بشير الجميّل ولبنان 2025: الفكرة التي لم تَمت

بشير الجميّل ولبنان 2025: الفكرة التي لم تَمت

الكاتب: الدكتور طوني بدر | المصدر: نداء الوطن
14 أيلول 2025

ثمّة لحظات في عمر الأوطان لا تُقاس بالوقت، بل بما تغيّره في المعنى. اغتيال بشير الجميّل لم يكن مجرّد اغتيال رجل، بل محاولة اغتيال لفكرة الدولة من جذورها. ففي مثل هذه الفترة من العام 1982، كان اللبنانيون يعيشون على وقع حدث غير مسبوق منذ اندلاع الحرب: انتخاب بشير الجميّل رئيسًا للجمهورية. لم يكن ذلك مجرّد استحقاق دستوري، بل إعلانًا نادرًا لإرادة وطنية قرّرت أن تمنح الدولة فرصة أخيرة وكانت لحظة تشبه المعجزة في بلد اعتاد المساومات والانهيارات.

لكن هذه اللحظة لم تدم طويلًا. ففي 14 أيلول، وبعد واحدٍ وعشرين يومًا فقط من انتخابه، اغتيل بشير الجميّل، لا لأنه رئيس، بل لأنه حمل مشروعًا ينهي الفوضى، ويمنع الهيمنة، ويكسر نظام الغلبة الذي اعتادت عليه الأطراف المتنازعة. اغتيل لأنه كان يعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها، بين الجيش والسيادة، وبين السلاح والمشروعية. أرادوا أن يطفئوا الفكرة قبل أن تبدأ، وأن يقطعوا الطريق على أي محاولة جديّة للخروج من جهنّم الحرب.

اليوم، ونحن نقف في 13 أيلول 2025، عشية الذكرى، لا نتوقف فقط عند مشهد الاغتيال، بل عند مفاعيله التي ظنّ كثيرون أنها اندثرت. أربعون عامًا مرّت، ولم تنجح كل محاولات طمس المشروع. لم تنجح، لأن لبنان، في لحظاته المفصلية، يُعيد توليد نفسه، ولو من الرماد.

منذ عام 2005، حاول اللبنانيون استعادة زمام المبادرة. اجتمعوا تحت راية 14 آذار، وهتفوا من أجل السيادة، وطالبوا بخروج الوصاية، وراهنوا على وحدة وطنية عابرة للطوائف. كان المشهد عظيمًا بقدر ما كان معقّدًا. نجح الحراك في فرض انسحاب الجيش السوري، لكنه فشل في حسم القضايا العميقة، وفي طليعتها قضية السلاح. بقيت الدولة في موقع الدفاع، وبقيت الشرعية رهينة الواقع المفروض، وبقيت التسويات عاجزة عن إنتاج تغيير حقيقي في ميزان القوى.

اليوم، بعد عقدين من التجربة والنجاحات والخيبات، تتبدّل المعادلات. لا لأن الظروف تغيّرت، بل لأن المقاربة باتت أوضح. اليوم يعود الخطاب السيادي إلى قلب المؤسسات: من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة، ومن البيانات الرسمية إلى التحالفات العابرة للطوائف. ثمة التقاء سياسي – وطني، إسلامي – مسيحي، لا يقوم على شعارات ظرفية، بل على إدراك مشترك بأن لا دولة دون قرار مركزي، ولا سيادة مع سلاح خارج الشرعية، ولا نهوض اقتصادي أو اجتماعي من دون حصر أدوات القوة في يد الدولة وحدها.

لم يكن هذا المسار سهلًا، ولا هو مضمون النتائج، لكنّ ما تحقّق حتى اليوم كافٍ لنقول إن مفاعيل انتخاب بشير بدأت تظهر من جديد، ولكن هذه المرة من داخل المؤسسات، لا من خارجها. لم يعد الدفاع عن الدولة محصورًا بطرف، ولا المطالبة بالسيادة حكرًا على جهة. باتت القضية وطنية بامتياز، تتبنّاها قوى سياسية وازنة، وتعكس إرادة شعبية تعبت من الابتزاز، ومن الفقر، ومن انتظار الحلول من الخارج.

ليست الدولة التي حلم بها بشير مجرّد إدارة أو علم على سطح القصر، بل فكرة أخلاقية قبل أن تكون هيكلًا سياسيًا. دولة تحتكر السلاح لأنها تحتكم إلى القانون، وتحمي جميع أبنائها من دون تمييز لأن لا أحد فيها أقوى من الدستور. في رؤيته، لم تكن السيادة وجهًا من وجوه الغلبة، بل شرطًا أول للعدالة، ولم تكن الـ10452 كيلومترًا مربعًا مجرد مساحة، بل التزامًا بوحدة المصير واحترام التعدد ضمن حدود غير قابلة للابتزاز. دولة بجيش واحد، بقرار مركزي واحد، لا تساوي بين الضحية والجلاد، ولا تُجزّئ الأمن على قاعدة الولاءات. دولة تحترم التعددية لا بتفكيك نفسها، بل بلَامركزية عادلة تعيد السلطة إلى الناس، وتحفظ وجه لبنان المتنوّع تحت مظلّة واحدة. تلك هي الدولة التي أرادها بشير، والتي نقترب منها كلّما اخترنا السيادة على التبعية، والمؤسسات على المحاور، والشراكة على الاستقواء.

الردّ الحقيقي على اغتيال بشير الجميّل لا يكون بتخليد الذكرى فحسب، بل بتفعيل مفاعيل الاختيار. الردّ ليس عاطفيًا، بل سياسي وهادئ. في ترجمة رؤيته إلى قرارات سيادية. في استعادة الجيش لدوره كضامن وحيد لأمن اللبنانيين. في إعادة التمسّك بفكرة الدولة التي لا تساوم على سيادتها، ولا تستجدي حمايتها، بل تبنيها بثقة وعدالة ومؤسسات.

في 14 أيلول 1982، اغتالوا رئيس الجمهورية المنتخب لإلغاء الدولة. واليوم، عشية 14 أيلول 2025، نقول من موقع مختلف: مشروع الدولة لم يمت. بل يعود إلى الحياة، في زمن بالغ الصعوبة، لكنه أوضح في الخيارات. من اغتالوا بشير ربحوا جولة، لكنهم خسروا الحرب الطويلة. فلبنان الذي آمن يومًا بخيار الدولة، لم يتخلَّ عن الحلم، بل أعاد بناءه، ببطء، وبوجع، وبحكمة.

وبين بشير الذي انتُخب ليعيد الدولة، واللبنانيين الذين يكمّلون اليوم هذا المسار، جسد اغتيل… لكن فكرة نهضت من جديد.