
مهنة الصرافة: من “حَصْد الملايين” إلى ما يشبه “كاريتاس”
مرّت مهنة الصرافة في السنوات الأربع الأولى من الأزمة، بطفرة كبيرة. سمحت للصرافين بحصد الأرباح بملايين الليرات وآلاف الدولارات، مستفيدين من عوامل عدّة، على رأسها: الفوضى و”حمى المضاربات”. إلاّ أنّ السنتين الفائتتين نقلتا هذه المهنة من حقبة “حصد الملايين” إلى ما يشبه “كاريتاس” على حدّ وصف أحد الصرافين في العاصمة بيروت.
يقول أحد صرافي الفئة “ب” في بيروت، إنّ عوامل عدّة أدّت إلى “تراجع هذه المهنة، التي أمست أشبه بالشحادة الموصوفة”. وعن تلك العوامل، يشرح أنّ استقرار سعر الصرف الذي فرضه مصرف لبنان وفق الآلية المرسومة والمطبّقة منذ نحو سنتين، أدّى إلى “عودة مهنة الصرافة إلى ما كانت عليه قبل الأزمة”، واصفًا الأرباح المتأتية من تلك المهنة بأنّها لا تكاد تسدّ رمق العيش. ناهيك عن قرار دولرة الأسعار الذي طُبّق قبل قرابة سنتين ودفع بأغلب المواطنين اللبنانيين نحو “التخلّي عن استخدام الليرة اللبنانية في حياتهم اليومية لصالح الدولار الأميركي”، محولًا الليرة إلى عملة “الفراطة” فقط.
يقول الصراف الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، إنّ كل 100 دولار باتت تدخل ربحًا لا يزيد عن 100 ألف ليرة (أكثر من دولار واحد بقليل). وهذا إن كانت عملية تصريفها “بالمفرق”. أمّا “بالجملة”، أي في حال قرّر الصراف بيعها إلى صرافين آخرين أو إلى مصرف لبنان فالكمية سوف تكون أكبر بطبيعة الحال، لكن المفارقة أن الربح سوف يكون أقل بكثير، فيتقزّم لنحو 65 ألفًا فقط لكل 100 دولار.
يكشف الصراف إياه، أنّ المبلغ كلما كبر انخفضت نسبة الربح، وذلك “نتيجة المزاحمة بين الصرافين أنفسهم الذين أمسوا اليوم ينهشون بعضهم البعض”. كما يكشف أنّ الزبائن الذين يحملون مبالغ كبيرة لزوم الصرف بدافع دفع الضرائب أو لزوم التجارة (الاستيراد مثلاً)، باتوا يلجأون لأسلوب مختلف اليوم، بفضل دخول التواصل الاجتماعي في تفاصيل حياتنا اليوم. ويقول: “يعمد الزبون إلى البحث في محرك غوغل أو على أيّ منصة تواصل اجتماعي عن أرقام الصرافين… في أي منطقة لا فرق. يبدأون بالتواصل مع كل صراف بمخابرة من أجل الاستفسار عن سعر الصرف الأفضل. وبعد البحث والمقارنة يختار الزبون السعر الذي يناسبه، حتى لو كان الفرق 5 دولارات فقط”.
يضيف، هذه الطريقة تكشف أنّ المهنة لم تعد محصورة بـ “العامل الجغرافي” بمعنى أنّ الزبون لم يعد ملزماً بالصرافين المحيطين به (المنطقة المحيطة بمنزله أو مكان عمله) طالما أنّ الاتصالات قادرة على تزويده بأفضل سعر صرف. كل ما عليه بعد ذلك أن يستقل سيارته أو دراجته ليقصد الصراف ويقوم بعملية الصرف مستفيدًا من أي فرق حتى لو كان حفنة من الدولارات أو الليرات.
يتابع: “بذلك نكون قد خسرنا الزبائن لصالح السعر الأفضل. بهذه الحالة، يصبح الصراف صاحب الظروف الأقوى والأكثر قدرة على المناورة هو المؤهل لحصد أكبر عدد من الزبائن”، لكنّه يستدرك في القول: “هذا بديهي. من مصلحة الزبون أن يبحث عن أفضل سعر، لكن لو كان الهامش لدى الصرافين كلهم متقاربًا ومعقولًا لما حصل ذلك… هذا التنسيق بين الصرافين غير موجود حاليًا، ناهيك عن الفوضى المستشرية في القطاع وانتشار الصرافين غير الشرعيين والمتنقلين”.
صراف آخر يتحدث عن الحالة نفسها لـ “نداء الوطن” فيعطي مثالًا عن هذا الأسلوب الجديد المتبع من بعض الزبائن، ويقول: “كثير من الزبائن الأغراب (عابرو السبيل وليسوا زبائن المحل) يتصلون بي في بعض الأحيان لسؤالي عن سعر صرف اليورو مثلًا. يجرون اتصالين متتاليين في بعض المرات بسبب زحمة الأرقام والمخابرات التي يقومون بها، فينسون أنهم اتصلوا واستفسروا”، ثم يتابع “أردّ عليهم بالقول: من شوي حكيتوني وأعطيتكم السعر… فيعتذرون”.
“نداء الوطن” عاينت الوضع ميدانيًا، وأمضت وقتًا طويلًا لدى أحد مكاتب الصرافة في بيروت، للاطلاع على سلوك الزبائن، فكانت النتيجة كفيلة بنقل الصورة الدقيقة: أغلب الزبائن الذين يقصدون محال الصرافة، كانوا يدخلون مكتب الصرافة حاملين إما ورقة الـ 100 أو ورقة الـ 50 دولاراً، طالبين صرف 10 دولارات منها فقط، أو في أقصى الأحوال 20 دولارًا.
هذا السلوك يخلق للصرافين أزمة أخرى تتعلق بتأمين “الفكة” بالدولار. فكل 100 أو 50 دولارًا يُصرف منها هذا المبلغ الزهيد تعني أنّ الصراف مطالب بإعادة بقية المبلغ بالدولار الأميركي، وهي مشكلة إضافية تضاف إلى المشكلات الأخرى. في بعض الحالات كان الصراف نفسه يعتذر عن صرف 10 دولارات فقط بسبب عدم وجود تلك “الفكة” في درجه، فينصاع الزبون ويوافق على صرف 20 أو 30 دولارًا “حياءً”.
لدى سؤال الناس عن سبب عدم صرف الورقة كاملة، كان الجواب يأتي منهم أنّ الليرات اللبنانية “حَملة”، وهم يفضلون الهروب من زحمة الأوراق.
أمّا عن نسب زبائن الأرقام الصغيرة وتلك الكبيرة، فيقول صراف ثالث في بيروت أيضًا إنها شبه متوازنة (50 بـ 50 %) أي أنّ الزبائن الذين يصرفون مبالغ كبيرة هم تقريبًا بعدد زبائن “المفرق” نفسه، مما يعني أنّ “الواحد لا يعوّض الآخر”، لأنّ زيادة حجم العملية ينعكس سلبًا على حجم الربح.
يعود هذه الصراف بالذاكرة إلى مرحلة ما قبل الأزمة ويقول: “أيام الـ 1500 (أي قبل الأزمة يوم كان سعر صرف الدولار 1500 ليرة للدولار الواحد) كان هامش الربح لكل 1000 دولار هو نحو 2000 ليرة لبنانية فقط، أي قرابة 1.3 دولار. أمّا اليوم فالربح لكل 1000 دولار هو قرابة مليون (نحو 10 دولارات)”. ثم يستدرك بالقول “صحيح أنّ هامش الربح ارتفع نظريًا بنحو 10 أضعاف، لكنّ تضخّم الأسعار وتراجع قيمة الدولار نفسه، أكلا هذا الهامش”، مبرراً ذلك بالتأكيد على أنّ “قيمة الربح في الماضي كانت أقلّ لكنّ بركتها كانت أكبر من اليوم!”