
لنا بشير
لنا بشير، ولهم من لهم من قديسين ومجاهدين وأساطير وقادة شهداء سقطوا على طريق القدس.
لنا بشير صورة مكبّرة لأحلامنا الصغيرة والكبيرة. لنا فيه قدوة وشجاعة رأي وقرار ومواجهة.
لم يخض حروبه، كقائد، من السراديب أو من الأقبية أو عبر الشاشات، بل كان بيننا ومعنا وأمامنا ومع ناسه من كل الطبقات الاجتماعية. يخاف علينا أكثر مما نخاف عليه. ومعه سابقنا الزمن اللبناني وعشناه ثريًا بالأحلام والنضال الفعلي.
لنا بشير الساكن في يومياتنا المعيوشة. لنا بشير في خلايانا الجذعية. لنا بشير في الصور المعلّقة على جدران الذاكرة.
لا يزال المشهد واضحًا في ذاكرتي كأنه حصل قبل شهرين، لا قبل 47 عامًا بعد ظهر الأول من تموز 1978 كنت أتسكّع في شوارع الأشرفية شبه الخالية، متقصدًا المرور تحت شرفة شابة لأحظى ربما بموعد أو بدعوة لتناول كوب شراب تحت إشراف والدتها. فوجئت بحاجز سوري طيّار على مسافة أمتار من “البنك اللبناني للتجارة” (لجهة الـ ABC) يوقف سيارة أميركية بيضاء ويطلب من سائقها الترجل لفتح الصندوق.
كأني سمعت السائق يقول: الصندوق مفتوح. فيصرّ العسكري على السائق أن يفتح بنفسه الصندوق. لم يكن السائق سوى بشير الجميل. ترجل بثياب سبور. كان جامد الملامح وواثقًا من نفسه. لحظات وصعد في السيارة خلفه جندي من الوحدات الخاصة. توجهت السيارة صوب برج رزق. لحظات وتواريتُ في مفرق مستشفى كرم. كنت لوحدي في الشارع. أو هكذا ظننت. ركضت إلى بيت “الكتائب” الأشرفية وكان خبر توقيف الـ “باش” قد سبقني إلى بيته الثاني وقبره.
لم تتأخر الحرب؛ حرب المئة يوم. كان بشير بيننا. لم يقد المواجهة مع جيش النظام السوري من ملجأ حريز بل متنقلًا بين المواقع المستحدثة متحديًا القصف العنيف وأذكر جيدًا أنه عمم على كل المقاتلين، وبينهم العديم الخبرة والمتمرّس وضع الخوذ على رؤوسهم للحد من الإصابات في الرأس. وكانت رؤوسنا حامية.
من منا لم يلتق “الباش” يتناول سندويش شاورما في مطعم صغير (افتتحه شقيق جورج فريحة) قرب زهرة الإحسان أو يركب دراجة في اليسوعية أو يحتضن والد شهيد؟ كنا نحبّه لأنه منا ولنا ولو من دون معرفة شخصية. قائد شجاع يتكلم لغتنا. لغة الصدق في كل زمان ومكان ولو كره الكارهون.
داومت لسنوات، كفتى غير كتائبي، على حضور لقاء الثلثاء في بيت “الكتائب” الأشرفية وسمعت مقاربات بشير لأحداث كان هو من الفاعلين فيها. ويوم 14 أيلول 1982، وقبل ثوانٍ من وقوع الجريمة، كنت واقفًا على المفرق المؤدي إلى “بيت الكتائب” بانتظار واحدة من بواسط عين الرمانة. ركضت. وقفت أمام الدمار. جزء مني لا يزال واقفًا هناك. وجزء تابع الحياة الناقصة.