
التغييريون غيَّروا تموضعهم: مات المشروع.. عاشت البراغماتية!
دخل نواب «التغيير» إلى البرلمان في العام 2022 على إيقاع موجة احتجاج حملت توقعات كبيرة بتبديل قواعد اللعبة السياسية في لبنان؛ لكن ما بدا منذ البداية عنواناً موحَّداً تراجع سريعاً إلى تجمع شخصيّات متباينة في توجهاتها استنادًا إلى خلفيات نقابية ومدنية ومهنية، من دون وضع أسس بنيوية تنظيمية أو استراتيجية وطنية طويلة الأمد. النتيجة ليست مجرد تباينات على صياغة البيان أو مواقع اللجان، بل إعادة تموضع بارزة: كل نائب اليوم يوازن بين مبدأ وواقع، بين رصيده الرمزي وحاجته للبقاء سياسيًا في سياق يهيمن عليه ضيق الموارد والعمليات الحزبية التقليدية.
الأسباب البنيوية للارتباك
هذا الانهيار النسبي للوحدة التغييرية لم ينشأ محض صدفة، بل هو نتيجة تراكم أسباب بنيوية وسياسية أدت إلى تآكل الزخم الأولي. أولها الطبيعة التركيبية للحضور: نواب جاءوا كردّ فعل شعبي على فشل النُخب القديمة، وليس كمشروع منظّم يقدم أجندة اقتصادية وسياسية متسقة. غياب آليات صنع قرار داخلية ونقص في أدوات التواصل الميداني أفقدهم القدرة على التظهير السياسي المنسق.
إلى جانب ذلك، فرضت الأزمات المتعاقبة ضغوطاً على مواقفهم. مطالب الإصلاح الاقتصادي، التفاوض مع المؤسسات الدولية، وإدارة تداعيات التوترات الأمنية جعلت الخيارات الثنائية (رفض/مواجهة) غير مجدية. أمّا العامل الأهم فكان الخلاف العميق حول كيفية التعامل مع حزب الله: فريق يرى أن لا إصلاح من دون مواجهة شاملة لدور الحزب وسلاحه، وفريق يعتقد أن الأولوية يجب أن تكون في المعالجة الاقتصادية والاجتماعية وتفادي التصادم المباشر.
أحداث ما بعد الانتخابات لم تُسهِم في توحيد الرؤية. انتخاب جوزاف عون وتكليف نواف سلام لرئاسة الحكومة ظَهَرا فرصةً للتوافق، إذ حقق اسماهما إجماعاً في صفوف النواب التغييريين. لكن هذا الاجماع بقي في إطار التماسك الظرفي الذي يمكن أن ينهار مع عودة الحسابات الفردية والاختلاف في الخيارات اللاحقة.
قبل ذلك، انكشفت محدودية دورهم حيال الفراغ الرئاسي الطويل، لا سيما أنهم انقسموا بين مرشحين توافقيين وأسماء رمزية. وانتهى بانتخاب قائد الجيش جوزاف عون مطلع 2025. وكذلك النقاشات الاقتصادية ـ من الكابيتال كونترول إلى الإصلاحات المالية ـ دفعت بعضهم إلى براغماتية مقبولة، فيما تمسّك آخرون بخطاب احتجاجي جامد.
الأنشطة والتمثيل المبعثر
نشاطات التغييريين الميدانية والبرلمانية أظهرت التناقضات ذاتها. قسم منهم ركّز على جولات مناطقية وملفات بيئية وخدماتية، محاولاً تعزيز صورة «النائب المحلي». آخرون كثّفوا لقاءاتهم مع سفراء ووفود دولية، ساعين إلى لعب دور في ملفات الإصلاح. وهناك من استثمر حضوره النقابي أو الجامعي للبقاء قريباً من المزاج الشبابي المدني. لكن غياب التنسيق جعل هذه الجهود تبدو فردية. لم تتراكم لتشكّل رصيداً سياسياً جماعياً، بل تحولت مبادرات شخصية سريعة التبخر في ظل قوة وصلابة المنظومة التقليدية.
الانتخابات البلدية في بيروت
امتحان بيروت البلدي الأخير كان بمثابة المرآة الصادمة. اللوائح المدنية، بعضها بدعم أو مشاركة نواب تغييريين، تنافست فيما بينها بدل أن تتوحّد، فجاءت النتيجة هزيلة. في المقابل، نجحت الأحزاب التقليدية في التوحد خلف لائحة شبه مكتملة. النتائج أظهرت أن القوى المدنية لم تتجاوز عتبة 7% مجتمعة، بينما سيطر التحالف التقليدي على معظم المقاعد. الرسالة من صناديق الاقتراع كانت حاسمة: الناخب الذي منح التغييريين تفويضاً في 2022 لم يجد نفسه في خطابهم المبعثر ولا في أدائهم التنظيمي، حتى في مدينة كانت يوماً مختبراً للتجارب المدنية كما حصل مع «بيروت مدينتي» في العام 2016.
هنا يوضح النائب إبراهيم منيمنة في حديث إلى “المدن” أنّ «الوقت لا يزال مبكراً للتحدث عن التموضعات والتحالفات الانتخابية»، وأنه لا يتصور أن تحالفات غير مألوفة كالتحالف مع الأحزاب التقليدية ممكنة، «ولكن هذا الأمر رهن بالوقت وتطور الأمور»، مضيفاً أنه يرى أن النواب التغييريين الذين نسجوا خلال السنوات الماضية علاقات سياسية مع أحزاب تقليدية، «طبيعي أن يتحالفوا معها في الانتخابات إذا حدث هذا التحالف». وبالنسبة إلى نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، يعتبر منيمنة أنّ «النتائج أظهرت تراجعاً للمجموعات المدنية وصعود الأحزاب التقليدية، ولكن محاولة تصويرها كانهيار للحالة التغييرية مبالغ جداً جداً فيه، خصوصاً في ظل عوامل عدة لعبت دورها، من الحملات الإعلامية المنظمة ضدنا، إلى تصاعد الخطاب الطائفي المتطرف الذي يطغى على المشهد السياسي العام». ومع ذلك، لا يمكن ـ برأيه ـ اختزال نتائج الانتخابات البلدية باعتبارها مؤشراً حاسماً على الاستحقاق النيابي، «فلكل انتخابات ظروفها المختلفة ومعادلاتها الخاصة». ويشدد على أن «أي تحالف انتخابي جديد يجب أن يبنى على وضوح كامل أمام الرأي العام»، فلا تتكرر تجربة التحالفات التي انهارت بعد الانتخابات الماضية بسبب تناقضات داخلية أو التباسات في المواقف، بل تكون المشتركات بين المتحالفين محددة بشكل صريح وشفاف «حتى لا يُفاجأ الناخبون بعد الانتخابات بمواقف متعارضة بين قوى كان يُفترض أنها تسير معاً في مشروع تغييري واحد». ومن هنا، فإن أي خطوة باتجاه تحالف جديد ينبغي أن تهدف إلى «تقديم رؤية متماسكة للحياة السياسية، لا أن تقتصر فقط على مواجهة القوى التقليدية»، فالاستحقاق النيابي المقبل يستدعي ـ كما يقول ـ «قدراً عالياً من الشفافية في الخيارات والوضوح في الخطاب».
ما بعد الصدمة: خيارات التموضع
بعد الانتخابات، انقسم التغييريون إلى ثلاثة مسارات واضحة. البعض بدأ بخطاب مراجعة، معترفاً بالأخطاء ومشدداً على ضرورة بناء أطر أكثر متانة. البعض الآخر اتجه نحو البراغماتية، باحثاً عن تقاطعات ظرفية مع قوى تقليدية. فيما اختار قسم ثالث التركيز على قاعدته المحلية والعمل في مبادرات ضيقة النطاق. لكن النائب ملحم خلف يرفض توصيف هذه المرحلة بأنها إعادة تموضع قائلاً لـ”المدن”: «برأيي لا، لا أرى ذلك حتى الآن. فالصورة لم تتبلور لديّ بعد، ولم نبدأ فعلياً بمثل هذه المقاربة. فقبل الحديث عن ذلك، هناك قاعدة أساسية يجب أن تُبنى، ونقاش يجب أن يحصل، ومقاربة تُعتمد. ومن هنا أرى أنّ الوقت لا يزال مبكراً جداً للخوض في هذا الأمر».
ويضيف خلف أن الأولوية عنده هي في الدفع باتجاه إجراء الانتخابات في موعدها، «ونطالب بأن تشمل أيضاً غير المقيمين، التزاماً بالاستحقاق الانتخابي»، محذراً من أن «هناك من يسعى إلى التمديد بحجج مختلفة، وهذا ما نسمعه بالفعل في الكواليس. وهنا مكمن الخطر الأساسي الذي لا يمكن أن نغضّ الطرف عنه». ويشدّد على أن «إجراء الانتخابات في مواعيدها يتوافق مع مبدأ أساسي من مبادئ الديمقراطية في الجمهورية اللبنانية، وهو مبدأ تداول السلطة، وضمان انتظام الحياة العامة». أما عن مشاركته في ذكرى استشهاد الرئيس بشير الجميّل ورفاقه التي نظمها حزب الكتائب في ساحة ساسين، فيوضح أنها «لا تحمل أي رسالة»، فهو نائب عن بيروت ويحضر الفعاليات والمناسبات التي يُدعى إليها، ويعتبر نفسه معنياً بأن يكون «جزءاً من أي نشاط يهدف إلى التلاقي وبناء الروابط»، لأن دوره الطبيعي في هذا البلد أن يكون «جسراً بين أبنائه». ويختم بالتشديد على أن «هذا بالنسبة لي أمر جوهري وأساسي: أن نعمل جميعاً على تكوين جسور تواصل متينة داخل الوطن، بدلاً من الانعزال أو التفرقة».
بذلك تلاشت فكرة «الكتلة التغييرية» عملياً. لم يعد هناك مشروع جامع، بل حسابات فردية متباينة. إعادة تموضع النواب التغييريين ليست محطة عابرة، بل مسار متدرّج فرضته طبيعة تحالفهم الهش، ضغوط الأزمات الاقتصادية والسياسية، والخلاف حول التعاطي مع حزب الله. وقد جاءت الانتخابات البلدية في بيروت لتؤكد أنّ الرصيد الشعبي تراجع، وأنّ عدم التنظيم والقدرة على التحالف جعلتهم عاجزين عن فرض أنفسهم كبديل.
المفترق اليوم واضح: إما إعادة تأسيس مشروع تغييري منظم يعيد بناء الثقة مع الناس، أو الانزلاق أكثر نحو الفردية والتحالفات الظرفية، حيث يذوب كل نائب في حساباته الخاصة.