
“السّلاح” يطيح “تفاؤل” مصرف لبنان
تحلّ السياسة في البلدان غير المتطوّرة في موقع متقدِّم على الاقتصاد. تمسك بزمام القيادة وترسم معالم الطريق. يخضع الاقتصاد لمفاعيل القرار السياسيّ من دون أن يمتلك القدرة على الاعتراض.
لا يعاني لبنان من أزمة اقتصاديّة محضة، يعانيها المجتمع اللبناني من عسر وركود.
وهي نتيجة مباشرة للصراعات السياسية والحروب وسوء الإدارة والفساد.
منذ سنة 2019 هبط حجم الاقتصاد اللبناني من 53 مليار دولار إلى ما دون عشرين ملياراً، قبل أن يرتفع إلى حوالي 28 ملياراً نهاية العام الماضي، وفقاً لتقديرات مصرف لبنان. إذا راجعنا مسار الأوضاع الاقتصاديّة خلال هذه الفترة فسنجد أنّ تطوّر الاقتصاد كان، من جهة، انعكاساً مباشراً لفشل الدولة في معالجة الملفّات الاقتصادية الكبرى، ومن جهة أخرى بسبب تفرّد “الحزب” بخوض حرب شرسة مع عدوّ إسرائيلي متعطّش للقتل والتدمير.
يبدو أنّ مصرف لبنان يعود مع الحاكم الجديد إلى العادات القديمة. كان المصرف فيما مضى مصدراً معتمَداً للأرقام والإحصاءات الموثوقة عن الاقتصاد اللبناني، أسوة بالمصارف المركزيّة في العالم. مع تدهور الأوضاع الاقتصاديّة والنقديّة قبل عشر سنوات، أخذ مصرف لبنان يحجب عن المهتمّين الكثير من المعطيات لمنع الرأي العامّ من اكتشاف الهوّة السحيقة التي ينحدر إليها الوضع النقديّ والماليّ على وجه الخصوص.
لوحظ في الفترة الأخيرة أنّ مصرف لبنان عاد ينشر الأرقام والإحصاءات، فأصدر قبل أيّام تقريراً جديداً من نوعه عن الاقتصاد الكلّيّ في لبنان خلال النصف الأوّل من العام الجاري.
يوفّر التقرير أخباراً سارّة إلى اللبنانيّين مفادها أنّ اقتصاد لبنان تجاوز مرحلة الانكماش والهبوط وعاد إلى التعافي، ويتوقّع أن يحقّق نموّاً طفيفاً هذا العام بعد السنوات السابقة التي كانت نتائجها محبطة. وفقاً للتقرير، كان النموّ منعدماً سنة 2022، أي بحدود صفر في المئة، وارتفع ارتفاعاً طفيفاً في العام التالي فبلغ 0.5 في المئة سنة 2023، ثمّ انخفض انخفاضاً كبيراً سنة 2024 وسجّل انكماشاً بحدود 6.4 في المئة بسبب الحرب مع إسرائيل، والأضرار الكبيرة التي تسبّب بها العدوان الإسرائيليّ على صعيد السياحة وقطاعات الأعمال عموماً، إضافة إلى ما لحق بالأملاك والمنشآت العامّة والخاصّة والبنية التحتيّة.
منحى تفاؤليّ
في المنحى التفاؤليّ نفسه يشير التقرير إلى انخفاض معدّل التضخّم على أساس سنويّ من قرابة 42 في المئة في شهر حزيران من العام الماضي إلى 15 في المئة في الشهر نفسه من سنة 2025. يردّ هذا التحسّن إلى استقرار سعر الصرف وانضباط الماليّة العامّة اللذين ساهما في لجم تطوّر الكتلة النقدية. من جهة أخرى يُظهر تقرير مصرف لبنان أحد العوامل الرئيسة لتراجع النموّ، وهو “اضمحلال” الوساطة المصرفيّة، فيشير إلى تقلّص شبكات الفروع المصرفية بنحو 40 في المئة وانخفاض العمالة في القطاع إلى حدود النصف. بالتوازي انكمش حجم الميزانيّة الموحّدة للمصارف بنسبة 60 في المئة، فيما بلغ حجم التسليفات المصرفيّة للزبائن 5.5 مليارات دولار فقط.
يبقى أنّ السمة الأبرز للتقرير هي النفحة التفاؤليّة التي تضمّنها، إذ إنّ الرسالة الأساسيّة التي أراد إيصالها هي أنّ الاقتصاد اللبناني تجاوز مرحلة التراجع وبدأ استعادة أنفاسه منذ بداية العام الحالي، وبات قادراً على توليد النموّ. لكنّ ما يخفّف من قدرتنا على تصديق هذه البشارة هي الظروف السياسيّة في البلاد، بعدما تنصّل “الحزب” من أيّ موافقة على تسليم السلاح تطبيقاً لاتّفاق وقف إطلاق النار الذي وُقّع في تشرين الثاني من العام الماضي.
توتّر سياسيّ
على العكس من ذلك تميّز خطاب “الحزب” في الأيّام الأخيرة بارتفاع النبرة ضدّ تسليم السلاح: “لن نترك الساح ولن نتخلّى عن السلاح”. أطلق هذا الشعار بحضور الأمين العامّ لمجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، الذي تبدو زياراته للبنان في إطار سعي بلاده إلى شدّ عصب “الحزب” وتشجيعه على التمسّك بسلاحه إلى حين إنجاز مفاوضات إيران الممكنة مع الولايات المتّحدة والغرب.
كيف يمكن التفاؤل باستعادة الاقتصاد اللبناني مسيرة النموّ فيما لا يزال في قلب الصراع الإقليميّ والصعب بين إيران وإسرائيل؟
إنّ عدم قدرة لبنان على تنفيذ اتّفاق وقف إطلاق النار يقضي على الآمال بالحصول على التمويل العربي والغربي لإحياء الاقتصاد اللبناني، فيما الدولة عاجزة عن نيل التمويل بقدراتها الذاتيّة ومن دون دعم خارجيّ.