ارتفاع مساحة الاعتداءات على الأملاك البحرية إلى أكثر من 6 ملايين متر مربّع في العامَين الأخيرَين، ممّا يمكن أن يرفد الخزينة بأكثر من 40 مليون دولار. أضاف جابر في ردّ على سلسلة الانتقادات التي لحقت بمشروع الموازنة لناحية وضع إيرادات الأملاك البحرية عند الرقم صفر: «عند موعد تقديم مشروع الموازنة إلى مجلس الوزراء لم يكن قد جُهِّز جدول إيرادات الأملاك البحرية لدى وزارة الأشغال العامة والنقل، فطلبتُ من الوزير تجهيزه لإلحاقه خلال مناقشات الحكومة بمشروع القانون. قدّرنا في البداية الإيرادات بحوالى 20 مليون دولار، لكن كما وردني من وزير الأشغال يبدو أنّ مبلغ الـ40 مليون دولار أو أكثر بقليل يكون هو الصحيح».
وكشف جابر لـ«الجمهورية» عن أنّ إيرادات إضافية ستُلحَق بالموازنة خلال جلسات الحكومة «ستكون من خلال رسوم حفلات كبار الفنانين الذين أحيَوا حفلاتهم في لبنان هذا الصيف، ولم تُدفَع رسومهم إلى وزراة المال أو البلديات حتى. بالإضافة إلى فرض دفع رسم الضريبة على القيمة المضافة (VAT) مقابل منع الاستيراد من قِبل المخالفين، وهذا ما باشرنا تطبيقه الأسبوع الماضي، وقد أمّن إيرادات ببضع ملايين خلال أيام».
إعفاءات ضريبية؟ لمَن؟ ولماذا؟
ما أن أُعلن عن إحالة مشروع الموازنة إلى الحكومة، حتى ضجّ خبر بند يُتيح لوزير المال حصراً إعطاء إعفاءات على الضرائب أو تخفيضها، ممّا يتعارض وصلاحياته وهي سلطة استنسابية. إلّا أنّ الوزير جابر أوضح لـ«الجمهورية»: «لسنا ننفّذ أي إعفاءات ضريبية ولا يوجد أي استنسابية، ما ورد في مشروع الموازنة هو حسم بحوالى 75% من الغرامة، أمّا الإعفاء أو الحسم فلا يمسّان بأي شكل من الأشكال بأساس الضريبة التي يُفترَض أن تُرفَد بها الخزينة العامة».
عن أسباب هذا النوع من الإعفاءات أو الحسومات على الغرامات، يُضيف جابر: «هناك الكثير من المكلّفين المتخلّفين عن الدفع بسبب الحرب الأخيرة والأزمة في السنوات الماضية، والآن هي فرصة محدودة زمنياً لهم، ربما لأشهر قليلة، من أجل أن يعودوا تحت سقف القانون، ممّا يحفّزهم في آنٍ على تجنّب تراكم الغرامات والمخالفات عليهم، ما يُشكّل بدوره عبئاً مالياً يُثقِل كاهلهم. وفي الوقت عينه، يحرم الدولة من إيرادات كان يجب أن تحصل عليها».
بكلام آخر، تأتي هذه الفرصة أمام المتخلّفين عن دفع الضرائب لتسوية أوضاعهم مع الدولة، قبل الانتهاء من الإصلاحات المفروضة وإعادة هيكلة الدولة والاقتصاد العام للبلد. كما سيؤمّن ذلك إيرادات إضافية للدولة، لتوسع من دورها وتُفعِّل مؤسساتها.
إيرادات العام 2025 بأكثر من مليار ونصف المليار دولار لماذا لا تُستخدم؟
على وقع ملاحظات خبراء اقتصاديِّين وماليِّين، بأنّ الدولة حققت فائضاً بإيراداتها هذا العام، لكن لم يلحظ مشروع الموازنة للعام المقبل أي استخدامات له، أوضح جابر بأنّ أموال الدولة المودعة لدى مصرف لبنان هي بالليرة اللبنانية، فتعويم السوق بهذه الأموال بالليرة اللبنانية أو عبر تحويلها إلى دولار، سيؤثر سلباً على سعر صرف العملة المحلية، ممّا يُفقدها قيمتها.
وأضاف وزير المال: «من أجل ألّا نلجأ إلى تعويم السوق بالعملة المحلية، لجأت إلى قروض استثمارية ميسّرة من البنك الدولي للكهرباء (محطات رقابة للتوزيع) والزراعة (200 مليون دولار) والمياه (257 مليون دولار لمياه بيروت الكبرى) وإعادة بناء البنى التحتية المدمّرة بالحرب، بمجموع إجمالي بلغ مليار دولار سيُضَخّ بالسوق، ممّا يُعزّز قيمة العملة المحلية».
موازنات مدفوعات تشغيلية ورواتب بلا استثمارات
من أبرز سمات مشروع موازنة 2026 تخصيص حوالى 3 مليارات دولار للرواتب والأجور، علماً أنّ أي تصحيح للأجور لم يُبتّ به بعد من قِبل حكومة مخوّلة إعادة هيكلة القطاع العام (المشروع المغيّب إلى حين بتّ مشاريع إصلاحية تُعتبَر أكثر إلحاحاً) وتصحيح الأوضاع المعيشية. وعلى وقع ذلك، سيستمرّ موظفو القطاع العام بتقاضي ما يُعرَف بـ «الزودات على المعاش أو المساعدات المالية» من دون أن تُلحَق بأساس الراتب، فيستفيدون منها تصحيحاً لتعويضات نهاية الخدمة التي تؤرقهم منذ سنوات، بعد ذوبان موارد الضمان الاجتماعي.
ومن الملاحظ في النصوص التشريعية المرافقة، حظر منح الإدارات العامة «درجات استثنائية» اعتباراً من تاريخ نفاذ القانون، بهدف توحيد سلاسل الرواتب وضمان المساواة. غير أنّ تفاصيل الموازنة تكشف عن زيادات كبيرة في فئات الرواتب والبدلات داخل العديد من الدوائر. فعلى سبيل المثال، شهدت رئاسة الجمهورية زيادة في بند «رواتب الموظفين الدائمين».
وحول موضوع رفع قيمة مستحقات المستشارين في الوزارات من 6 ملايين ليرة إلى 180 مليوناً (أي ما يعادل حوالى 2000 دولار أميركي)، واستياء أوساط في القطاع العام لاعتبارهم أنّهم من مستحقي الزيادات أيضاً، كان الوزير جابر قد أوضح يوم أمس لـ«الجمهورية»: «إنّ هذا المبلغ هو تصحيح لمستحقات المستشارين، وهو لا يعني أنّه لشخص واحد. ما فعلناه هو أنّ قيمة الأتعاب المدفوعة سابقاً على سعر صرف 1500 ليرة ضربناها على صرف اليوم (89,500 ليرة). لتوضيح الأمر بعض الوزراء يملكون 3 و4 مستشارين، لذلك يُقسّم المبلغ عليهم».
وبينما تلحظ الموازنة مدفوعات بخصوص الدَين العام من «فوائد على سندات خزينة خارجية»، إلّا أنّ أشكاله لا تزال معقّدة وغير واضحة إلى حدّ اللحظة بانتظار توضيح خطتها وجهتها في جلسات الحكومة ولجنة المال والموازنة توالياً.
كما تلحظ الموازنة زيادة بحوالى 340 مليون دولار لدعم المتقاعدين، عمّا كانت قد لحظته موازنة العام 2025، ممّا زاد من تحدّيات الإيرادات لديها، وتقليص النفقات الاستثمارية.
علماً أنّ بند مساهمات وزارة الشؤون الاجتماعية للجمعيات التي لا تبغى الربح، قد شهد تخفيضاً في مدفوعاته بحوالى 78 مليون دولار، لكنّ جزءاً من هذه المخصّصات حوّل إلى بند متعلّق ببرنامج «أمان»، وببند آخر يشمل العائلات المتضرّرة من الحرب، ممّا يُعزّز موقع الدولة على حساب الـ NGOs في الرعاية الاجتماعية، ويوصل المساعدات مباشرةً إلى الناس بدل عبورها في جمعيات ترعاها جهات سياسية، ويحدّ من التدخّل السياسي بحياة الناس.
أمّا في ما يتعلّق بالمشاريع الاستثمارية التي تحتاجها الدولة في مختلف قطاعات بنيتها التحتية، فلم تتجاوز النفقات الإستثمارية الـ 620 مليون دولار لصيانة طرقات وتوسيع أوتوستراد جونية، وبعض مشاريع تشغيل المياه والطاقة في مختلف المناطق، بالإضافة إلى مساهمة إجمالية لنفقات تشغيل محطات معالجة النفايات.
أمّا في ما يتعلّق بزيادة المدفوعات على الصيانة والمفروشات بحوالى الضعف عن موازنة 2025، فيؤكّد جابر أنّ هذه الأموال هي حصراً لإعادة ترميم وتجهيز العديد من الإدارات والمؤسسات العامة المهترئة مبانيها ومكاتبها.
أين إعادة الإعمار وتسليح الجيش؟
وقد صُوِّبت أصابع الاتهام إلى تخاذل الدولة في ملف إعادة إعمار ما هدّمته الحرب الإسرائيلية على لبنان، إذ اقتصرت مساهمة الحكومة على تخصيص مبلغ تجهيز حالي 500 وحدة سكنية.
بيد أنّ مصادر وزارية أكّدت لـ«الجمهورية»، أنّ «ملف إعادة الإعمار مرتبط بعوامل سياسية لتحديد توقيته، كما أنّه سيُنفَّذ من خارج الموازنة، لكن برقابة مالية عالية الدقة يجري دراسة آلياتها القانونية حالياً، تمهيداً لتأمين تمويلها عبر مؤتمرات الدعم التي وعدت بها الدول الصديقة للبنان. وذلك لأنّ الدولة غير قادرة على فرض ضرائب جديدة على الناس لتمويل عائدات لإعادة الإعمار بأكثر من 5 مليارات دولار بالحدّ، لسببَين أوّلهما أنّ الناس لا تحقّق اكتفاءً ذاتياً على المستوى المالي والاقتصادي، والغالبية العظمى من المكلّفين ليسوا من كبار المحققين للإيرادات والأرباح. فيما أنّ السبب الثاني، هو أنّ الحرب فُرِضَت على لبنان ولم تكن الدولة مَن قرّرتها، إنّما جُرَّ البلد إليها بسبب التدخّلات الخارجية. فكيف يمكن تحميل أبناء الداخل أثقال إعادة الإعمار من جيوبهم بعدما ساهموا بالإيواء؟ الأمر غير عادل».
كما أنّ مشروع الموازنة لم يلحظ أي بنود تؤمّن تمويلاً عالياً للاستثمار العسكري، بل تقتصر الأموال للصيانة برقم ضيّق، مقابل ميزانية عسكرية للرواتب والأجور والمساهمات الاجتماعية للعسكريِّين. لذلك، أكّد مصدر حكومي، أنّ «دعم إمكانات الجيش اللوجستية والمادية للعسكريِّين، سيكون بفضل مؤتمر دعم فرنسي قريباً، بالإضافة إلى دعم أميركي سنوي يُتوقّع ارتفاع قيمته المادية أو العينية بحسب متطلبات خطة الجيش لحصر السلاح بيَد الدولة، مع بعض الدعم من دولة أوروبية أخرى صديقة للبنان».