خاص- قتلوه بالجسد… فبقي مشروع الدولة يطاردهم

خاص- قتلوه بالجسد… فبقي مشروع الدولة يطاردهم

الكاتب: اسعد نمّور | المصدر: Beirut24
14 أيلول 2025

في الساعة الرابعة وعشر دقائق من بعد ظهر الثلاثاء ١٤ أيلول ١٩٨٢، دوّى انفجار هائل في مبنى بيت الكتائب بالأشرفية. دقائق معدودة كانت كافية ليتحوّل الاجتماع الحزبي إلى ركام. الغبار الذي ارتفع فوق سماء بيروت الشرقية في ذلك المساء لم يكن مجرّد سحابة، بل كان غيمةً ثقيلة خنقت حلمًا وطنيًا بكامله. الرئيس المنتخب، قائد “القوات اللبنانية” الشيخ بشير الجميّل، استشهد قبل أن يتسلّم مقاليد الحكم، تاركًا وراءه سؤالاً يلاحق لبنان منذ ذلك اليوم:

هل اغتيل بشير وحده، أم اغتيل مشروع الدولة؟

في الطابق الأول من المبنى العتيق، كان بشير يعقد اجتماعًا تنظيمياً مع قياديي حزب الكتائب. وفي الخارج، شارع مكتظ بالمارة، لا يختلف عن أي نهار صيفي في الأشرفية. لكن عبوة ناسفة قُدِّرت بأكثر من ٤٠ كيلوغرامًا من المتفجرات زرعت في الطابق السفلي، كانت كفيلة بطيّ صفحة من التاريخ.

تردّد صوت الانفجار كصاعقة شقت سماء بيروت: زجاج متناثر، جثث تحت الركام، وصراخ ممزوج بدخان وبارود. في دقائق، انتهت حياة رجلٍ لم يمضِ على انتخابه أكثر من ٢١ يومًا.

وُلد بشير الجميّل عام ١٩٤٧، في بيت سياسي عريق، لكنه صنع لنفسه مسارًا خاصًا. درس الحقوق، قاد المقاومة اللبنانية خلال أحلك سنوات الحرب الأهلية، وصاغ خطابًا يزاوج بين الصلابة العسكرية والرؤية الوطنية.

في خطاباته كان يقول: لا لبنان بلا ١٠٤٥٢ كيلومترًا مربّعًا، ولا دولة بلا جيش واحد وسلاح واحد. كان يرى أنّ الدولة القوية وحدها القادرة على حماية جميع أبنائها من دون تمييز طائفي. هذا المشروع لم يرقَ لكثيرين؛ فالسلاح غير الشرعي كان لغة الحرب، ومشروع بشير كان إعلان قطيعة مع زمن الميليشيات.

منذ لحظة الاغتيال بدا وكأن لبنان عالق في مدار دائم من الشلل والانتظار. سيادته مخنوقة، فالسلاح بقي خارج إطار الدولة، اليوم في يد حزب الله كما كان بالأمس موزّعًا بين ميليشيات متفرقة.

أما الدولة فمعلّقة، إذ أوقف اتفاق الطائف عام ١٩٨٩ الحرب الأهلية من دون أن يحقق الحلم الذي بشّر به بشير الجميّل.

وعلى الصعيد الاقتصادي، انتقل لبنان من ازدهار بيروت في ثمانينيات القرن الماضي إلى انهيار عملته خلال العقد الأخير، ليتراجع من مرتبة “سويسرا الشرق” إلى دولة على حافة الإفلاس. الصورة الراهنة أكثر قتامة: انهيار مالي غير مسبوق، نزيف هجرة شبابية، قضاء محاصر بالضغوط، وطبقة سياسية تحكم بعقلية الغنيمة.

يشبه لبنان اليوم سفينة مثقوبة؛ مهما حاولت الإبحار، يتسرّب الماء من كل جانب فيما ركابها يتنازعون على شكل الأشرعة. تبدو الدولة بلا ظل، مؤسساتها قائمة على الورق، لكنها تتبخر عند أول اختبار أمام سلاح الأمر الواقع وتهديداته بحرب أهلية ٢. أما الشعب فيعيش على حافة الذاكرة، أجيال كاملة وُلدت بعد اغتيال بشير لكنها ما زالت أسيرة ذلك اليوم، كأن الزمن توقّف عند الرابعة وعشر دقائق من بعد ظهر الرابع عشر من أيلول.

على الرغم من مرور ٤٣ عامًا، يبقى اسم بشير الجميّل حاضرًا في قداديس الشهداء، في الساحات، وفي كل نقاش حول حصرية السلاح. حتى خصومه السياسيون يعترفون بأن مشروع الدولة الذي طرحه بات اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فبينما تغيّرت الوجوه، بقي جوهر المأساة نفسه: لبنان عاجز عن أن يكون دولة بكل ما للكلمة من معنى.

اغتيال بشير الجميّل لم يكن مجرّد لحظة دموية في حربٍ طويلة؛ كان جرس إنذار لوطنٍ يرفض أن يتعلّم. اليوم، بعد أكثر من أربعة عقود، ما زال صدى ذلك الانفجار يدوّي في فراغ السياسة، كأن القاتل يهمس من جديد:

إمّا أن تصنعوا دولة حقيقية، أو سيبقى لبنان في دائرة الاغتيال الأبدي”.

هذه الذكرى ليست قداسًا فقط، بل مرآة تكشف أنّ الحلم الذي استُشهد لأجله بشير لم يُنجز بعد. لبنان ما زال يفتّش عن نفسه، فيما ظلّ بشير حاضرًا كحقيقة مؤلمة: يمكن اغتيال الجسد، لكن فكرة الدولة لا تُقتل.